لقاء إيلاف

العصيمي (2): المرأة مهمشة في السعودية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

رئيس تحرير مجلة "القافلة" يروي قصته عبر"إيلاف"(2-4)

حاوره عبدالله المغلوث: أسفل الأذن اليسرى لرئيس تحرير مجلة "القافلة"، السعودي محمد العصيمي (42 عاماً) يلمع حرق بالغ، يبرر:"تشتعل في داخلي وخارجي النيران". يقول العصيمي في الجزء الثاني بأن المرأة في وطنه تتعرض"للتحقير والتصغير". ويستعرض معاناته مع شقيقته، و سجاله مع أمين عام مجلس الشورى السابق وأحد أعضائه الحاليين، الدكتور حمود البدر.

صراع مع الأب

بعد حصول العصيمي على شهادة الابتدائية سجله والده في المعهد العلمي بالرياض التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية . وكان المعهد في "حلة الأحرار" يبعد عن يته ما يزيد عن ستة كيلومترات يمشيها ذهابا وعودة. ولم يكن هناك من شيء يفعله في الطريق إلى المعهد غير مراقبة المارة والسيارات وأحيانا يلجأ إلى عد بلاط الرصيف ليلغي رتابة الملامح التي تعتريه.
يعزو محمد تسجيله في معهد ديني صرف إلى كون المعهد يُخرج مشائخ وكتاب عدل ويحقق مرموقية اجتماعية في محيطه حسب نصائح المشائخ لوالده. ومن جانب آخر يعطي طلبته مكافأة شهرية. "لذلك لم أكن صاحب الاختيار، بدليل أن دراستي وإن كنت ممتنا لما نتج عنها من خبرة في اللغة العربية وأسلوب الكتابة واعتزازي بالكثير من أساتذتي إلا أن مرحلة نضوجي الفكري أخذت مسارا آخر". وقد تعرض والده لخيبة أمل في ابنه بعد التحاقه المبكر في صحيفة "الرياض" عندما كان في المرحلة الثانوية، يقول:" لم يكن أبي راضيا، فلم أصبح شيخا كما كان يبتغي".
على صعيد آخر، كان والده يرفض من باب ما ينقله عن بعض المشائخ في ذلك الحين، أهمية تعليم البنت، فالبنت عار إذا خرجت إلى المدرسة وعار إذا عادت منها. ولذلك منع تعليم أخواته الكبار، يقول محمد " لقد جنى، هو ومن أفتاه، على حياتهن وقيمتهن بين قريناتهن". لكن حين بلغ محمد سن الفهم اعتبر أن من مسؤوليته أن يسعف الاثنتين الباقيتين، فكانت تجربة الصراع الأولى مع أبيه من خلال البنت قبل الصغرى. وحين نوى محمد إلحاقها بالمدرسة ظهرت له مرة أخرى مشكلة حفيظة نفوس والده فهي غير متوافرة لأنه يحرم الصورة، فقرر أن يسافر إلى الزلفي لاستخراج شهادة ميلاد لها كما حدث معه تماما، وبالفعل سافر إلى هناك وقدم الطلب باسمها بدون حضور والده أو حفيظة نفوسه التي لا توجد أصلا فرُفض طلبه وقيل له إذا كان مصرا عليه أن يذهب ويحضر موافقة أمير الزلفي، على طلبه. ذهب محمد بالفعل إلى الأمير وقدم له الطلب "المعروض" شارحا فيه مسوغاته وضرورة تعليم أخته وعدم تمكن أبيه من الحضور لعجزه، كما أن والده ليس لديه حفيظة نفوس لأنه يُحرم الصورة الفوتوغرافية. لم يصدق العصيمي نفسه قبل أن يجف كلامه وهو يرى الأمير يوقع على خطابه بالموافقة فعاد إلى الأحوال المدنية التي لم تتأخر بناء على هذه الموافقة في إعطائه شهادة ميلاد لأخته، ومن ثم عاد إلى الرياض وألحقها بالمدرسة. وفي اليوم الأول للدراسة رافقها محمد إلى الباب لأنها كانت خائفة أن يراها أبيها فيمنعها. يتذكر محمد:" صادفناه عند الباب فحدثت مشادة صغيرة بيني وبينه، فزت فيها ومسكت البنت من يدها وأوصلتها المدرسة لتبدأ حياتها الجديدة في ظل سحابة عدم رضا من أبي". والمفارقة أنه بعد أشهر بدأ والده بنفسه منح ابنته مصروفها في المدرسة ويسأل عن حالها الدراسية وإذا علم بتفوقها كان يحاول إخفاء علامات الرضا التي تظهر على وجهه. و التحقت البنت الأخرى الأصغر منها بشكل اعتيادي في المدرسة مما شجع محمد على المقامرة في سبيل مايعتنقه.

سائق الأجرة

ظروف اسرته المالية المتواضعه دفعته للبحث عن مصدر رديف للعيش وتحقيق الاستقلال المالي من خلال ثلاجة "بيبسي" قديمة تعمل على الثلج. يقول:"حمّلت هذه الثلاجة العصيمي في مكتبه بجريدة الرياض عام 1983 لى ظهر سيارة نقل هايلكس (وانيت) كنت اشتريتها بمساعدة والدتي وملأتها في أول يوم بالمشروبات الغازية". في اليوم الأول وقف بعد الظهر، وكان الوقت صيفا شديدا، بين سوقي البطحاء والحميدية عارضا بضاعته على المارة ولم تمر ساعة إلا وفرغت الثلاجة من مخزونها. يستدعي الذكريات: "لا يمكن أن تتصور فرحتي بهذا النجاح وحجم الدخل الذي تحقق من هذه الصفقة الرابحة". وكالعادة وضع الربح كله بيد أمه واحتفظ برأس المال ليشتري به في الغد بضاعة جديدة ويعود لنفس المكان. "ظللت على هذا المنوال أشهرا إلى أن ترقيت إلى سائق أجرة".
مع التاكسي بدأ قصة جديدة فقد اشترى سيارة داتسون بي 180 موديل 76 وانطلق بها في شوارع الرياض مفاخرا بانتسابه لحزب الصفر، بضم الصاد، حيث كان قرار صبغ كل سيارات الأجرة باللون الأصفر آنذاك ساري المفعول. حقق محمد في التاكسي نجاحات مالية ملموسة وكان يعود لأمه كل يوم بمائة وخمسين أو مائتين ريال. يذكر:"كنت جادا فيما كنا نسميه (مكده) إلى درجة أن أي راكبة تخضع لي بالقول لا أعيرها انتباها من شدة حرصي ألا أقع في حبائل المغريات فتضيع (مكدتي) هباء. وأذكر أنني حزنت جدا على تضييع (خاضعة بالقول والفعل) أوصلتها من حي الصالحية إلى حي العليا الجديد آنذاك". ومن العلامات الفارقة في مرحلة التاكسي أنه تعاقد مع أربع مدرسات مصريات يوصلهن من حي الصالحية حيث تقع بيوتهن بجوار بيته إلى مدارسهن، وإذا احتجن إلى مشوار في المساء إلى السوق مثلا، يبلغنه في طريق العودة من المدارس ليكون عندهن في الموعد المحدد لتوصيلهن إلى سوق البطحاء أو الثميري أو شارع الوزير، الذي أكل فيه لأول مرة دجاج كنتاكي. واكتشف في ذلك الحين موهبته في الالتزام بالمواعيد. يقول محمد أن العمة المصرية، التي كانت تقبضه الأجرة بالنيابة عن الأخريات:"قالت لي فيما أذكر أنها لأول مرة تجد شخصا يحترم مواعيده مثلي وكانت تعتذر هي غالبا عن تأخر خروجها من البيت في الموعد المحدد".
أما العمل في المطابع فكان فكرة خطرت له في مرحلة قيادة سيارة الأجرة، فقد فكر خلال الإجازة الصيفية البحث عن عمل رديف للتاكسي بحيث يكون هذا العمل في الصباح والتاكسي في المساء. ونما إلى علمه أن مطابع جامعة الملك سعود تبحث عن طلبة أثناء الإجازة الصيفية لتوظيفهم فذهب لمقرها وقدم طلبا تم قبوله على الفور وعين (مدبّسا) يدبس على الآلة كراسات الامتحان ذات الغلاف البني الشهير بمكافأة شهرية تبلغ 1800 ريال. ومن طرائف عمله في المطابع أنه شاهد لأول مرة ماكينة توقيع كرت الدوام فطلب من أحد أصحاب الخبرة أن يعلمه عليها ويفسر له ما تطبعه على الكرت. ثم إنه حدث ذات يوم أن جاء مدير المطابع، وكان ظريفا وصريحا، فقال بعلو صوته يخاطب زملاء محمد الدائمين والمؤقتين، ولعله كان يقصد مجموعة بعينها من بينهم: انظروا إلى العصيمي، لشهر كامل لم يتأخر دقيقة واحدة في الصباح ولم ينصرف قبل موعده بدقيقة واحدة في المساء وإذا جلس على ماكينة التدبيس لا يقوم إلا لصلاة الظهر فلماذا لا تكونون مثله. وأشاد به كثيرا ثم انصرف. تلك الاشادة فتحت عليه أبواب جهنم في المطابع، يقول:"خسرت إثرها كل الزملاء ومن كان يحتمل أن يكونوا أصدقاء من بينهم". وانتهت علاقته بالمطابع في نهاية تلك الإجازة الصيفية.

رد مثير

خلال السنة الأولى ثانوي في المعهد العلمي اطلع محمد على مقتطفات نقلتها ونقدتها مجلة "الإصلاح" الإماراتية من لقاء مع الدكتور أحمد الخطيب، تحدث فيها عن بعض تقاليد مجتمع السعودية، وقد تطرق الخطيب لوضع المرأة والحجر عليها وحجابها. ما جعل التلميذ الذي يدرس في عامه الأول في المرحلة الثانوية يمسك القلم ويكتب ردا مسهبا على الخطيب وأرسله إلى المجلة حيث فوجئ في الأسبوع التالي أن الرد منشور بالكامل وعليه توقيعه. ينشرح قائلا:"أعلنت حينها على الملأ في المعهد أن هناك ردا لي على الدكتور الخطيب في مجلة الإصلاح التي كانت تصلنا في المعهد مع مجلة المجتمع الكويتية". وخلال يومين أو ثلاثة كان كل أستاذ يدخل عليه في الفصل يبدأ الحصة بالإشادة بالرد الذي كتبه "مما نفخ ريشي وأيد توجهي إلى مزيد من القراءة والكتابة". و بعد هذه المقالة دعاه بعض أساتذته إلى زيارة مكتباتهم الخاصة واستعارة ما أشاء منها من الكتب وقد فعل ذلك لفترة قصيرة ثم انصرف إلى قراءات حرة ينتقي فيها الكتب وفق ذائقته. يقول:" كثافة اطلاعي آنذاك على الصحف دلتني على العديد منها مما لا يوجد في مكتبات أساتذتي، خاصة تلك الكتب ذات النفس القومي والليبرالي". دون أن يفقد صلته واهتمامه بكتب التراث وموروثات العصور العربية الزاهية.

صدام مبكر مع حمود البدر

وقد دخل العصيمي في صدام جديد . فقد كان الدكتور حمود البدر، الأمين السابق لمجلس الشورى السعودي وأحد أعضائه الحاليين، ضيفا على محمد الوعيل في بابه الشهير آنذاك (ضيف الجزيرة) وفي ذلك اللقاء دعا الدكتور البدر إلى قيادة المرأة للسيارة فهاجت الدنيا وماجت فكان العصيمي من الهائجين ضد دعوته فكتب ردا عليه نشر كموضوع رئيس في صفحة "عزيزتي الجزيرة" وحقق له هذا الرد بعض الحضور الاجتماعي في الحارة مما شجعه على مداومة الكتابة لصفحة "عزيزتي الجزيرة" في موضوعات وردود متفرقة. أما تبادل الأدوار بينه وبين الدكتور حمود البدر بين الماضي والحاضر، فيفسره العصيمي عبر"إيلاف" قائلا:" هو من تداول الأيام فلعل الدكتور البدر غير قناعاته في الوقت الذي غيرت فيه أنا قناعاتي. ولكل منا، فيما أعتقد، الحرية في ذلك، من غير أن أدعي أو يدعي أينا رأيه صائب سواء فيما قبل أو فيما بعد". يتابع:"وإذا تحدثت عن نفسي فأنا الآن أرى أن قيادة المرأة للسيارة، التي اعترضت عليها مغلفا بمكاسبي البسيطة آنذاك، هي حق لا جدال فيه ولا مراء حوله. فالمرأة تحتاج لقيادة السيارة الآن كحاجتها للهواء ولا أظن أن بي حاجة لأعيدكم إلى الأسباب الحياتية المنطقية التي أعلنها الدكتور محمد آل زلفة حين أثار هذا الموضوع مؤخرا. المكابرة في هذا الموضوع ليست في صالحنا أسريا واجتماعيا ووطنيا".
كما أن العصيمي في هذا الموضوع لا يتفق مع من يدعو للاستفتاء على هذا الأمر، فالحق لا يمكن أن يستفتى الناس عليه. يقول:" لا يمكن أن تستفي الناس من الجنسين في حقهم في نيل التعليم أو ضرورات الحياة". أمر قيادة المرأة للسيارة هو حق حياتي لا يصح أن يترك للاجتهادات التي تبقي هذا الموضوع معلقا "مما يضيف مشكلات وأعباء على المرأة والمجتمع الله أعلم أين ستنتهي وأي ثمن سندفعه نتيجة هذا التردد". ويستشهد محمد بتعليم الفتاة في السعودية:"لو ترك أمر تعليم الفتاة للناس في الستينات لكانت لدينا الآن كارثة اجتماعية ووطنية لا يمكن تصور أبعادها وآثارها".

المرأة مهمشة

لا يعتبر محمد نفسه نصيرا للمرأة من باب أنه يعارض السائد في المجتمع السعودي. بل يرى انه نصير لها من باب آخر هو ضرورة مراجعة ما ساد في حقها من التصغير والتحقير والتهميش، "فالمرأة، كما نراها في مجتعات أخرى، حاضرة وفاعلة في كل شؤون الحياة، بينما نحن نمن عليها بحقوقها حسب أمزجتنا الذكورية التي تحفل بأنوثتها أكبر مما تحفل بعقلها وقدراتها". يستشهد بأمه:"رغم أنها بسيطة لا تقرأ ولا تكتب، فهي مؤثرة إيجابيا في حياة بناتها وأبنائها أكثر من أبي". يتساءل: فهل من حقي الآن أن آتي وأقول إن أمي ناقصة لأنها امرأة وأن أبي كاملا حتى ولو لم يكن له دور في صحة وسلامة حياة أبنائه وبناته". يبين:"لو عاد الأمر لأمي مبكرا لما بقيت واحدة من أخواتي لم تدخل المدرسة، ليس لأنها ناقصة دين وأبي كامل دين، بل لأن رؤيتها للحياة تكتسب وعيا أكبر من الذي اكتسبه أبي".
يسأل محمد مجدداً:" كيف تكون زوجتي التي تقرأ على أولادي قبل نومهم قصار السور وتوقظهم للمدرسة وتعمل في وظيفتها من الساعة السابعة صباحا إلى الثالثة بعد الظهر وتذاكر لأولادها وتهذبهم في ألفاظهم وأفعالهم وتبر والديها وتراعي جيرانها؟". ويتساءل أيضا:" كيف تكون، مع كل ذلك، أقل مني لأنها امرأة وأنا رجل وبالتالي كيف تكون كاملة، والكمال لله، في كل ذلك ثم تكون ناقصة إذا تعلق الأمر بقيادتها للسيارة أو إبداء رأيها عبر وسيلة إعلامية أو ظهور كفها من تحت عباءتها".

قيمة مفقودة

جملة أمور تكالبت على محمد لتجعله صحافيا، منها أنه كنت يبحث عن قيمة شخصية "في ظل التواضع الأسري والاجتماعي الذي كنت أعيشه". من جانب آخر مهد انغماسه المبكر في القراءة إلى تكوين أصدقاء خارج الحارة الغارقة بهمومها وقشورها. هؤلاء الأصدقاء هم مؤلفو الكتب وحاملو مشعل التنوير في القصص والروايات والشخصيات العامة المؤثرة في أخبار الصحف ومنقولاتها. يقول:" أحببت أن أكون واحدا من هؤلاء. كأنني أردت، بإلحاح من هؤلاء الأصدقاء المعنويين المستظلين في الحرف، أن أحمل فكرة أقدمها للناس، وأن ألعب مثل هؤلاء الأصدقاء دورا في الحياة". وهكذا بين الحاجة لقيمة شخصية مفقودة ودوافع الالتصاق بالقراءة ثم الاحتكاك بالصحافة عبر صفحات القراء وما لقيه من ترحيب منها ومن قرائها وجد قدمه تقوده إلى هذا البلاط الخشن.
يتبع
ctu_abdullah@yahoo.com

الجزء الأول:
http://elaph.com/ElaphWeb/Interview/2006/4/144483.htm

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف