لقاء إيلاف

سليمان: نحن العرب لا مدن لنا كي نكتب عنها رواية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

حوار مع الأديب حسين سليمان

سلوى اللوباني من القاهرة: الروائي والقاص السوري "حسين سليمان"، تخرج من جامعة حلب قسم الهندسة الالكترونية، عمل كمعيد لمادة الرياضيات ومادة الحقول الكهرطيسية، يكتب الرواية والقصة والنقد الادبي، مقيم في الولايات الامريكية المتحدة، من أعماله، رواية "صدى الزور البعيد"، التي أشرف على قرائتها الروائي الراحل د. عبد الرحمن منيف، ورواية "غابة ظليلة لحصان أبيض"، بالاضافة الى نشر العديد من المقالات النقدية، والنصوص القصصية في عدة صحف عربية، وصدر له حديثاً رواية "ينزلون من الرحبة".

* ما مدى الترابط بين دراستك العلمية وكتاباتك؟
- الترابط بين العلم والأدب يجب أن يقوم على التوازن، الذي يأتي من حقن الأول بالآخر، وهو ترابط كلي، فالإنسان هو من روح ومادة، هو من علم وأدب.

* وكيف بدأت الكتابة الأدبية؟
- سأطوي كلمة "كيف" في كلمة لماذا، كي يصبح السؤال لماذا-كيف بدأت، بدايتي مع الكتابة الأدبية كانت "انحرافاً" عن الاهتمام الفلسفي الرياضي الذي شغلني لمدة طويلة، حيث كنت أربط التقنية والعلوم الهندسية في صياغة كلية، تتكامل مع بنية المفهوم العام الذي حملته عن العالم، هذا الانحراف أخذ وقتاً، وحفر مجاريه كأخاديد حتى صار ضرورة رئيسية، لم أقبل في البداية الدخول إلى عالم الأدب، وخاصة الرواية أو القصة، حتى أنني كنت أسخر من الذين يضيعون وقتهم بقراءة الروايات.

* ولماذا كنت تسخر منهم؟
- لأن فهم العالم وتراكيبه كانا المادة الثرية التي أغوص في ثراها، كنت في تلك الأثناء في شهوة البحث والتعرف إلى العالم الخارجي، فيزياء عالم الصغائر، السماء والشمس، الرياضيات ومعادلاتها التي تلهب الخيال، وتجعل المرء يحلق في عوالم صافية بكر، لكن قد كان لهذا الطريق نهاية لسبب بسيط، وهو أن ما كنت أحلم في تحقيقه لم يكن ثمة سبيل له، كان لدي حلم ومات، إلا أن إشعاعه الحاضر وطاقته التي تكبر ولا أدري كيف أبددها، جعلاني أمر بمرحلة عجز روحي وخراب، فالطاقة التي لا تخرج بشكل صحي تدمر، في تلك الفترة تعرفت بشكل معمق على أعمال "كارل جوستاف يونج"، ولأنني في ضيق وضياع، طفقت في تحليل الأحلام بشكل يومي، حتى اهتديت إلى طريق الأدب، وجاءت الكتابة كحاجة وجودية، أخذت تلاحقني بين الحين والآخر، من دون أن أصغي لندائها كلياً، حتى وصل الأمر إلى ضرورة حياة.

* بمن تأثرت من حيث الاسلوب الروائي؟
- في أيام الدراسة الإعدادية كنت أقرأ لنجيب محفوظ ولجبران ولهيغو الخ، أعمال نجيب لم تدق أجراسها في نفسي، كما كانت أعمال محمد عبد الحليم عبد الله مثلا، وتلك الفترة كونت فكرة عن مستوى الرواية العربية الضعيف مقارنة مع الرواية الغربية، لهذا كان جل قراءاتي لروائيين غربيين، قبل دخولي عالم الأدب كانت تقع بين يدي رواية عربية حكت عنها الصحافة والنقاد، فأقرأها ثم ألقيها جانبا قائلا في نفسي، لم تبلغ الرواية العربية المستوى الصحي الإبداعي الذي يرضيني كقارئ، ثم حدث أن قرأت "موسم الهجرة"، ثم بعد سنوات قليلة وقعت بين يدي "التيه" فصدمني المستوى الفني، حين قرأت التيه بالذات، آمنت أن الرواية العربية بدأت تمشي في طريقها الصحيح، إنها رواية عالمية (بنظري)، ليست رواية مدن، حيث نحن العرب لا مدن لنا كي نكتب عنها رواية، المدن لدينا هي ازدحام فقط، وفي أعماقنا البداوة والبراري وهي ما تعكس طبيعتنا، ورواية مدن الملح "التيه" هي التي دفعتني من دون أن أدري إلى الكتابة، فنجاح هذه الرواية فنيا هو إشارة إلى أن الروح العربية بدأت تستوعب هذا النمط من الفن، وقد وضعت حدودها كي تبقى خارج مفهوم المدينة.

* وبعد دخولك ميدان الأدب؟
- في بداية دخولي ميدان الأدب، وبعد التخرج في جامعة حلب بسنوات، تأثرت أو توافقت كثيراً مع أسلوبيّ "وليم فوكنر" و"خوان رولفو"، هذان الروائيان منحاني الثقة في هجر الطرق الكلاسيكية، دوما كنت أتساءل حول القيمة التي سأحصل عليها من خلال قراءة عمل كلاسيكي، بالطبع هناك أعمال كلاسيكية خالدة (مدام بوفاري، الأب العظيم...)، لكن هذه الأعمال لم تكن لتشبع أو بكلام آخر لم تكن لتسكن مدة طويلة، فبعد نهاية القراءة كان وهيج العمل يضعف ويخبو، وتبقى ذكريات خارجية جميلة، طبيعة صامتة، كما لو أنكِ مررتِ يوماً ما بمشهد لواد جميل، وتتذكرينه كلما سنحت الفرصة، هذه الذكرى لم تسكن أو أن تنمو في الداخل، بالمقابل كانت المشاهد الرمزية والإسقاطات عند فوكنر ورولفو تهب وتغزو من آن إلى آخر، كي تقول في كل مرة شيئا مختلفاً، نوع الكتابة هذا ينشط العقل والنفس في آن واحد ويزرع فيهما بذورا ديناميكية.

* وتأثرك فكرياً وثقافياً؟
- معظم قراءاتي كانت في فلسفة العلوم، لقد تأثرت قليلا ب "هنري برجسون"، ثم بطريقة تفكير "جون ديوي" في كتابه "نظرية البحث"، والذي ترجمه إلى العربية العلامة "زكي نجيب محمود"، لكن التأثير المباشر الصاعق كان في تعرفي على "إزفولد إشنجلر"، في الواقع لم أتأثر به بقدر ما قرأت نفسي في كتابه التأملي المهم "سقوط الحضارة الغربية"، ولقد تفهمت الرموز وطرائق القراءة على يد ابن عربي وكارل جوستاف يونج، إشنجلر وابن عربي ويونج أعدهم كائناً واحداً عاش في أزمنة وأمكنة مختلفة.

* وما هي الرواية العربية التي أثارت اهتمامك مؤخراً؟
- في المهجر الأمريكي هناك صعوبة في تأمين الكتب العربية من الداخل، فالكتب تأتيني عن طريق موقع "النيل والفرات"، هناك الوقت الضيق وساعات العمل الطويلة المجهدة، في المهجر هناك صعوبة حقيقية، فالحياة تنهج الطريق البراجماتي، وما يفعله معظم الكتاب هو استغلال ساعات الفراغ، وبعض الأحيان لا نزهة أو تفسح، ذلك لمن يريد الكتابة الجدية بالعربية، والرواية التي أثارت اهتمامي؟ هذا السؤال يفضحني إن أجبت بصدق، ذلك لأنني أعتبر نفسي قارئاً كسولاً، غير ملتزم كما كنت في مرحلة الشباب، اقتصر فقط على القراءات السريعة، وعلى قراءة الكتب المهمة التي تقع بين يدي بالصدفة، حيث لا أعتمد كثيراً في اختياري على القراءات النقدية التي أقرأها في الصحف العربية، فنحن لم نعتد بعد على القراءة الجدية المتزنة كما هو عند الغرب، لفتت نظري رواية بول أوستر Moon Palace لسبب وحيد، وهو أنني أعتبر أن الرواية (رواية المدينة) على الأقل في أمريكا قد توقفت، لقد أثارت اهتمامي "الطبل والصفيح"، مرة أخرى الحياة في أمريكا تجعلني أكثر خبرة وأقل دراية في عالم الكتب.

* كيف تأثر اسلوبك الروائي بحياة المهجر؟
- لقد كتبت روايتي الأولى "صدى الزور البعيد" في سورية، وهي قريبة في أسلوبها من "ينزلون من الرحبة" التي كتبتها مؤخراً واستغرقت أربع سنوات، الذي فعلته الغربة في أسلوبي أنها وسعت حدود الخيال ثم رأيت تضخم الأنا، في صدى الزور البعيد هناك شخصيات كبيرة، أكبر من الإنسان نفسه، شخصيات (إيقونية- إلهية)، لكن الآن اكتشفت مدى خرافة فكرة البطل العظيم والقائد الملهم، إننا نعيش ببساطة جوا إنسانيا،حياتياً، فالإنسان يحمل وجهين (القوة والضعف معا) ووجه القوة هو أسطورة وخيال شعبي، أما وجه الضعف فهو الواقع والحقيقة، والاعتراف بهذا الضعف هو بداية الطريق السليم.

* هل يتأثر ابداعك بالحالة السياسية للوطن، بالرغم من اقامتك في أمريكا؟
- بعد هجرتي ازداد تعلقي بالحالة السياسية، وبإمكانية التغيير النفسي لنمط الطبيعة العربية، فنحن ( والكل يعرف هذا) متخلفون سياسياً وأدبياً واجتماعياً، الحالة الأنوية الذاتية طاغية لدينا، وقد دمرت إمكانية التوائم مع الآخر، فنحن نتمتع بفردانية سلبية تعيق التطور الاجتماعي والروحي، كنت مؤمناً بهذه المقولة قبل الهجرة، ولكن الإيمان توثق حين رحت أقارن بين (الفرد) الأسرة الأمريكية والأسرة العربية، طبعا مازلت متمسكاً بعروبتي وأفتخر بها، لكنني الآن أنظر إلى الحالة العربية من منظار غربي/ شرقي، وأحاول توظيف هذه النظرة أدبياً من خلال القصة القصيرة أو الرواية، وكثيراً من المرات يحضر الشرق في داخلي، وأتساءل إن كنت قد ابتعدت عن أرض الوطن خطوة واحدة، فمازال المكان في داخلي، وهو ما يحركني ويجعلني أتفاعل مع العالم من خلاله.

* ما هو السبب في استخدام الجنية في رواياتك، استخدمت الجنية "هجع" في رواية ينزلون من الرحبة، وجنية "النهر" في رواية صدى الزور البعيد؟
- هذا سؤال ذكي، يكشف تركيبة ال sub conscious التي تغذي وحدات العمل الروائي، لم أعش كثيراً في منطقة والديّ (المياذين- السورية)، لكن أثناء زياراتنا الصيفية لها، كنت أتنفس جو السحر والخيال والجن، كنت أظن أنني أمشي في شوارع الجن، فمعظم البنى مبنية في الأساس على نظم غيبية، بلدة قديمة كانت ماتزال تحمل طقوساً وشعوذة في طريقة نظرتها إلى العالم، حين كنت صغيراً كنت أخاف الاقتراب ليلا من نهر الفرات، ذلك لأن هناك جنية (حربة النجم) تسكن شواطئه وتأخذ الأطفال الذين يقتربون منه، والبيوت المهجورة يسكنها الجن والغيلان ليلاً، ومن الممكن ملاحظة ماقامت به الغيلان من أفعال في صباح اليوم التالي، البراري المهجورة الفارغة هي ممالك الجن.

* أنت تستخدم الماضي لخدمة الحاضر؟ هل تجد هذا الاسلوب أشد تأثيراً؟
- لا أؤمن أن هناك ماضياً أو مستقبلاً، الذي أؤمن به هو الحاضر، ففيه قدرة الماضي والمستقبل معا، ولهذا أحاول استخدام الحاضر، والجملة لدي هي جملة الزمن الحاضر على الأغلب.

* ولكنك تستخدم التاريخ كوسيلة لمعاني ومحور رواياتك؟
- التاريخ هو المادة الملهمة، لأغلب الأعمال الفنية العظيمة، فلا فن حقيقي من دون تاريخ.

* هل لديك تخطيط معين لاختيار عناوين أعمالك؟
- في "صدى الزور البعيد" بنيت العمل وفق مخطط، أي كنت على علم مسبق بما سيحدث، ولهذا اخترت العنوان كي يوافق العمل، لكن في "ينزلون من الرحبة" وضعت العنوان أولا، لكن العنوان لم يكن عائماً على فراغ، بل كان فوق طاقة لم تتشكل بعد، كنت أحسها وتؤرقني، طاقة كافية لدفع العمل نحو الكمال، وكنت أتفرج من بعيد على التشكل، كل يوم أضع لبنة ولا أعرف كيف ستكون القادمة.

* المغترب تائه بين هويته الاصلية وهويته الجديدة، التي تتشكل بالرغم عنه في مكان أقامته الجديد، كيف تتفادى هذا الازدواج في كتاباتك؟ وهل تستفيد منه في اعمالك الروائية؟
- هذا التزاوج قد أمسى واحداً، لذا من غير الممكن تفاديه، إنه الهوية الجديدة، لقد تلوّنا هنا وهذا اللون يختلف عن لون البلد الأصلي، إنه لون عذاب فيه شجن وفرح وحزن، المتاهة تبدأ حين لا يعرف المغترب كيف يدخل العالم الجديد، لكن الحياة مفتوحة على أبوابها والدخول فيها لا يتطلب سوى خطوة نحو الأمام، الذي يختلف هنا هو الثقافة واللغة، لكن التعامل أخيراً هو مع الإنسان، والذي كلما بدا غريباً تجده بعد جلسة واحدة يشبهك في همومه وتطلعاته وشقائه، إن الإنسان في كل مكان (كما أظن) يملك من التعاسة أكبر مما يملك من السعادة، بالتأكيد هناك نكهة ولون مختلفان في أسلوب الكتاب العرب الذي يعيشون في أمريكا، عن كتاب الشرق، وهناك اختلاف بيننا وبين الذين يعيشون في أوروبا، كون أوربا قريبة إلى الشرق أكثر من قرب أمريكا، ألمس طعم الشرق حين أنزل لندن، وأمشي في شوارعها، لكن في أمريكا فأنا في عالم آخر.

salwalubani@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف