العصيمي: ورثت حُب النساء!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
رئيس تحرير مجلة "القافلة" يروي قصته عبر"إيلاف"(1-4)
حاوره عبدالله المغلوث: كيف استطاع سائق سيارة الأجرة السعودي، محمد العصيمي (42 عاماً) أن يصبح رئيسا لتحرير مجلة"القافلة" المعنية بالثقافة والأدب؟ سؤال يجيب عليه خلال حوار من (4) حلقات حافلة بقصص خلافه مع والده، وولع جده بالنساء، وعلاقته بفتاة لمدة 12 عاماً، ومناهضته لقيادة المرأة للسيارة ومن ثم مطالبته بها، وعمله في مطبوعات"الرياض"، "المجلة"، "الاقتصادية"، "اليوم"، و"الأهرام".
جوع
لا يتذكر العصيمي تاريخ ميلاده تماماً، فتاريخ ميلاده بالهجري خطه عمه تركي العصيمي، القارئ الوحيد في حارتهم آنذاك، بإصبعه على جدار بيتهم الطيني الذي كان يبنى في حي
تبقى في ذاكرته عن التوضحية أغاني حجاب بن نحيت وخلف بن هذال وعازف الربابة الذي كان يمر بالهجرة موزعا مواهبه على أهلها الذين يروون عنه حكايات لم يبلغها آلن دلون في إغراء الفتيات. كان ألذ ما في التوضحية بالنسبة للعصيمي جده ودكانه فهو كان سمحا لبقا عطوفا يغدق عليهم من دكانه الخشبي الصغير الحلوى والعصائر وفي المساء يتحلق وأخواله حول صحن متواضع "ننهشه بمنتهى الجوع، حتى أن اللحمة، إذا وُجدت، لا تدري هي بيد من، من جراء السباق الماراثوني الذي يجري للظفر بها".
أما القطار، الذي كان يشق التوضحية، فقد كان متعة محمد الكبرى لأنه يتحرك بطريقة ولياقة تختلف عن الدواب والسيارات التي كانت تعد على الأصابع أنذاك. والمفارقة أنه كان أسرع وأنظف وأرتب من قطار اليوم حسب العصيمي.
ويبقى أسوأ ما في ذاكرة محمد عن التوضحية أن جده غادرها إلى حرض، الهجرة الأخرى القريبة منها، والتي اشتهرت اليوم كروضة للمشاريع النفطية العملاقة. وفي حرض دهس مراهق يمر بشارعها الترابي الوحيد بسرعة هائلة جده. "ومن وقتها انقطعت أرجلنا عن زيارة الهجرتين وبقي جدي الحبيب وحلواه وعصائره والقطار وعازف الربابة في الذاكرة التي انتقل شريطها إلى أماكن وظروف أخرى".
أعقاب سجائر وطهارة مبطنة!
الزلفي-250 كيلومترا شمال الرياض- كانت بالنسبة للعصيمي مثل "برمانا" لأولاد الذوات آنذاك. فحين أصبح يافعا صار في إجازة الصيف يذهب إليها ضيفا على بيت عمته-أخت أبيه غير الشقيقة-. وكانت متعته الكبرى أن يقضي النهار بطوله في شوارعها الرملية يلعب أو يصنع لعبا جديدة من المواد الملقاة في الشوارع أو يبحث عن أعقاب سجائر حيث
وكانت تشتهر الزلفي وفق محمد بنفود الثويرات الذي كان (مكشاتا) وملاذا في الصيف لأهلها يقضون فيه أجمل لياليهم ومنهم من يبيت به طوال ليالي الصيف لارتفاعه وبرودة رماله. وكان في البلدة آنذاك سوقان شهيران هما سوق البلاد وسوق "العجدة"- يجب أن تنظق الجيم على طريقة أهل الزلفي-. وعدا نشاط السوقين في الصباح حيث ينزل المقيمون والبدو ليتبضعوا حوائجهم ويبيعوا أغنامهم كان هناك ما صنع الحداد بين البلاد والعجدة في أي السوقين أجدر بالبقاء والتأثير في بورصة الزلفي. وقد روي أن أحد كبار رجال الأعمال، وهو من العجدة أقسم ذات خلاف أن يحول سوق البلاد إلى مربض للحمير بعد أن يطور سوق العجدة، ولا يدري العصيمي ماذا حل بالسوقين الشهيرين الآن.
ولا ينسى محمد عند الحديث عن الزلفي روضة السبلة التي يقصدها زوار في الربيع من الزلفي ومن مناطق المملكة وحتى من الكويت والخليج ليقضوا فيها أياما زاهية حيث تُزهر الروضة طبيعيا وتتعدى أشجارها المزهرة طول الرجل إذا وقف. وفيها أيضا، كما في تصرفات عديدة، تحدث تمايزات بين أغنياء وفقراء فهذا المخيم الفخم لفلان وذاك المتواضع لفلان، والتفاخر على أية حال صفة نجدية بامتياز تقابل التباهي أو الفخفخة عند أهل الحجاز. فالإنسان النجدي جُبل على التفاخر رغم أنه يردد باستمرار أن التفاخر صفة مذمومة لكنه في محيط البيئة التي تفرض شروطها هو مُفاخر من الدرجة الأولى بما عنده وليس عند الآخرين حسب العصيمي.
ويعتبر محمد الزلفي بلدة مثلها مثل كل بلاد نجد تشتهر بالزراعة والنفود وقد نال أهلها نصيبا وافرا من التعليم ويُعرفون أيضا بكفاحهم وطموحهم، كما يعرفون أيضا بكرمهم الزائد إذا حل بأرضهم ضيف.
حُب النساء
تأثر محمد بطبيعة علاقة جده لأبيه مع والده، فقد كان جده لأبيه من المشتغلين في صناعة الغوص في الكويت. وذات مرة زار الزلفي، وخلال يومين، تحت إلحاح أقاربه، تزوج جدة محمد ودخل بها ليلة الزواج وغادر في الصباح إلى الكويت ثم طلقها عن بعد وهي حامل بأبيه. أنجبت جدته أبيه في غياب جده وكبر والده في الزلفي في كنف أخواله الذين اتصفوا بالطاعة كما يوصَف شديدو التدين هناك. بلغ والده سن العشرين وهو لم ير أباه قط. وفي تلك السن اعتبر والده أن من باب التسامح والبر أن يقنع أباه بالحج حيث لم يؤدي جده فريضة الحج حتى ذلك الحين. وقد سافر والده إلى الكويت وأقنع جده بشفاعة بعض الأقارب أن يحج فرضخ لطلبه وجاء حاجا، وقد استغل والده فرصة قدومه للحج فوضع أمامه العراقيل حتى لا يعود إلى الكويت التي كان أهل نجد ينظرون إليها باعتبارها في ذلك الوقت خارجة عن بعض ما يعتبرونه من تعاليم الدين حيث تشيع فيهاعادة التدخين ويسمح بالغناء إلى آخره. وبقي جده مكرها في الزلفي ثم انتقل إلى الرياض مع ابنه ،وهو ابنه الوحيد الذي لم ينجب غيره من بنين أو بنات، يقول العصيمي:" لم يعش جدي طوال حياته في كنف زوجة إلا ليلة واحدة، هي الليلة التي دخل بها على جدتي، رحمهم الله جميعأ".
ويقول عن أثر علاقة جده بأبيه على نشأته أنه أثر مضطرب حيث لم يكن جده مستقرا ولم يكن له تأثير على نشأة أبيه، حيث تأثر والده بأخواله بعد أن تركه أبوه في بطن أمه وغادر إلى الكويت ولم يره إلا بعد أن بلغ العشرين من عمره، وهناك من يقول إن شيئا من جينات جده انتقلت لمحمد بالوراثة، ومن أبرز ملامحها "عدم الاستقرار وعدم الرضا وحب التنقل والعصبية أحيانا وحب النساء إذا شئت". يستدل:" فقد كانت نساء الحارة بعد أن شاخ جدي وأصبح ضريرا ينصحن بناتهن الصبايا بالابتعاد عن مجلسه وعدم الاقتراب منه إذا نادى إحداهن، وأنا لا أعرف إلى الآن سبب هذا الموقف من شيخ ضرير. ربما كن يخشين أن يطلب إحداهن للزواج".
رعي الغنم
تجربة رعي الغنم تجربة تلامس شيئا في نفس العصيمي لا يعرف ما هو بالضبط. يتذكر أن أباه وأبناء عمومته يشدون الرحال من الرياض إلى البر، غالبا على طريق الخرج، لقضاء موسم الربيع بطوله في الصحراء مع خيامهم وغنمهم. وكان لديهم راعي غنم من اليمن مؤجر لرعايتها من الصباح إلى المغرب. وقتها كان محمد وأقاربه في المدارس حيث يذهبون مع آبائهم بـ"الونيتات" في الصباح الباكر ويعودون معهم بعد أن يغلقوا دكاكينهم ويمرون لأخذهم من مدارسهم. هذا الراعي كان يسافر أحيانا أو يمرض أو يزور بعض أقاربه في الرياض، وكان الحل أن يوكل أمر رعي الغنم في هذه الظروف إلى صبي من الصبيان. وكان الصبيان يبتهجون في هذه الحالة للقيام بدوره لأنهم سيغيبون عن المدرسة، وأيضا لما يحظون به من عناية النساء الباقيات خلف الرجال في البر حيث يُخص من يبقى من الصبيان لرعي الغنم ببعض أطايب الطعام والشراب التي لا تقدم أثناء وجبات الغداء أو العشاء. يعود محمد إلى الماضي:"وكلما طالت فترة غياب الراعي الرسمي كان ابتهاجنا يزداد لأن ذلك يعني أننا سنتولى رعي الغنم بالدور". ويؤمن محمد أن رعي الغنم "تجربة مهمة" تعلم من خلالها المسؤولية حين تأخذه الغنم بعيدا عن مضارب الحي على أن تعود كاملة في نهاية يوم الرعي لتحظى بإشادة واستحسان كبار السن. وتنفرج أسارير العصيمي عندما تلد أثناء مشوار الرعي شاة أو عنزة فيكون الراعي مسؤولا عن سلامة الأم والجنين، يقول:"لا يمكن أن تتصور اللحظة التي تقبل بها على المضارب وأنت تحمل الوليد الجديد الذي لا يقدر بعد على المشي، ثم الاحتفال الذي يلي ذلك حين تجتمع الأسرة على اللباة وهي ما يستحلب من ضرع أنثى الغنم بعد الولادة مباشرة ومن ألذ ما يؤكل على وجه الأرض".
المدرسة والإذاعة
التحق محمد بالمدرسة بفضل جهوده الفردية، فقد كان والده، أميا لا يقرأ ولا يكتب، وبالتالي لم يكن على وعي سليم بأهمية التعليم، ولذلك دخل أخوته الكبار إلى المدارس متأخرين بفعل حث بعض الأقارب له واقتراحهم عليه أن يلحقهم في المدرسة. أما محمد فكاد يقع في ذات المشكلة لولا أنه شعر في سن السادسة أو السابعة بغيرة من الأطفال
لذين يذهبون للمدرسة كل صباح مع حقائبهم المدرسية ويبقى في الشارع أو يذهب مع والده إلى دكانه لبيع الخيام في سوق الغرابي. وذات يوم أخبر أبيه برغبته في الدراسة. فرد عليه برتابة: إذهب. وكان الأمر الأكثر بساطة وبراءة أن محمد اعتبر كلمة والده كافية. في صباح اليوم التالي كان العصيمي عند باب المدرسة بدون حقيبة والطلاب يتدافعون لدخولها فاندفع معهم ليستوقفه الفراش الذي كان من جملة فراشين كانوا يصطفون في ذلك الحين عند باب المدرسة. سأله الفراش: إلى أين أنت ذاهب؟ فأجابه: أريد أن أدرس. فقال له: اذهب إلى الدكان المجاور، اشتري شنطة ودفاتر ومن ثم عد مجدداً.
وعندما عاد والده من دكانه في الظهر قال له محمد إنه يريد شراء شنطة ودفاتر ليذهب إلى المدرسة في الغد كما طلب منه الفراش. ولعل والده لم يصدق كلامه حينها أو لم يعره انتباهه باعتبار أن الأمر كان حكي أطفال، يقول:" فأخذت أبكي وأتوسل ليشتروا لي شنطة ودفاتر ولا أذكر هل إن أبي استجاب لتوسلي أم أن أمي هي التي أشفقت علي وأعطتني النقود لأشتري الشنطة والدفاتر". المهم أنه ذهب للدكان المشار إليه واشترى شنطة ودفاتر وأقلام وبراية وعاد إلى البيت يحملها مستعرضا أمام كل طفل أو صبي رآه في طريق عودته. وفي الصباح حمل الشنطة بمنتهى الحبور والسعادة وذهب إلى المدرسة، وكان من حسن الطالع، أن ذلك العام الدراسي كان في أسبوعه الأول.
وقد اندفع محمد في يومه الأول مع الطلاب بتوجيه من أحد المدرسين إلى فصل دراسي تحت الدرج الداخلي لفناء المدرسة. جلس مع رفاقة الطلاب على الأرض حيث لم تكن الطاولات قد حضرت للمدرسة. يكمل محمد: "بعد ذلك قرأ الأستاذ الشامي الذي كان أمامنا الأسماء وكل طالب يسمع اسمه يقول حاضر، وعندما انتهى سألنا: من الذي لم يسمع اسمه؟ فرفعت يدي، وفورا، ببساط أيضا، سجله في الورقة وبدأت مرحلتي الدراسية الابتدائية". في السنة السادسة الابتدائية استدعي محمد إلى مكتب المدير الأستاذ سعود الطيار لإضافة أوراقه النظامية لدخول امتحان الشهادة الابتدائية إلى شهاداته الدراسية السابقة ووقع حينها في مطب آخر، فأبيه يُحرم الصورة" بناء على تحريم شيخ يقطن ذات الحارة، وهو الآن عضو في هيئة كبار العلماء بالسعودية، فكيف إذن ستستكمل أوراقي وأبي لا يحمل حفيظة نفوس لأنه لا يريد أن يصور؟!".
وبعد أخذ ورد وصياح ونياح اهتدى والده، على يد أحد أقاربه، إلى أن يستخرج لمحمد شهادة ميلاد من الأحوال المدنية بالزلفي وفعلا سافر إلى هناك "وانبرى لنا زوج عمتي بما لأهل القرى من دالة على مسؤوليها فأخرجوا لي شهادة ميلاد أنقذتني من عثرة الشهادة الابتدائية ثم أنقذتني فيما بعد من عثرات نظامية كثيرة في ظل عدم وجود حفيظة نفوس لأبي".
ورغم حصول العصيمي على تقدير ممتاز في امتحان الشهادة الابتدائية إلا انه يحزن كلما تذكر تلك المرحلة التي ابتلعت 6 سنوات من عمره، يقول: "لأني لم أحصل يوما على فسحة في المدرسة مثل بقية الطلاب، فقد كان أبي يرى أنه لا داعي للفسحة مادام هناك فطور وغداء في البيت وأنا كنت أتفرج على الأولاد وهم يغمسون الكيك بالميرندا وأغبطهم بل أحسدهم وأرجو ألا يكون أحد منهم قد أصيب بأذى من عيني في تلك المرحلة".
أما ما نافس فيه الطلاب ورد له بعض اعتباره فهو أن المدرسة توجته مسؤولا عن إذاعتها في السنتين الخامسة والسادسة، مما رفع أسهمه بين الطلاب وأصبحوا يطلبون وده ويتقربون إليه، أحيانا بالكيك وأحيانا بالميرندا. كما أن الإذاعة في المدرسة الابتدائية قربته من الصحف والكتب التي كان ينقل منها بعض المقتطفات ويذيعها في الإذاعة المدرسية، ولربما كانت هذه بداية علاقته بالصحافة والكتاب والقلم وما يحيط بهم من هم ثقيل وطموح لا متناهي في تغيير الكون.