دعوة لتعزيز الروابط الإنسانية في العصر الرقمي
لماذا نحن وحيدون رغم كثرة الـ"فرندز"؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
هل تعرفون أن هناك يوماً دولياً للصداقة؟ طرحتُ هذا السؤال على عدد من الصفحات الإلكترونية الموجّهة لأشخاص من جنسيات مختلفة عما قد تكون عليه صور الاحتفال، فلم أتلقّ إلا ردّاً واحداً؛ سألني ماذا أقصد بذلك؟ وكأنني استفسرت عن أمر غير مألوف.
في الواقع، أعلنت الأمم المتحدة يوم 30 يوليو/ تموز يوماً دولياً للصداقة، اعتباراً من العام 2011 "بهدف إدراك جدوى الصداقة وأهميتها بوصفها إحدى المشاعر النبيلة والقيمة في حياة البشر في جميع أنحاء العالم"، وحثتنا على إحيائه.
ولكن ماذا يعني الاحتفال بالصداقة في زمننا الحالي؟ ربما لا ينتبه الناس إلى أن عدد "الأصدقاء الافتراضيين" أصبح أكثر من أولئك الذين يتواصلون معهم في الواقع، بعدما أصبحت حياتنا مرتبطة بتطبيقات الهواتف الذكية، أو هو ربما يبصرون الأمر ويتجاهله في قرارة أنفهسم.
فهل نحن وحيدون رغم كثرة الـ"فرندز"؟
أعلنت "منظمة الصحة العالمية" قبل عدة أشهر، فإن الشعور بالوحدة أضحى مصدرَ "قلق عالمي" على الصحة العامة مؤكدة تشكيل لجنة مختصة للبحث.
وأظهر استطلاع لمؤسسة "ميتا غالوب" في أكثر من 140 دولة، أن واحداً من كل أربعة أشخاص في جميع أنحاء العالم - زهاء ربع سكان الهالم - يعانون من الوحدة. وبحسب الدراسات التي تجريها مؤسسة "يوغوف" البريطانية فإن جيل الألفية أو جيل وسائل التواصل الاجتماعي الأكثر عزلة.
كيف يمكن للأصدقاء أن يؤثروا على الصحة وطول العمر؟
الصداقة تبني الجسور بين المجتمعات
في واقع الأمر فإن الوحدة قد تكون من القضايا التي لا يكون التعامل معها بسيطا مع ضرورة تعقبها ديمغرافيا وجغرافيا ومسح عواملها ميدانيا وقياس معالمها ودرجات خطورتها والفئات والشعوب الأكثر تضررا. مع ذلك تجتهد مراكز الأبحاث النفسية والاجتماعية في توفير بيانات جمعيها تقديرية تخضع باستمرار للمراجعة. فيما يلي بعض الإحصائيات اللافتة التي صدرت في الآونة الماضية عن تفاقم شعور الوحدة في عينة متنوعة من البلدان:
لكن ما الأسباب التي تؤدي لذلك القدر من العزلة الاجتماعية العالمية في عصرنا الرقمي الذي أتاح جملة من أساليب التواصل لم تتح للبشرية من قبل. ربما يعد ذلك من مفارقات تلك الحداثة، فأين يكمُن الإشكال؟
في قديم الأزمان، كان علينا إذا رغبنا بالتواصل مع أشخاص بعيدين إما إرسال رسول - شخص لديه حصان سريع وذاكرة جيدة - أو استخدام الحمام الزاجل لتوصيل رسالة بسيطة مكتوبة. كانت تلك إحدى الأشكال الأولى لربط الناس ببعضهم. ربما لا تُعتَبر طريقة مثلى لتكوين صداقات عميقة، لكنها بالتأكيد ساعدت في التواصل اللطيف. حالياً، بتنا نستخدم أدوات مختلفة فورية لإيصال الرسائل. لكن المبدأ متشابه: ليس عليك أن ترى الشخص الآخر وجهاً لوجه لتكوين صداقة معه، والفرق أننا أصبحنا نتوقع المزيد من استخدامات التكنولوجيا وأقلّ من بعضنا البعض.
بحسب رضوى محمد، فإن الاعتناء بالصداقات "نوعٌ من الكفاح للإنسان العصري وسط صخب حياته، فما بالك في مكان لا تستطيع صديقاتك التواجد فيه". انتقلت رضوى من القاهرة إلى لندن بغرض العمل قبل خمس سنوات. وهي تبقي التواصل مع صديقتيها وهما "عشرة عمر" قائماً في العالم الافتراضي، " حرصا على عدم فقدان الاتصال بـ "الصداقات الراسخة" بالرغم من انشغالها ومشاوير الحياة التي أخذت كل واحدة إلى حال مختلفة.
تجوب رضوى في الوقت نفسه منصات التواصل الاجتماعي على أمل تكوين "صداقات مقربة" في المدينة الجديدة، قد تتشارك معها الهوايات ذاتها، مثل رياضة المشي في الطبيعة (الهايكنغ) أو السفر موضحة " هناك إقبال على سائر الحلول التقنية والمنتديات وروبوتات الدردشة للتغلب على الوحدة".
"هناك تجد أحاديث لا تنضب وتدور في كلّ الاتجاهات ،وهي مؤنسة " على حد تعبيرها. برغم ذلك فإن كل ما تريده من "ذلك الملتقى الكبير والحشود الحاضرة في رحابه" هو التعرف إلى رفاق يمكن الالتقاء بهم لكنها تصف المهمة بـ "التنقيب عن المعادن الثمينة". وقالت لبي بي سي " رغم متغيرات كثيرة ، أبحث عن صداقات لن تكتمل في ظني إلا بتلاقٍ سليم وتقاسم الاهتمامات وتكوين ذكريات مفيدة" وأكملت "أرواحنا ستتوق إلى الألفة ولأن تمتد تلك العلاقات وأن لا تنتهي باستمرار عند ذلك الاختلاط الإلكتروني".
الاستغناء السهلعلى إحدى صفحات فيسبوك المخصصة للتعارف على أصدقاء جدد في لندن، يكتب المشاركون عن أسباب تراجع الصداقات الواقعية ويذكرون من وجهة نظرهم: العمل، المسؤوليات العائلية، اختلاف الاهتمامات، الانتقال إلى مجتمع جديد، وحتى ظروف الطقس التي قد تجبر سكان بعض الأماكن على الانسحاب من الحياة الاجتماعية.
تسأل الخبيرة النفسية الأمريكية جينيفر غيرلاتش، "هل أصبح عمر صداقاتنا أقصر؟"، في مقال نشرته على موقع "سايكولوجي توداي" المتخصّص. برأيها فإنّ سهولة الوصول إلى الآخرين بفضل التكنولوجيا، تجعلنا نميل للاستغناء بسهولة عنهم أيضاً، ما أدى إلى تآكل العلاقات.
وتحذّر غيرلاتش من أننا صرنا أكثر نبذاً للغير إذا وقع خلاف في الرأي أو إذا أخبرنا أحدهم بأشياء لا نريد سماعها.
برأيها، بتنا نحمل أداة لتدقيق وفحص ملفات الأصدقاء الشخصية، وإدراج من نريد في خانة "الشخص السام"، ما يقوّض مهارات الحوار. لقد صرنا أقلّ تسامحاً وتقبلاً للآخر بحسب رأيها، "لأن وسائل التواصل الاجتماعي أعطت انطباعاً بأن تحييد أو تجاهل شخص ما، حين لا يرضيك ما يقوله، والبحث عن غيره هو أمر ممكن وسهل".
ترى غيرلاتش أن العلاقات الشخصية كانت ستصمد لوقت أطول لولا وسائل التواصل الإلكتروني. وتقول إننا بمرور الوقت لم نعد نلتقي كثيراً بالإضافة لظروف العمل عن بعد، وصرنا "مجرد رموز رقمية" على صفحات بعضنا البعض.
وسائل التواصل الرقمية مريحة وسهلة لنسج علاقات كثيرة، لكنها على الجانب الآخر تسبب نوعاً من الحرمان الاجتماعي. تجعل كثرة التواصل الافتراضي علاقة الصداقة تبدو أقل تطلّباً، وتدفعنا لمنطقة من الاسترخاء بما يتناسب وإيقاع الحياة السريع، لكنها تقلل من فرص بناء روابط شخصية متينة وآمنة مهمّة لصحتنا النفسية والعقلية.
تقول الاستشارية النفسية والاجتماعية عصمت حوسو من الأردن: "لقد وجدنا متعة الرفقة دون متطلبات الصداقة". وتتابع: "غيرت وسائل التواصل الاجتماعي التفاعلات البشرية وتستمد جاذبيتها من حقيقة أنها تأتي بدون تحديات ومتطلبات".
برأيها "ساعدتنا منصات التواصل على بناء شبكات وعلاقات عبر الإنترنت، كما ساعدتنا على التفكير أمام الآخرين بصوتٍ عالٍ، وهي صيغة جيدة لإبقاء الأشخاص أمام شاشاتهم، إلا أنها تحد من الانخراط في معترك الحياة.
وتضيف أن منصات التواصل "منخفضة الحميمية، وطبيعة الإنسان تحتاج لعلاقات مفعمة بالحميمية".
القضية نسبية بالطبع، فبعضنا يسعدُ بوجود ثلاثةِ أو أربعةِ أصدقاء، فيما يحتاج آخرون إلى توسيع دائرة صداقاتهم للشعور بالاكتفاء.
يقول الكاتب الأمريكي هنري آدمز: "إذا كان لك صديق واحد فأنت محظوظ، وإذا كان لك صديقان فأنت أوفر حظاً، فإن كان لك ثلاثة فذلك مستحيل"، وكان ذلك في القرن التاسع عشر.
هل تعلم أنه صار هناك مقياس لعدد الأصدقاء المثالي وضعه روبن دنبار، عالم الأنثروبولوجيا وعلم النفس التطوري في جامعة أكسفورد البريطانية، عام 1993، أي قبل ظهور مواقع التواصل.
وبحسب "رقم دنبار"، لا يمكن للإنسان أن يحتفظ بأكثر من 150 علاقة ذات مغزى في الوقت الواحد. ورغم التشكيك بصحة هذا العدد بعد ظهور مواقع التواصل، إلا أنه من البديهي مثلاً إن قال لك أحدهم إن لديه مئات "الأصدقاء المقربين"، فلن تصدقه. فأنت لن تصبح صديقاً لكل من تلتقي به وإن ترك انطباعاً إيجابياً لديك.
لا يبدو للدكتورة حوسو أن عدد الأصدقاء هو ما يؤثر على فرص أن نصبح أفراداً سعداء وأصحاء، بل قدرتنا على تحقيق المعادلة السحرية بين السياقين الحقيقي والافتراضي، وتنمية صداقات مخلصة في الوقت نفسه.
وتقول: "نحتاج للدعم الوجداني لاجتياز الأوقات الصعبة، والعلاقات العميقة الحقيقية تبدو حتى الآن الأكثر كفاءة على مساعدتنا في ذلك".
وتضيف: "الصداقة بمثابة ملح الحياة واختزالها إلى تفاعلات عبر مواقع التواصل بدون لغة جسدية ليس الوضع الأمثل. فالنبات لا ينبت إلا حينما يُسقى بالماء، كذلك الاعتناء بالصداقة. إنه ليس بالأمر السهل، لكن يتعين أن نستثمر في التواصل البشرية غير الاصطناعي، لأنه مفيدة لنا بقدر التمارين الرياضية والحميات الغذائية الصحيّة".
خمس نصائح تساعد في بناء علاقات أفضل مع الآخرينهل توجد صداقة بين رجل وامرأة بلا انجذاب جنسي؟خمس خرافات حول الشعور بالوحدة هل صديقك الافتراضي حقيقي؟وتشير المراجع إلى أن فكرة إحياء يوم للصداقة - ومحاولات فعليّة للقيام بذلك - كانت موجودة منذ سنوات بعيدة، لكن لم يكتب لها النجاح؛ فقبل حوالي مئة عام، حاولت العلامة التجارية الأمريكية "هولمارك" - المتخصصة في بطاقات المعايدة - تشجيع الأشخاص على الاحتفال بذلك النوع من التكافل المسمّى "صداقة" من خلال إرسال بطاقات لبعضهم البعض، وكان ذلك في عام 1919، ولكن بسبب عدم تجاوب السوق أسدل الستار على الفكرة نهائيا بحلول عام 1940.
ويمر الوقت دون نموّ احتفالات الصداقة من حولنا؛ فالعالم لا يحتفل بالصداقة على غرار الاحتفال بيومي عيد الحب وعيد الهالوين مثلاً، كما لم يحظ يوم للصداقة بنفس شعبية يومي الأم والأب، بالرغم من ملاءمته لكثير من العادات والتقاليد.
ومن ضمن نصائح كيفيّة الاحتفال باليوم، هناك مقترحات كثيرة بمشاركة أقوال أو صور عن الصداقة، وتحديث الحالة على الحسابات الإلكترونية، والتفاعل مع منشورات الأصدقاء، وإرسال رسالة خاصة إلى صديق - لكنها أيضا تنصح ببذل قصارى الجهد لطهي وجبة لطيفة ودعوة المقربين أو إرسال هدية بسيطة لصديق حميم لم يعد يعيش قريبا، أو الذهاب إلى فعالية محلية وبذل جهد للتحدث إلى أشخاص جدد أو فعل أشياء ترسم البسمة على الوجوه. كما توجّه نصائح بمقابلة من يعانون من صعوبات التعلم، فعادة ما تكون شبكاتهم الاجتماعية أصغر.
ودائما ما يذكّر الخبراء أن ذلك الرصيد من "الفرندز" لا يعني بالضرورة إحساسا أعمق أو راحة بال مضمونة، ويشددون على ضرورة الاعتناء بالصداقات وعدم استسهال مواقع التواصل، بصفتنا "حيوانات اجتماعية"، كما ورد في أحد أقوال الفيلسوف أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد.
وبكل تأكيد فإن مرحلة ما بعد التواصل الإلكتروني ليست كما قبلها، والسؤال الحقيقي يكمن في قدرتك على ترتيب أولويات الحياة ومدى أهمية علاقات الصداقة بالنسبة لك، ورغبتك في تهيئة الظروف لعدم خسارتها، وإمكانية أن تظل قوية إذا كانت متصلة بالإنترنت فقط. ماذا تعتقد؟