ميثم الجنابي: العراق ليس تجمع أعراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حوار مع البروفيسور ميثم الجنابي:
ديكتاتوريات الاحزاب والميليشيات العراقية نموذج الخراب المعنوي والمادي
صفاء ذياب من بغداد: قبل ان يكمل دراسة الدكتوراه في موسكو في العام 1991، ونحن نتابع ميثم الجنابي، الباحث الذي أخذ على عاتقه تحليل الفكر الإسلامي بشكل جديد،
* تحدثت كثيراً عن الهوية العراقية، وأصدرت أكثر من كتاب بهذا الخصوص. كيف تنظر للصراع العراقي المتمثل بالسني الشيعي، الكردي العربي، الإسلامي العلماني، الليبرالي الراديكالي.... وغيرها من الثنائيات، وهل تنتج هذه الثنائيات هوية عراقية واضحة الملامح؟
- إن إشكالية الهوية الوطنية والقومية هي إشكالية الماهية المرفوعة إلى مصاف الإدراك الذاتي. ومن ثم فإن ظهورها عادة ما يرافق مراحل السقوط والنهضة. بمعنى أن ظهورها وتطورها، وضمورها وتلاشيها يرتبط بمستوى تطور الوعي الذاتي للأمم. والوعي الذاتي جزء من صيرورة الدولة والمجتمع والثقافة. وهو السبب الذي يفسر سر إشكالية الهوية الوطنية في ظروف العراق الحالية. إذ إننا نقف أمام حالة مأساوية من ضمور وتلاشي الدولة والمجتمع والثقافة. وفي هذا أيضاً تكمن مقدمات الطابع الحاد لهذه الإشكالية. مع أن فكرة الهوية بحد ذاتها ينبغي أن ترتقي في ظل التطور الطبيعي للدولة والمجتمع والثقافة إلى مصاف المرجعية العليا. بمعنى علوّها عن الخضوع للشك والجدل والاعتراض وما شابه ذلك. والقضية ليست فقط في أن الهوية بحد ذاتها هي فكرة متسامية فحسب، بل ومرجعية متراكمة في مجرى التطور التاريخي والثقافي للأمة، ومن ثم ليست محكومة بالسلوك السياسي والإيديولوجي العابر للأفراد والجماعات والأحزاب.
فعندما نقول "الهوية العراقية" و"الهوية العربية"، فإننا نقصد بذلك وجود فكرة متسامية، أي أكثر تجريداً وجامعاً للانتماء الوطني والقومي. وبالقدر ذاته هي مرجعية متراكمة في مجرى التطور الثقافي للعراق على امتداد تاريخه العريق. وهي الفكرة التي وضعتها في مبدأ "أن العراق ليس تجمع أعراق" وان "الهوية العراقية هي صيرورة تاريخية وكينونة ثقافية". بمعنى أنها تتسامى عن جزئية الأقوام المتراكمة في تاريخه الثقافي (من عصور ما قبل الطوفان وحتى الآن) وتتمثلهم في حصيلة الإبداع الثقافي المتآلف فيما أدعوه بوحدة المكونات الرافدينية العربية الإسلامية. ومن ثم فأن أي خروج على هذه الفكرة هو خروج على حقيقة الهوية العراقية. وهي نتيجة مرتبطة أساساً بالوعي بشكل عام، والوعي الذاتي بشكل خاص. فكلما كان الوعي الذاتي أكثر تمثلاً لفكرة الهوية بوصفها مرجعية (بالمعنى المشار إليه أعلاه) كلما كان أقرب إلى ماضي وحاضر ومستقبل العراق. وليس مصادفة أن تظهر هذه الخلافات الحادة بصدد الهوية العراقية مع أنها ينبغي أن تكون عاملاً جامعاً، وذلك لأنها فكرة متسامية ومرجعية ثقافية.
بعبارة أخرى، إن الانحطاط الثقافي والسياسي والاجتماعي هو السبب الذي يحكم هذا الخلاف والاختلاف بين القوى المتصارعة حالياً. إنه خلاف التخلف وليس التقدم. بمعنى أن الديناميكية الوحيدة فيه هي لنفسية التجزئة والانحطاط. فالرجوع إلى الطائفية والعرقية والقومية الضيقة هو احد معالم الانحطاط. فالصراع الواقعي والممكن بين التيارات الدينية والقومية والإيديولوجية هو جزء من حيوية المجتمع في حال مساهمته في ترسيخ أسس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي السياسي والثقافة العقلانية واحترام حقوق الإنسان وفكرة المواطنة. أما حالما يكون جزء من صعود الطائفية والعرقية والراديكالية والأصولية فإنه دليل على السقوط. وضمن هذا السياق لا يمكن لهذا النوع من الخلاف (أو ما تدعوه بالثنائيات) أن يسهم بشيء غير تعميق وتوسيع معالم الخراب والدمار! ولا شيء آخر!
* تحولت الأحزاب الإسلامية العراقية سنية وشيعية إلى ميليشيات، كيف يمكن لفكر يُفتَرض أنه كان مقموعاً أن يتحول إلى بديل عن السلطة القمعية السابقة، وهذا ما نلاحظه لدى أغلب حركاتنا الإسلامية في العراق؟ وهل الضحية، فعلاً، تحمل صورة الجلاد؟ وهل ترى أن في الأفق سيطرة ديكتاتورية جديدة على السياسة العراقية؟
- إن تحول الضحية إلى جلاد ظاهرة ليست جديدة في التاريخ العالمي. بل يمكننا العثور عليها في تاريخ اغلب الدول. وتبرز بصورة قوية زمن الانقلابات الحادة والمفاجئة، أي زمن الانقلابات الراديكالية. بمعنى أنها تستظهر تاريخ العذاب القديم والتشفي منه. وليس مصادفة أن تسود في زمن من هذا القبيل لغة العنف والتهديد والانتقام، أي كل مظاهر النفس الغضبية. وهي حالة يمكن الكشف عنها في تاريخ كل الثورات والانتفاضات والانقلابات الحادة، بما في ذلك أكثرها أثرا في التاريخ العالمي الحديث بدءاً بالثورة الفرنسية ومرورا بثورة أكتوبر وانتهاء بمختلف الثورات المحلية والإقليمية. ففي نشيد الثورة الفرنسية ولاحقا في ثورة أكتوبر نعثر على كلمات الانتقام العنيف والقضاء على الماضي وأهله وتحويل المعدوم إلى مالك كلي ومن كان لا شيء إلى كل شيء!
ولا يشذ العراق عن هذه الحالة. على العكس! إن ما يجري فيه، من الناحية الموضوعية، يبدو أكثر تساهلا واقل عنفا وأكثر مرونة و"إنسانية". فقد كان زمن الدكتاتورية الصدامية والتوتاليتارية البعثية هو تراكم اللامعنى والعنف وكل أشكال الغريزة وثقافة الجسد المنحطة. لقد افرغا المجتمع والفرد والوعي من كل مقومات الاستقلالية والروح الإنساني الاجتماعي. وهو فراغ كان يمكنه أن ينتج أمواجاً من العنف غير متناهية. وما يجري في ظروف العراق الحالية ما هو في الواقع سوى المظهر الخارجي لما كان يعتمل في أعمق أعماقه، أي لكل المخزون السيئ المتراكم في كل مسام الوجود الاجتماعي للعراق والعراقيين. وذلك لان صعود الراديكاليات بشكل عام والدينية منها بشكل خاص هو دليل على طبيعة الانحطاط والرجوع القهقرى للدولة والمجتمع والثقافة. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن صعود هذه الحركات جرى في ظل تحول عاصف محكوم بتدخل خارجي وخواء داخلي وتجزئة شاملة للمجتمع والدولة والفرد والعقل والضمير من هنا فقدان البوصلة الاجتماعية والوطنية في سلوكها العام والخاص. وهي صفة تطبع سلوك الأحزاب السياسية العراقية جميعا وليس الإسلامية منها فقط.
إن جميع الأحزاب السياسية الحالية في العراق لم تعرف الحياة الديمقراطية والشرعية. لقد كانت حياتها محكومة بعنف شامل ومركب من جانب الدكتاتورية. وهي ممارسة لم يكن بإمكانها أن تنتج غير مسخ أو مسوخ متنوعة. وما يجري في ظروف العراق الحالية ينبغي تفسيره ضمن هذا السياق. غير أن ذلك لا ينفي مسؤولية الأحزاب والحركات السياسية الإسلامية. إذ إن وراء تاريخها السياسي المليء بالعذاب والحرمان تاريخ عريق للفكرة الجمعية والروح الأخلاقي والعقائد المتسامية. وهو احد مصادر الأمل في إمكانية الارتقاء التدريجي لهذه الحركات صوب التأقلم الاجتماعي والوطني. إنها عملية معقدة ولكنها ممكنة. فالتخلص من نفسية وذهنية العسكرة التي عاشها العراق في مجرى العقود الثلاثة الأخيرة والحروب غير المتوقفة ليس بالأمر السهل. لكننا يمكن أن نلمح بعض مظاهره الأولية. وهي مظاهر تجري من خلال صراع عنيف ودموي بسبب طبيعة الانقلاب الحاد الذي جرى في العراق ومستوى التدخل الأجنبي وضعف القوى الذاتية العراقية بشكل عام والوطنية العقلانية منها بشكل خاص. إن كل هذه المكونات وتاريخها ونتائجها الحالية تجعل من الممكن النكوص صوب نمط من الحياة السياسية يستعيد ما في المرحلة السابقة، لكنه لا يستطيع إعادة إنتاجها أو نسخها كما هي، بفعل طبيعة التحول التاريخي العنيف الذي جرى في بنية الدولة وتناسب القوى الاجتماعية والفرز الطائفي والجهوي والقومي.
بعبارة أخرى، إن العراق يقف أمام آفاق لا تخلو من المجهول والغرابة، لكنها تحتوي عموما على قدر من الايجابية يقوم في كسر حاجز الطريق المسدود الذي صنعته الدكتاتورية الصدامية والتوتاليتارية البعثية. ومع انهياره اندفعت أمواج الفيضان الطائش للعراق. وهو فيضان ينبغي أن تصل مياهه إلى أقصى ما فيه من اجل الهدوء والجفاف ومن ثم ظهور الأعشاب الجديدة والنباتات والأشجار. إنها عملية تاريخية مديدة ومعقدة ولا تخلو من درامية بما في ذلك محاولات ظهور ما أسميته بدكتاتوريات جديدة. إنها ظاهرة ممكنة وهي موجودة بالفعل في كل مكان! دكتاتوريات الأحزاب الدينية والعرقية والميليشيات والمرجعيات الشيعية والسنية وكل نماذج التخلف المادي والمعنوي. إنها الاستمرار "الطبيعي" لزمن الخراب. لكنها دكتاتوريات جزئية وليست شمولية كما كانت في الماضي. إنها تفعل بدون وعي على تكسير التوتاليتارية من خلال احترابها وصراعها. وهي عملية مؤلمة وغير مرئية لحد ما، لكنها الأسلوب الواقعي الوحيد فيما يبدو من اجل المرور بما ادعوه بدروب الآلام وتطهير النفس!
* كيف استطاع العراق أن يعيش كل تلك المدة السابقة هذه التناقضات التي خرجت الآن، وهل ثمة بديل لتأسيس حكومة بعيدة عن المحاصصة الطائفية والأحزاب التي بدأ الشارع العراقي برفضها تماماً؟
- إن الفرد يعيش بحسب ما فيه. وينطبق هذا على الجماعة والمجتمع والأمة والدولة. وما جرى في العراق ويجري هو مظاهر لما فيه وفي أعماقه غير المرئية. أما التناقضات فإنها مصدر الحياة والحيوية. لكن خصوصيتها في ظروف العراق الحالية تقوم في انتشار وسعة الأبعاد غير العقلانية فيها. بل يمكنني القول بأن اللا عقلانية هي الصفة الأكثر انتشارا في ظروف العراق الحالية على مستوى الحياة المادية والروحية. وهي صفة ينبغي البحث عنها في زمن الراديكالية الذي حكم العراق في مجرى كل النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الآن، أي منذ انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 وحتى الآن. وهو زمن التخريب الدائم للمؤسسات وبذور المجتمع المدني وفكرة الشرعية والتعددية وقيم التسامح والنمو التدريجي وغيرها من القيم الضرورية بالنسبة للعقلانية والاعتدال.
وتوجت التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية هذا التخريب عبر تحويله إلى "منظومة" تحكم وجود الأشياء والمفاهيم والمبادئ والقيم!! وليس غريباً أن يجري انقلاب كل شيء في العراق. بحيث تصبح الحركة القومية العربية القوة الأكثر تخريبا للفكرة القومية، وان تصبح الشيوعية من مناهض للامبريالية إلى خادم وضيع لها، وان تتحول الحركة التحررية القومية الكردية إلى عميل مائة بالمائة وأداة طيعة لقوات الاحتلال، وان تصبح الحركات الإسلامية أصوليات مخربة ودموية بلا حدود، وان تفتقد الليبرالية لمعنى الحرية. وينطبق هذا في الواقع على كل القيم والمفاهيم والمبادئ. بحيث أدى في نهاية المطاف إلى ما يمكن دعوته بفوضى القيم والمفاهيم وخراب العقل والضمير. أما النتيجة فهي وجود أشباح بلا أرواح، وغريزة فريسة، ولسان بلا قلب، ويصر بلا بصيرة!! والنتيجة الفعلية على مستوى الحياة الاجتماعية هو سيادة مجتمع الرعاع والهامشية وفقدان الاحتراف. ودولة بلا دولة، أي جغرافيا هلامية للسلب والنهب، وسلطة بلا رادع أخلاقي وقانوني.
إنها حالة حرجة ومأساوية إلى أقصى الحدود لم يمر بها تاريخ العراق الحديث. إنها التعبير النموذجي عن الخروج غير العقلاني على فكرة الاعتدال والشرعية والحق. من هنا فإن ما يجري فيه حاليا ليس غريبا. بمعنى أن العراق كان يعيش هذه المتناقضات المحكومة بقوة العنف والقهر والإرهاب المنظم للدكتاتورية. وانفلاتها هو مقدمة إعادة ترتيب الدولة والمجتمع والثقافة والحق والشرعية. وهي حالة مفارقة لكنها واقعية. ذلك يعني أن العراق بحاجة إلى مسار طبيعي من اجل اعتدال الإنسان والفكرة والممارسة. وهو الأسلوب الوحيد القادر على تذليل خلل الدولة والمجتمع والأحزاب والمحاصصة الطائفية، عندما يصل الجميع أو الأغلبية إلى إدراك قيم العقلانية والمواطنة والشرعية. وهي قيم ومفاهيم ومبادئ لا يمكن صنعها بين ليلة وضحاها. إنها منظومة معقدة لا سبيل لتأسيها إلا عبر تراكمها التدريجي. وهو تراكم يحدث بصورة بطيئة وتدريجية وسط كل هذا الركام الخرب. ومن ثم فإن البديل الواقعي والعقلاني للأحزاب الحالية والمحاصصة وما شابه ذلك هو من نصيب المستقبل والقوى الاجتماعية الصاعدة. إن كل الأحزاب العراقية الحالية هي أحزاب زمن الخراب. وهي حاملة الخراب أيضا، لكنها تؤدي وظيفة المواد المحروقة. وهي حالة ليست غريبة في مراحل الانتقال العاصفة.
* هل هناك صحوة إسلامية حقيقية ضمن المفهوم المعلن عنه من قبل الحركات الإسلامية، وماذا تقصد بالمركزية الإسلامية التي طرحتها، وما آلياتها؟
- إن للصحوة مضمون مباشر يقوم في اليقظة بعد النوم ومضمون رمزي يشير إلى اليقظة وإعادة النظر بالأمور. وفي كلتا الحالتين عادة ما تلازم هذه الحالة تشوش في الرؤية والإدراك. وهي حالة طبيعية. كما أنها حالة طبيعية بالنسبة لمختلف مراحل التطور التاريخي للأمم والأديان. ولا يشذ تاريخ العالم العربي والإسلامي عن ذلك. وهي "صحوة" لها تاريخها الطويل نسبيا عندما برزت للمرة الأولى بهيئة حركات إسلامية إصلاحية فكرية وسياسية. لكنها تعرضت للانقطاع في بداية القرن العشرين، وعادت للظهور منذ خمسينيات القرن العشرين نفسه وتراكمت في مجرى الفشل المتراكم للتحديث والعصرنة وبناء الدولة.
بعبارة أخرى، إن ازدياد وفاعلية "الصحوة الإسلامية" كان وما يزال مرهونا بازدياد خراب الدولة والشرعية والثقافة. ذلك يعني أن "الصحوة الإسلامية" كما تفهمها اغلب الحركات والأحزاب الإسلامية المعاصرة ما هي في الواقع سوى الصيغة "الإسلامية" المقلوبة للخراب والتخلف أو الأزمة البنيوية الشاملة للدولة والمجتمع والنظام السياسي والثقافة العقلانية. فإذا كانت الحركة الإصلاحية الإسلامية لنهاية القرن التاسع عشر- بداية القرن العشرين جزء من العملية الصاعدة للنهضة القومية والإصلاحية الكبرى، فإن ظهور وتراكم "الحركات الصحوية" الآن هو جزء من زمن السقوط الذي لازم سيادة الأنظمة الراديكالية والدكتاتوريات العسكرية والرخويات البترودولارية. وهي عملية معقدة يصعب الجواب عليها بعبارة واحدة أو بشكل وحيد الجانب. لكنها تبقى جزء من تاريخ الواقع السياسي والفكري والإيديولوجي والروحي الحالي في العالم العربي.
إن وجود الحركات الإسلامية ضرورة، ولكن بوصفها جزءاً من التعددية السياسية والفكرية المحكومة بمرجعية التعددية والنظام الديمقراطي السياسي والدولة الشرعية الدنيوية (العلمانية). وهي عملية تشق لنفسها الطريق رغم كل تعقيد مرحلة الانتقال الكبرى الحادثة حاليا في العالم العربي. فقد كان وما يزال ثقل التقاليد الدكتاتورية والتوتاليتارية والعنف المنظم واغتراب السلطة وضعف المجتمع المدني وانتشار البنية التقليدية في الوجود والوعي جاثما على الفكر والعقل والضمير. وهي مكونات تعتاش عليها "الصحوة الإسلامية" رغم أنها تخرّب ما في مساعيها من أهداف معلنة عن "الأصالة" و"الاستقلال" و"الحرية" و"التضامن" وما شابه ذلك من شعارات وقيم. وهي شعارات وقيم دنيوية خالصة (أي ليست دينية). وكلما اقتربت الحركات الدينية من فهم ما ادعوه بالإسلام الثقافي، كلما تقترب أكثر من الضمير الاجتماعي والروحي للتاريخ الإسلامي. وبغض النظر عن صعوبة هذا الإدراك أو إمكانية الحلم به الآن من جانب اغلب الحركات والأحزاب الإسلامية، إلا أنها سوف تسير صوب هذا الاتجاه في العقود القليلة القادمة. وهي العملية التي ادعوها بصيرورة المركزية الإسلامية، بوصفها صيرورة ثقافية تاريخية لا علاقة جوهرية لها بالدين كدين. وهي قضية تناولتها بإسهاب نسبي في كتابي (الإسلام في أوراسيا) وفي عدد من الدراسات الخاصة بهذا الصدد.
* التطرف الإسلامي ليس جديدا على مجتمعاتنا، فمنذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، حتى تشكيل حزب الدعوة الإسلامية في العراق، مرورا بالعديد من الحركات الإسلامية الجديدة... فما الذي دفع هذه الحركات الآن إلى إعلان مبدأ القتل والتصفية الجسدية بعدما كان كيانها هو السيطرة الفكرية على المجتمع؟
- إن الحركات الإسلامية السياسية الراديكالية والمتطرفة هي جزء من تقاليد وتراث الراديكالية والتطرف السياسي العربي. وهي ظاهرة لا تخص العالم العربي أو الدين الإسلامي بل العالم والأديان اجمع. بمعنى أن بروز التيارات الراديكالية والمتطرفة هو مؤشر على وجود خلل في بنية الدولة والنظام السياسي والثقافة. باختصار إنها تظهر وتترعرع وتتقوى في ظل الأنظمة السياسية غير العقلانية وفي زمن الأزمات البنيوية الشاملة والانعطافات الحادة. بمعنى أن تطرفها يعكس في الأغلب مستوى الانحراف عن المجرى الطبيعي للتطور التاريخي. وضمن هذا السياق يمكن النظر إليها باعتبارها نتاجا طبيعيا. إلا أن غير الطبيعي فيها عندما تكون الصيغة السائدة والأكثر انتشارا وتأثيرا في الحياة العامة.
وخصوصية الظاهرة في العالم العربي تقوم أساسا في سيادة التقاليد الراديكالية والتوتاليتارية منذ خمسينيات القرن العشرين. وهي ظاهرة ارتبطت بصعود ما يسمى بالتيارات الثورية العلمانية، التي لم تكن في الواقع أكثر من حركات مغامرة ولا تتمتع بأدنى قدر من العلمانية (الدنيوية). فالدنيوية (العلمانية) هي منظومة تشمل الدولة والنظام السياسي والثقافة والتربية والتعليم والحياة الفردية والاجتماعية، في حين كانت "علمانية" الحركات الثورية هي أسلوب مواجهة القوى السياسية الدينية (الإسلامية) والإلحادية (الشيوعية)!! وليس مصادفة أن تنقلب في أواخر أيامها إلى مرتع لإنعاش الحركات الأصولية وانتعاشها!! وفي هذه المقدمات ينبغي البحث عن ظهور واستفحال تقاليد العنف، بما في ذلك الإسلامي.
فالتيارات الإسلامية المتطرفة والمتشددة هي الوجه الآخر لتقاليد الراديكالية والدكتاتوريات "العلمانية". وكل منهما يكمل الآخر في مجال التخريب الشامل. وذلك لأنهما يشتركان في النزوع التوتاليتاري (الأصولي)، بمعنى محاولة فرض تصوراته وقيمه ومفاهيمه على الدولة والمجتمع والثقافة وحياة الفرد الشخصية والعامة. وهي محاولة لا مستقبل لها على الإطلاق، لأنها تتعارض مع منطق التطور التاريخي الحديث ومع فكرة الحرية. أما استفحال الظاهرة في العالم العربي فيمكن النظر إليها على أنها "التجربة الأخيرة" للمحاولات البائسة لتسييس الإسلام بطريقة تجعله أكثر اغترابا وغربة. وقد تكون هي العملية الطبيعية أيضا من اجل أن تتبلور وتتراكم الفكرة العقلانية والمعتدلة بين التيارات الإسلامية لكي تعي بطريقتها الخاصة ما ادعوه بالدنيوية (العلمانية) الإسلامية، أي تلك التي تفصل الدين عن الدولة وتجعله مجرد احد المصادر العامة والخاصة للحياة الروحية والثقافية.
* أصبحت النخب المثقفة العراقية بعيداً عن الشارع والمجتمع، على عكس ما كانت عليه أيام الأربعينيات وحتى السبعينيات، كيف يمكن للثقافة والوعي أن يؤثرا بالمجتمع؟ وما آليات تأثيرهما الآن؟
- إن الثقافة والمثقفين كانا وما يزالان مصدر القلق الأكبر للأنظمة الدكتاتورية والمتخلفة. وليس هنا من ضرورة للاستفاضة بالحديث عن طبيعة الدكتاتورية الصدامية في العراق. فقد كانت هي الأتعس والأرذل من نوعها في التاريخ العالمي الحديث. من هنا يمكن تحسس وتلمس وإدراك حجم الخراب الذي تعرضت له الثقافة العراقية، ومن ثم مثقفيه. فقد أنتجت التوتاليتارية والدكتاتورية في العراق "منظومة" لا مثيل لها في تفريغ العقل والضمير. ومن ثم تحويل الثقافة إلى بوق وطبول وغجر، وعملت كل ما في جهدها من اجل تحويل المثقف إلى مرتزق وهراوة!! وقد تناولت هذه القضية بإسهاب في كتبي (العراق ومعاصرة المستقبل) و(العراق ورهان المستقبل) عندما شرحت طبيعة التوتاليتارية البعثية وأثرها في الثقافة، ومهمات الثقافة البديلة. فقد استطاعت الدكتاتورية أن تقلع المثقف والثقافة من جذورهما، تماما كما فعلت مع الاهوار، عبر تجفيف منابعهما. وقد أنتجت فعلا صحراء الروح التي نعثر على انعكاسها المباشر وغير المباشر في ظواهر العنف والإرهاب والسرقة والفساد والدجل والرياء، باختصار في كل مظاهر الانحطاط المادي والمعنوي للعراق في ظروفه الحالية. من هنا جلاء الخلاف والفرق بين ثقافة ومثقفي العراق قبل السبعينيات وما بعدها.
فقد كان تاريخ العراق حتى بداية السبعينيات تراكما رغم انقطاعه النسبي بعد الانقلاب الدموي عام 1963. ومنذ السبعينيات تحولت الثقافة في عرف السلطة إلى أداة للتطويع والقهر السياسي. وفي هذه "السياسة" يكمن الإدراك المشوه للأنظمة الدكتاتورية التي تتحسس بغريزتها قوة الكلمة وخطورة الفكر الحر. وهو تحسس يمكن فهمه على حقيقته، وذلك لتعارضهما وتضادهما التام والشامل، بل وتناحرهما الكامل. وهو واقع يعيد من جديد السؤال حول الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة والمثقف في إعادة تأسيس الحياة العراقية، بمعنى الاشتراك الفعال في تناول وحل إشكاليات الحياة واستشراف المستقبل بمعايير العقلانية والنزعة الإنسانية والمصلحة الوطنية والقومية العليا. وهو أمر يفترض التحرر من العبودية لأي طرف أو إيديولوجية أو حزب، والعمل بمقاييس الفكرة الحرة، بمعنى العمل من اجل التكامل بمعايير الحقيقة. فهي الوسيلة والأسلوب الذي ينقذ المثقف والثقافة والسلطة على السواء. وهو أمر يفترض في ظروف العراق الحالية تجسيدها وتحقيقها ضمن حلقات ما أسميته بالانتقال الديناميكي من الأخلاق إلى السياسة ومن السياسة إلى الثقافة، بوصفها سلسلة الالتزام العملي للثقافة تجاه الإشكاليات الكبرى التي تواجه العراق بعد مرحلة التوتاليتارية والدكتاتورية. ويمكن تجسيد هذه الحلقات من خلال تحقيق ثلاث مهمات كبرى على مستوى الأفكار والأعمال وهي: أولا: ألا تتحول الثقافة إلى أداة لطحن الحقائق وتحويلها إلى مساحيق لتغطية تجاعيد السلطة وتجميلها. وفي ذلك تتجلى حقيقة المهمة الأخلاقية للثقافة. ثانيا: نقد "قدسية" الواقع والقيم والأفكار أيا كان مصدرها وشكلها. وفي ذلك تتجلى حقيقة المهمة السياسية للثقافة. ثالثا: التأسيس النظري والعملي للبدائل والالتزام الشخصي بالاستنتاجات المترتبة عليه. وفي ذلك تتجلى حقيقة المهمة الروحية للمثقفين.
* طرحت مفهومك للاستعراق، بماذا تحدد شروطه، وما النتائج التي تتوقعها لو طبق هذا المفهوم في ظل الفوضى والقتل المجاني في العراق؟
- إن فكرة الاستعراق التي أعمل على تأسيسها الفلسفي تستمد مقوماتها من فكرتي عما ادعوه بفلسفة البدائل الثقافية. وهي فلسفة مهمتها فهم الواقع والتاريخ وتأسيس الرؤية المستقبلية بمعايير الرؤية الثقافية. وما وضعته بهذا الصدد في ثلاثيتي عن العراق (العراق ومعاصرة المستقبل، العراق ورهان المستقبل، والعراق والمستقبل - زمن الخراب وتاريخ البدائل) ترمي من حيث الجوهر إلى كشف بعض معالمها وتطبيقها العملي وتحقيقها النظري من خلال تناول مختلف إشكاليات العراق الحالية، وبالأخص إشكالية الهوية الوطنية والقومية للعراق. والاستعراق لا يعني بأي حال من الأحوال رؤية قطرية ضيقة أو قومية جزئية، على العكس أنها محاولة تأسيس حقيقة الهوية العراقية من خلال استمدادها من تاريخه الخاص والعام، أي من تاريخه الرافديني العربي الإسلامي. وإبراز خصوصيته في هذه الصيرورة التاريخية والكينونة الثقافية التي لعب فيها هو دوراً جوهرياً. ومن خلال ذلك إعادة بناء الهوية العراقية بوصفها هوية رافدينية عربية إسلامية (بالمعنى الثقافي). وهي الرؤية القادرة على تذليل معالم الجزئية والإيديولوجيات المغتربة عن تاريخ العراق ومرجعياته الثقافية الخاصة. كما أنها تهدف إلى إرجاعه إلى عالمه العربي وتذليل تطرف القوى العرقية والطائفية التي تحاول أن تنزع عن العراق هويته الذاتية!! والقضية هنا ليس فقط في حماقة هذا التوجه، بل ولكونه يصدر من معشر وقوم هامشي (بالمعنى التاريخي والثقافي والاجتماعي) بالنسبة لحقيقة الهوية العراقية!!
ذلك يعني، أن فكرة الاستعراق لا تهدف إلى معارضة أو محاربة فكرة أو تيار أو حزب أو توجه، بقدر ما تسعى إلى إعادة تأسيس حقائق ومرجعيات الهوية الثقافية للعراق من خلال تأسيسها العقلاني والإنساني. وهي فكرة ليست إيديولوجية. من هنا قدرتها مع مرور الزمن على كشف ما فيها من طاقة وقوة قادرة على نقل الوعي الاجتماعي والسياسي صوب الرؤية الثقافية، ومن ثم تذليل مختلف أشكال الرؤية التقليدية والضيقة. وفي هذا تكمن قيمتها العملية أيضا. لكنها شأن كل فكرة لا يمكنها أن تقنع الجميع في ظل الاحتراب الأعمى والتخلف المريع في التربية السياسية والانحطاط الثقافي العام. وفي هذا تكمن ضرورتها.
إن مهمة الفكرة العقلانية تقوم أولا وقبل كل شيء في تأثيرها على النخبة (والسياسية بشكل خاص) ومن خلالها بالمجتمع. لكنها عملية شائكة في ظروف العراق الحالية. إن العراق الآن بلا عقل! ويحتاج إلى قليل من الوقت لكي تعتدل في أعماقه الأخلاط، كما كانت الفلاسفة القدماء تدعوه. فهي العملية الضرورية لكي يبلغ مزاجه حال الاعتدال!! آنذاك فقط يمكن للعقل أن يعمل بمعايير المنطق. فهي المقدمة الضرورية لتأمل الأفكار وإدراك قيمتها بالنسبة للدولة والمجتمع. إنها ثقافة خاصة افتقدها العراق بصورة شبه تامة عندما جرى الاستعاضة عن الإنسان والمجتمع والدولة والله بفرد لم يكمل دراسته الابتدائية!! من هنا ضرورة الابتداء من جديد لكي يكون بإمكان العراق إنتاج رجال دولة وليس أزلام سلطة، ومثقفين وليس مخبرين، ومفكرين وليس دعاة غواة احدهم اقرب ما يكون إلى لسان بلا قلب! حينذاك يمكن رفض أية فكرة، بما في ذلك ما أسميته بفكرة الاستعراق ما زال هذا الرفض مبني على استعداد لتقديم بديل أفضل. آنذاك فقط ستغيب بصورة واحدة وإلى الأبد الفوضى والقتل المجاني، أي النموذج الأكثر تخلفا للفتنة الاجتماعية والسياسية.