سلوم: وعينا الذي نحفر به الزمن هو مفتاح وحدتنا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حوار مع سعد سلوم مدير مركز المشرق للدراسات الستراتيجية ورئيس تحرير مجلة مسارات الثقافية (2/2)
صفاء ذياب- من بغداد: سعد سلوم من أنشط المثقفيين العراقيين الشباب في فترة ما بعد التغيير الذي أعقب 9 نيسان 2003. وربما يبدو لنا من المهم أن نتفحص سلسلة انتقالات (انشغالات) هذا المثقف الشاب (يبلغ من العمر31 عاما) لكي نفهم المناخ العام الذي وجد المثقف العراقي فيه نفسه في اعقاب سقوط نظام صدام، فسلوم مهتم بالفن التشكيلي
* كيف تحدد هوية مطبوعكم الثقافي؟
مجلتنا فكرية ثقافية فصلية لكنها مشروع لتأسيس ما هو دائم اكثر من كونها مجلة متخصصة بالشأن الفكري والثقافي. والاسم (مسارات) الذي أطلق على المجلة، يحدد هويتها، وهو ما يعبر عن إيماننا بتعدد الرؤى والمناهج في تفسير العالم وظواهره. ولكن الغاية تبقى واحدة ألا وهي الإنسان. إننا نميل إلى تأكيد قيمة الانسان في الخطاب الثقافي ولتجربة مجلتنا خصوصيتها، فهي تستهدف الاعلاء من قيمة الانسان العراقي، وقد ذكرت في افتتاحية العدد الاول ان الانسان العراقي قد ابتلي بأعظم المحن، واجتاز عبر تاريخه اقسى الامتحانات، وحاقت به ألوان من الشرور لو تعرض لها شعب اخر لاختفى كوجه مرسوم على الرمال، وجاء اهتمامنا أيضا لإيماننا بأن الحفاظ على وحدة التراب العراقي يعبر عن إيماننا بتماسك الأمل الإنساني وجدواه في تدعيم مسار مستقبل البشرية، كما ذكرنا بأنه إذا كان هناك منهج فكري متميز او نزعة قيمية بل قل أيديولوجيا تصوغ مرجعية واضحة لتوجه مجلتنا فإنها لن تخرج عن روح هذه الدعوة المخلصة لوحدة وتماسك المسارات العراقية المتنوعة.
* هل تستطيع تحديد مسار ثقافي واضح لذلك؟
نحن نريد الخروج من الطابع التقليدي والروتيني الخانق لبعض المطبوعات الشائعة ذات الطابع التجميعي للمواد الثقافية، يحدونا الأمل في رسم ميثاق إبداعي للثقافة العراقية، لكن ذلك لن يتم عبر تفعيل ثقافة تفكيكية تحلل مسارات الواقع الراهن وتفكك أطره بغية إدراكه والاحاطة بمسالكه فحسب، بقدر ما نهدف الى تأكيد ثقافة تأسيسية تقوم على الاعتراف والمصالحة التاريخية مع تراثنا الرافديني العظيم، والانفتاح على الماضي بكل آلامه ومنجزاته والانفتاح عمقياً على روح الامة العراقية التي لم تنضب طاقاتها الروحية عبر الاف السنين وذلك في سبيل تأسيس دولتنا المعاصرة القائمة على نموذجنا الحضاري المتميز وتجربتنا الفريدة.
* ما الذي تقصدونه بالمصالحة التاريخية؟
نقصد بالمصالحة التاريخية: الانفتاح على الاحتياط الحضاري العراقي، وتجنب معاملة بعض أجزائه على أنها غريبة عن العقل العراقي، بما يتضمنه ذلك من عنصري التفاعل والتعايش قوام الوحدة التاريخية لأرض حضارة ما بين النهرين والوحدة الوطنية للعراق المعاصر. كما نقصد أيضا بالمصالحة التاريخية الجهد الواعي للاحتفاظ بصورة العراق التاريخي الذي ينبغي على مشروع الدولة أن يؤطرها، كما يتضمن الجهد الموضوعي للانفتاح النقدي الإبداعي على الآخر وهو مما يؤسس لبناء وولادة الدولة العراقية الجديدة على أسس تضع المواطنة الصالحة والكفاءة والنزاهة في قلب الحراك الاجتماعي لبناء الهوية العراقية .
* كيف يمكن أن يصبح مطبوع ثقافي جزءاً من مشروع عريض كهذا؟
حسناً، لقد بتنا نُعرف اليوم بكوننا نعيش في ظل العولمة وزمن سياسات الانفتاح الاقتصادي وتشجيع الاستثمار المربح، لكن الكثير من نخبنا السياسية والثقافية تناست إن الهوية هي أيضاً قضية استثمار لرأس المال الحضاري الكبير الذي يمثل احتياطنا الذي لا ينضب إذا ما حددنا التركيبة المعرفية المناسبة لاستثماره- وهذه قضية نضال حداثتنا المعاصرة- وهي استثمار معاصر لألوان الطيف العراقي على أرضية الوحدة الوطنية. وهذه هي قضية نضالنا السياسي الحديث. وفي إطار هذه الرؤية نود ان نعد مجلتنا مسارات جزءاً من قضية صياغة الهوية لذا جاء افتتاح المجلة لكتاب الأديان والطوائف العراقية بتقديمنا بانوراما عن الإزيدية في العدد الثاني وسيعقبه اهتمامنا بتقديم ملفات عن الصابئة والمسيحية في العراق ويهود العراق وتقديم بانوراما عن الشبك أيضا.
* ما دمنا بصدد الهوية، لقد تطرقت الى اشكالية الهوية في افتتاحيتك للعدد الثالث من المجلة من خلال السؤال الاستفزازي"من نحن؟".
هذا السؤال الذي تصفه بالاستفزازي ولد من رحم رد الفعل على عبارة استفزازية تقول "لم يخلق الله العراق هكذا بل المستر ونستون تشرشل". كانت هذه العبارة تنقض الاحساس بالعراق التاريخي، هذا الاحساس نعمة/ نقمة يتصل به وجدان المثقف. وهو ما دفعني لتوجيه السؤال للمثقفين العراقيين ممن يشاطروني الضيق والادراك غير السعيد بأن بناء العالم بالكلمات يقابله القدرة على تحطيمه باللغة، فقد لمسنا بأيدينا كيفية تحول اللغة الى جدار للفصل العرقي والطائفي بين مكونات المجتمع، وغذا ذلك مساهمة الاعلاميين والسياسيين في بناء الجدران التي تتسور بها مصالحهم وتحتمي داخلها منازلهم. كانت منظومة من المصطلحات تحاك بخبث لتجزئة الاحساس بالهوية الوطنية مثل اصطلاح العرب السنة وكأن الشيعة ليسوا عرباً، وغيرها من المصطلحات التي أغنينا فيها المعجم اللغوي العربي مثل مصطلح المحاصصة المحمول إلينا من موائد المعارضة العراقية قبل سقوط النظام والذي قسر علينا واستنبت على ارضنا وحين قام البناء السياسي الاعوج عليه شكا من الطائفية التي هي نتيجة لمقدمة اقترحها بنفسه، يا لفلاسفة المحاصصة! ما أدهشني حقا كان التركيز على كون العراق يتكون من اطياف متنوعة وكأنه البلد الوحيد في العالم الذي يتصف بهذا التنوع ويجري ذكر السنة، الشيعة، الاكراد وكأنهم غرباء عن بعضهم وسقطوا من كواكب اخرى بالصدفة على ارض العراق، وهذا تغافل عن كون السنة والشيعة عربا والاكراد والعرب مسلمون وان جميع الاقليات الاخرى عراقيون يعيشون على هذه الارض منذ الاف السنين، فهل يوجد في العالم بلد فيه إمكانات للتماسك والوحدة أكثر من العراق؟ هذه الخلفية العامة التي انطلق منها سؤال: من نحن؟
* من يسرق النار هذه المرة؟ سؤال الافتتاحية او افتتاحية السؤال للعدد الرابع، هل تريد ان تقول فيها ان مسارات سرقت الاضواء من بقية المطبوعات الثقافية؟
لم اقصد ذلك اطلاقاً، بل تناولت بالسؤال المبدع العراقي ودوره، فليس هناك برومثيوس يسرق النار لمصلحة المبدع العراقي، بل يتعين عليه ان يلعب هو دور سارق النار هذه المرة. لكن إذا كانت هناك اشارة للمجلة بهذا الصدد فأنا أستطيع أن أؤشر على كون مطبوعنا الثقافي (مسارات) يحتفظ بنكهة الشعور الجماعي بالعمل الابداعي، فقد حاول ان يتجاوز- مطبوعنا- منذ عدده الأول بعض الثنائيات البغيضة التي باتت تفتت العقل العراقي كثنائية عراقيي الداخل- عراقيي الخارج، وذلك بتقديمنا نحن (في الداخل) ملفا عن أهم شعرائنا في الخارج في إطار دعوة للانفتاح تحقيقا لغاية تتمثل بإندماج ثقافة الداخل والخارج في مسار واحد يسهم في بناء الأنا العراقية في وقت نحن احوج ما نكون فيه للتوحد والاندماج لبناء ثقافة تؤسس لهوية عراقية ما دمنا نؤمن بأنه ليست هناك ثقافة داخل وخارج، بمعنى ان هم المثقف واحد ومصادر الثقافة واحدة والتاريخ واللغة والهموم والمستقبل متصلة بوشائج قوية.
* أعقب ذلك اهتمامكم بعمل مجموعة ملفات عن مبدعين عراقيين، كيف تقيم اهتمامكم بخصوصية الإبداع العراقي؟ فالبعض يتهمكم بالمبالغة في الاحتفاء ببعض الاسماء.
-لم يكن هذا الاهتمام يخرج عن إطار الاحتفاء بروح الابداع العراقي المؤسس للمستقبل. فكان احتفالنا بالروائي علي بدر من خلال تقديم شهادات عالمية وعربية، كما تضمن عددنا الثالث احتفاءً بتجربة المسرحي قاسم مطرود والقاص المبدع لؤي حمزة عباس. وتضمن عددنا الرابع ملفا عن الشاعر البصري طالب عبد العزيز. كانت هناك رسالة مضمرة في قلب هذا الاحتفاء تريد ان تضع الرمز الثقافي داخل افقه، لا سيما وأننا نعاني من اشكالية عدم وجود رمز توافق وطني، مهمة الثقافة اليوم خطيرة ودور المثقف مصيري بهذا الخصوص، قل لي بربك هل تستطيع اعادة تعريف السياب او الجواهري على اساس طائفي؟ هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإن الكثير من دول العالم تنظر لمبدعيها على انهم رموز وطنية قبل كل شيء، فهم باقون الى الابد كإيقونات يطرزها الاحساس بالعظمة وتشعل الحكومات الشموع في سبيل احياء ذكراها. انظر إلى همنغواي الذي يلتفت اليك الاميركي حين تتحدث عن ادبه وكأنه رمز وطني، ولو شتمت بوش او ريغن لما اهتز طرفه! انظر إلى فولتير وبروست وسارتر انهم يظلون يمثلون الامة الفرنسية حتى لو سقط ديغول ورحل ميتران وفسد شيراك. امريكا هي همنغواي وفوكنر وفرنسا هي فولتير ومونتسكيو وبروست وكامو وكولومبيا هي ماركيز وروسيا تظل هي ديستوفيسكي وتولستوي حتى لو انهار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية ونسي لينين وفضح ستالين والعراق ليس مجموعة الحكومات والانظمة المؤقتة التي ابتلي بها هذا الشعب، فالعراق سيبقى ما دام مبدعوه احياءً في ضمير أمتهم. انطلاقاً من هذا نحن بحاجة لرموز ثقافية نعمق فيها الاحساس بهويتنا، بحيث إذا لم تكن موجودة فعلينا اختراعها. وكم من أمة اخترعت ابطالها في سبيل الحفاظ على دوامها واستقرارها و تماسك هويتها، فالامم لا يصنعها الابطال والانبياء والفلاسفة، بل هي تقوم بخلقهم في مواجهة تحديات وجودها وبقائها. وفوق ذلك فنحن نطرح من عقولنا وقلوبنا تلك النرجسية التي ميزت سلوك مثقفينا وأطرت ثقافتنا، قل لي بربك كم من مثقفينا ومبدعينا كتبوا عن اقرانهم وابناء جيلهم. وكأن هناك حربا شعواء يخوضها الجميع ضد الجميع والجيل ضد الاخر ومثقفو الداخل ضد الخارج والعكس بالعكس. مساراتنا أرادت أن تضع القضية على طاولة وضعنا المأزوم ومصيرنا المجهول وذلك من خلال اهتمامنا بالمبدع العراقي الذي اقل ما يمكن عمله بالنسبة له هو تخصيص ملف له في مجلتنا. من جهة اخرى فقد اردنا رفعة درجة الادراك بكون جميع مثقفينا قد باتوا أول من يطالبون بتوحيد مشروعهم الثقافي على اساس من رؤية معرفية واضحة أو خارطة طريق فكرية متماسكة، وهذا المشروع الثقافي لتأسيس (هوية ما هو دائم) هو الالتزام الوطني الحقيقي لاستيعاب الواقع المتشظي والمحمل بشتى انواع الرؤى الخلاصية التي تعكس منطلقاتها، المصالح الدولية والاقليمية والفئوية، فالمثقف اليوم مطالب بتحليل الواقع القائم بهدف استيعابه والاحاطة بمسالكه ومن ثم ادارته كما يجب وهو بهذا يرسم خطوة ايجابية عن مختلف الطروحات السياسية التبريرية التي تعكس المصالح الخاصة المتطابقة مع او ضد اتجاه ما، قد لا يعبر عن مطمح الشعب في بناء دولته المعاصرة.
* إذاً، هل أصبح المبدع العراقي سارق النار هذه المرة؟
نعم، إذا كانت السياسة وباءً على البلد، وسياسيونا يعجزون عن توفير الخلاص والنزعة العسكرتارية متجذرة والاحتلال وضعنا في نفق متاهة لا تؤدي الى مخرج، وجرى على نطاق لم يشهد له تاريخنا مثيلا طوأفة للسياسة (ردها للطائفة)، بل طوأفة للاعلام وللعقل الذي ندافع عن بنائه ووحدته، اريد أن اقول انه لم يبق لنا سوى ان نتمسك بالثقافة ونعمقها ونؤسس بها ما هو قادم، فقد باتت تمثل خط الدفاع الاخير عن الهوية وهي رهاننا الاوحد بوصفنا معبرين عن الضمير العراقي ومرتبطين بجذور امتنا كحفظة لهذا التاريخ وحراسه. إذا تدمرت المدن ونهبت المتاحف واحرقت الكتب وزور التاريخ، وتلوثت السياسة وقصف القلب، فلم نزل نحتفظ بوعينا الذي يستطيع ان يؤتمن على كنوز العقل العراقي.
هذا الوعي الذي نحفر به الزمن هو مفتاح وحدتنا، وليس هناك ما يوحد (الداخل- الخارج) أكثر من الاحساس الواعي بوحدة الهوية العراقية، وقد حاولت مساراتنا بجهد المبدعين في (الداخل- الخارج) تعميق هذا الوعي بطرق شتى قد لا يكون أبعدها عن الحقيقة، تأجيج الحراك النقدي بشكل خاص والثقافي بشكل عام من خلال تقديم ملفات مهمة كملف العدد الاول عن النقد الثقافي وملفنا عن التاريخية الجديدة وملفنا للعدد الرابع الذي احتوى مشاركات غنية عن بول ريكور بهدف تعميق وتقديم رؤى جديدة لتاريخنا وادبنا وثقافتنا وسعينا في العدد السادس لاصدار ملف مهم عن المفكر العراقي علي الوردي، فمسارات مجلتنا كما ذكرت في أولى افتتاحياتها متفتحة على الآخر مثلما هي منفتحة على الأنا العراقية ورصيدها الحضاري العظيم واحتياطها الروحي المتجدد، وهي ستظل مسارات لعراق واحد.