الأبنودي: الأنظمة العربية لا تبالي بستر عوراتها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سلوى اللوباني من القاهرة: يحظى الشاعر "عبد الرحمن الابنودي" باهتمام كبير في الوطن العربي فهو يعد ضمير الامة.. وذاكرة الصعيد.. ومن مؤسسي الحركة الادبية التي برزت فيها اللهجة العامية، له مكانته الخاصة فدواوينه الشعرية لا تزال تلاقي إقبالاً كبيراً إضافة الى أداءه المتميز بإلقاء قصائده التي يلتحم من خلالها مع وجدان وهموم
تحدث لـ"ايلاف" في الجزء الثاني من الحوار عن الشعر والجماهير، والشعر والاوطان، وعن الفضيحة الادبية والعلمية لسرقة أهم أعماله وهي السيرة الهلالية... كما تحدث عن إصداراته الجديدة.
*ما رأيك بما يجري في لبنان حالياً؟
- نحن نجري هذا الحوار بينما تدك الصواريخ الاسرائيلية والقذائف القاتلة غزة ولبنان، وليس عجيباً هذه الاندفاعة القومية المشتعلة لجماهير الامة وذلك النكوص والتبجح والتلكؤ والتنصل من مسئولية التضامن العربي في موقف أقرب للتعاطف مع إسرائيل عنه من الضحايا في لبنان وفلسطين، إن لبنان الجميل يدمر وجنوبه المناضل يتعرض لحرب إبادة، كذلك الامر في غزة فيما يشبه محاولات القتل الجماعية بقطع الكهرباء والمياه والجسور والطرقات وهدم قرى باسمها في الجنوب اللبناني وإحداث دمار غير مسبوق، وإن كنت رأيت ملامح له في مدينة السويس إبان حرب الاستنزاف من نفس العدو على نفس مستوى المقاومة والتي تحلم بالحرية ورد العدوان. أنه موقف ليس غريباً على الحكام العرب الذين صاروا اليد الامريكية الباطشة حاملي إشارات المرور للقوى الصهيونية وخدماً للاسرائيلين في المنطقة، وإن عدم فزعهم مما يحدث لاهلنا في فلسطين ولبنان يدل على أنهم تحولوا فكرياً بصورة كاملة الى الشاطئ الاخر الذي ينصب مدافعه ويصوبها الى صدور الامة، ولم نحرر هذه الاوطان ولن تلامس شعوبنا غدها المأمول الا من خلال مواجهة هذه السلطات في معظم البلاد العربية...أي أن الطريق الى النصر لا بد أن يمر على أجساد كل من يقف في وجه آمال الامة في كافة الانظمة العربية.
* من المعروف أنك الى جانب قليلين من أوسع الشعراء ومن أكبر الشعراء جماهيرية، فمن أين جاء ذلك؟ وهل قصدت اليه؟
- حين كنت صغيراً أستمع في قريتي أو في مدينتي الصغيرة للشاعر الشعبي يروي السيرة الهلالية أمام جمهور لا يحده البصر لاحظت تلك الوحدة العبقرية بين الشاعر وجمهوره، إذا مال مالوا..وإذا بكى بكوا..وإذا دعا رفعوا أكفهم للسماء، أي أن الشاعر يتوحد بجمهوره تماماً ويصبح الجميع بدناً واحداً وقلباً واحداً، هذا من جانب، والجانب الاخر هو عبقرية الاداء إذ أن الملحمة الهلالية مزدحمة بالشخوص والوقائع والحالات النفسية والمزاجية، من الحرب، للحب، للغربة، للضنك، للجنس، للبطولة والتضحية والنذالة، وعلى الشاعر الواحد أن ينتقل بك من مشهد الى مشهد، ومن شخصية الى شخصية، ومن موقف الى موقف، وعليه أن يفرح وأن يبكي وأن يستنجد وأن يهدد في لحظات متقاربة، كذلك بالنسبة للنساء اللاتي يقدمهن سواء كانت المرأة أميرة أو جارية أو امرأة لعوب أو امرأة تتلاعب من أجل الخديعة في الحرب الى أم ثكلى، الى أخت تنعي أخاها، وعلى الشاعر أيضاً أن يوهمك طوال الوقت أنه هو المرأة اللعوب، أو هو البطل السجين، هو الام الثكلى وهو الفارس المقاتل والمرأة التي تشجع على الحرب، هذا في النهاية ما يسمى ب "مسرح الشخص الواحد" فقد كان هذا الشاعر يغني عن فرقة مسرحية هائلة، لذلك فإن جمهوره هو الذي كان يعطيه مكانته وقيمته بقدر قدرة الشاعر على التأثير بصدق في هذا الجمهور، وقدرته أيضاً على أقناع جمهوره بأنه تلك الشخصيات، وقدرة هذا الشاعر على الانتقال بجمهوره الى زمن الرواية والاحداث والى الطبيعة الجغرافية البدوية التي هي في الغالب تعبر عن أصولهم أيضاً..هذا الجمهور الراحل من الجزيرة في فترات مختلفة والذي ما زال يحتفظ بطبائعه البدوية ولغته وقيمه وتخالفاته وثاراته.
ظلت هذه الصورة المثلى للشاعر لدي منذ الطفولة.. ومنذ لم أكن أعرف أنني سوف أكون شاعراً يوماً ما، فكرة ذلك الرجل المتفرد الواقف على مكان مرتفع عن جمهوره والذي يحرك جمهوره عاطفياً وفكرياً ويكون دائماً يحمل هذا المفتاح السري للضمير الجمعي ليس في بلده فقط وإنما يمتد تأثيره الى جمهور إوسع في نوع من الجشع المحبب وعدم الاكتفاء بتلك القطاعات من الجمهور الذي حوله، فقد كان الشعر الشعبي القديم ينتقل من محافظة الى محافظة وكانت الجماهير تزحف اليه من القرى والمدن الصغيرة مهما بعدت المسافات، وهذا ما يحدث لي تماماً.. فأمسياتي في معرض الكتاب السنوي مثلاً تجتذب الاحباب من كافة بقاع مصر ولا يوجد بها مطرح لقدم، على عكس المشهد التقليدي لجمهور الامسيات الشعرية الاخرى.
* هل السعي وراء الجماهيرية من الممكن أن يجعل الشاعر يفرط في قيم الشعر ويضحي بها من أجل الجماهير؟
- أنا من جيل الستينيات وهو جيل استيقظ على حرب فلسطين 1948 وعلى صيحات جمال عبد الناصر، وربما كتبنا قصائدنا الاولى-الشاعر العظيم الراحل أمل دنقل وأنا- في يوم واحد بعد أن تدربنا على السلاح للمشاركة في الحرب ضد العدوان الثلاثي عام 1956، فلما أبلغنا بأننا لن نذهب الى الجبهة لندافع لجأنا للشعر وكتبنا قصيدتنا في يوم واحد، هكذا ارتبط شعرنا منذ البداية بهموم الامة وهي الصورة الاوضح لفكرتنا عن إرتباط الشعر بالجماهير، ليس معنى هذا أننا كتبنا شعراً مباشراً فجاً وإنما سعينا خلف قيم الشعر العالية، وإلا لكنا سقطنا في أول الطريق وما كان لشعري أن يستمر وما كان لشعر الراحل أمل دنقل أن يظل على قيد الحياة على الرغم من رحيله، كان دائماً الشعر هو القيمة العليا في حياتنا ولا ينافسه في قلوبنا سوى عشق الاوطان، فأسسنا في هذا المعنى للشعر ليس بالصورة النفعية أو العملية ولكن استطعنا جدل الذات بالموضوع في صيغة لم نقصد اليها تماماً وإنما كأنا وهبنا إياها، فهل نستطيع أن نقول أن قصيدة أمل دنقل " لا تصالح" هي قصيدة وطنية مباشرة أو فجة، إنها عشق للشعر ولالام الامة معاً دون عدوان على قيم الشعر نفسه، ومن هنا جاءت مسيرتي الطويلة ومشواري المضني مع الشعر.
* كيف تترجم علاقتك بالشعر؟
- هو أقوى علاقة في حياتي وأكثرها حميمية إذ لا اعتقد أنني صادقت أحداً بهذا التفاني على الرغم من غدراته وغيابه والتخلي عني تماماً حين أحتاج اليه...ذلك لانها دائماً كانت علاقة من جانب واحد، فهو الذي يقرر متى يحب ومتى ينفر ومتى يأتي ومتى يغيب كأنه لن يأتي أبداً. لم أقحم نفسي عليه ولم أحاول اغتصابه وفي الحالات التي حدثت مزقت الاوراق بعد بضعة أبيات يتضح افتعالها منذ قراءة بيتها الاول، وغياب الشعر هو أقسى ما يمر بالشاعر، فبقدر ما أغدق علينا من حفاوة الناس بنا وإكسابنا تلك الملامح المحبوبة وذلك الصيت الواسع بين أهالينا إلا أن مقالبه وفصولاته مرعبة، إذ أنه من العار أن يمشي الشاعر في شوارع أحبابه لثلاث سنوات أو أكثر أو أقل بدون قصيدة جديدة، وأنا لست مع الذين يعتمون القصائد ويعنكبونها، فهؤلاء وضعوا حاجزاً رهيباً بين الشعر وشعوبنا العربية التي كانت دائماً تستضئ بقناديل الشعراء وهو نوع من الهرب من المواجهة والتورط في الحب العلني لقضايا الاوطان.
* تثار الان قضية حول إعتبار السيرة الهلالية من التراث الانساني من قبل منظمة اليونسكو وأن هناك مجموعة تسعى الى جمع السيرة.. فهل ثمة شعراء ما زالوا على قيد الحياة ليجمع منهم هؤلاء السيرة!!؟ وأيضاً ماذا يكون ما جمعته خلال 30 عاماً؟
- في عام 1967 كنت قد خرجت من الاعتقال السياسي وفي ذهني أن أجمع هذا العمل الفريد وأنقذه من الضياع وقد بدأت فعلاً في السفر بعد خروجي من السجن مباشرة وبدأت بشاطئ البحر الاحمر ثم اتجهت الى محافظة قنا التي تزدهر بالشعراء والرواة الذين تحفظ صدورهم سيرة بني هلال التي يؤمنون بها وبل يفسرون كل مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والاصول القبلية على أساس ما جاء بالسيرة، بجهاز تسجيل أهداني إياه الراحل عبد الحليم حافظ وشرائط أهداني إياها الموسيقار الكبير كمال الطويل وذلك لاني كنت فقيراً جداً في هذا الوقت وأتحرك في حدود الجنيهات القليلة التي تتوفر لي خاصة أنني كنت خارجاً من إعتقال مدته 6 أشهر، وإذ بهم يتصلون بي ويصرون على أن اذهب الى القاهرة للمشاركة في كتابة أغنيات تمهد للحرب وتدعو للجهاد وتململت كثيراً ورفضت إذ لم أكن أعتقد أن مصر بحالتها التي كانت سوف تدخل في حرب ضد إسرائيل وأمريكا، في الوقت الذي كان فيه الكُتاب الذين يدعون لامريكا يتمتعون بحرية لا نملك شيئاً منها، إذ كانت المراقبة دائمة علينا والمخبر لا يكف عن كتابة خطواتنا وكتابة تقاريره في آخر النهار، المهم بعد الذهاب الى القاهرة وكتابة الاغنيات عدت مرة أخرى لجمع هذه الملحمة الفريدة التي تنبه ضميري الى أنها بسبيلها للانقراض بسبب ظهور الراديو وأجهزة التلفزيون وتطور أجهزة البث مما يشكل خطورة حقيقية على الاداب الشفاهية بشكل عام وعلى هذا العمل العبقري المتفرق شكل خاص، إذ بدأ الناس يلتفتون الى مسلسلات الراديو والتلفزيون الذين بدءا يخطفان الاسماع ويحاولان فض الوحدة القديمة للمجتمعات في القرى، ولم يكن أحداً في ذلك الوقت على استعداد لان يدعمني أو يقدم لي مساعدات مالية وفي نفس الوقت كنت في سباق مع الزمن إذ أن آخر الشعراء العظام في رواة السيرة القدامى كان " جابر أبو حسين" الذي يسكن قرية جبلية بمحافظة سوهاج والذي كان شخصية عصية يرفض التسجيل أو الخروج عن دور الشاعر البشري والجمهور الحقيقي ولا يؤمن بأجهزة التسجيل الحديثة، ولولا أني عبد الرحمن إبن الشيخ محمود الابنودي الذي عرفه جيداً والذي كان يأتي من محافظة الى شارعنا لينشد السيرة وسط قبائل الاشراف لما كان يمكن أن نحصل على رواية مكتملة للسيرة الهلالية من أولها لاخرها ما لم يتكرر مع شاعر آخر غيره وحتى سيد الضوي الشاعر الذي أحبه وهو التلميذ الانجب لعم جابر أبو حسين فإن مناطق باسمها من السيرة تظل غائبة عنه، ولذلك ظلت الرواية المكتملة للشاعر جابر أبو حسين هي أهم الروايات، وقد توفي بعد إتمامه تسجيلها الذي استنفذ منا ثلاث سنوات.
* وماذا فعلت بعد جمعها؟
- لقد أصدرت ثلاثة مجلدات من النصوص الشفاهية للشعراء الشعبيين من الروايات التي توفرت لي، وأكثر من 50 شريطاً في السوق لعشاق السيرة الهلالية تضم غناء الشاعر جابر أبو حسين وشرحي أنا لما يقول لصعوبة اللهجات الصعيدية، ولربط أجزاء السيرة ببعضها بالنسبة لمن لا يعرفها جيداً، ثم أذعت السيرة ليلياً لمدة 364 نصف ساعة في إذاعة "مع الشعب" بصوت الشاعرين سيد الضوي ثم جابر أبو حسين، مما جعل الجماهير تلتف حول أجهزة الراديو بصورة مدهشة وتلقيت مئات الخطابات على كل خطاب توقيع أكثر من ثمانين شخصاً يشكرون لي بعثي لهذه السيرة من جديد، وهكذا حدثت حالة رواج أدبي وفني في المجتمع سببها تلك السنوات الثلاثين التي قضيتها أهتم بهذه السيرة، وأغادر القاهرة الى مواقعها في صعيد مصر والوجه البحري ثم السودان ولقد رحلت الى تونس 24 مرة قضيت في بعض الاحيان 4 شهور أجمع وأتدارس النصوص مع عالم تونس عظيم هو الراحل أ. "الطاهر قيقة" الذي كان والده "عبد الرحمن قيقة" هو أول من جمع النص التونسي من الجنوب التونسي، ولذلك كانت فرصتنا ممتعة في مقارنة النصين نص الشاعر المصري المتعاطف مع البدو الذين غزوا تونس في القرن الخامس الهجري ونص تونسي في الدفاع عن بلادهم ضد هؤلاء الغزاة، ولقد كان الشاعر الكبير جابر أبو حسين يطلق علي لقب "ناظر السيرة" وذلك لانه يحفظ روايته فقط أما أنا فقد مرت أمامي من التجربة الطويلة أكثر من رواية وأكثر من تفسير لوقائع يُصر كل شاعر على صدق تفسيره ونفي تفاسير الاخرين.
* وكيف يتجاهلون جمعك للسيرة بطريقة تدعو للالتفات؟
- والان وبعد كل ذلك وبعد أن أنفقت أجمل سنوات العمر وأزهاها في جمع أشلاء البدن المتناثر للملحمة كما جمعت إيزيس جسد أوزوريس يأتي هؤلاء "الفهلويين" ليوهموا اليونسكو بأنهم اكتشفوا هذه الملحمة وأنهم يحتاجون الى تمويل كبير لجمعها وضمها للتراث الانساني، وبالفعل قبضوا الدفعة الاولى من الاتفاق والتي هي 250 ألف دولار أمريكي وربما قبضوا دفعة أخرى لم يصلنا أخبارها، وأنفقوا هذه المبالغ كما يقولون في شراء أجهزة حديثة لجمع السيرة.. ورحم الله عبد الحليم وجهاز تسجيله الذي جاء به من اليمن أيام أن ذهب ليغني للجنود، ولا أظن أن الاخوة الاساتذة الاكاديميون لديهم مصدر للملحمة غير المجلدات الثلاثة التي أصدرتها ومجموعة الاشرطة التي لا شك سوف يبحثون عن مجرد مغنين يحفظونها ويعيدون تسجيلها، وإذا سألتهم فإن لديهم إجابات جاهزة وجميلة من مثل "أن العمل الفردي لا يغني عن العمل الجماعي الاكاديمي الممنهج" وأشياء من هذا القبيل، وهي فضيحة أدبية وعليمة بكل المقاييس، فإن الامة المصرية والامة العربية وبالذات مثقفوها يعلمون تماماً ويعترفون بحجم الجهد الذي بذلته وتلك السنوات التي لست نادماً على إنفاقها في جمع هذا العمل العبقري، وأما الاخوة (الفهلويون) الذين اعتقدوا أن جهدي لقمة سائغة فعليهم أن يبرروا فعلتهم بأقوال أخرى وأن يفضحوا أهدافهم الحقيقية... ونحن وراءهم والزمان طويل..
* هل هناك أي إصدارات جديدة؟
- سوف يصدر لي قريباً خمسة عشر قصة للاطفال من رسوم الفنان الكبير "عبد العال" اسمها "حكايات سمراء" وسمراء بنت مصرية ريفية تحاول اكتشاف الحياة من حولها في القرية التي تعيش فيها، وأظن أن قصص طفل القرية نادرة في أدب الاطفال في بلادنا، وهي تجربة كتبتها بفصحى نثرية شعرية وأعتقد أنها سوف تكون تجربة ناجحة فكل من اطلع عليها وجد فيها شيئاً جديداً لم يرد في الكتابات السابقة للاطفال، كذلك أنا بصدد إصدار كتاب كبير عنوانه "دفاع عن بيرم التونسي".
* لماذا بيرم التونسي؟
- بيرم التونسي كما تعلمين هو عمنا والزجال الكبير الذي ربط فن الزجل العامي بالموقف السياسي ونال في سبيل ذلك شتى أنواع العقاب لتستقبله المنافي ويشرده الاستعمار البريطاني والقصر الملكي، وهو بعد "عبد الله نديم" شاعر الثورة العرابية ومفكرها وخطيبها والذي استعمل اللهجة العامية أيضاً في التعبير عن قضايا الانسان البسيط والدعوة للانخراط في جموع المساندين لثورة أحمد عرابي، حيث نعتبرهما أول من سيس الكتابة بالعامية حيث جاء بعدهما "فؤاد حداد" ليصنع القنطرة بين فن الزجل الذي هو نظم تقليدي بالعامية الى آفاق الشعر بمعناه الحديث ثم جاء من بعده "صلاح جاهين" ونحن أبناء الستينيات لنصنع من أشعارنا أداة للمقاومة، ومن النادر أن تجدي أحداً بيننا لم يعتقل أو يدخل السجن فلقد أصبحت الكتابة بالعامية الاتجاه للناس ضد السلطة، وعلى الرغم من كل ذلك استطعنا فرض وجودنا فأسسنا لنوع من الشعر لم يكن موجوداً من قبل لدرجة أنني حصلت على جائزة الدولة التقديرية عام 2001 لاول مرة وآخر مرة في تاريخ الشعر العامي، إذ أصبحنا ظاهرة أدبية لا يمكن تجاهلها، وهكذا نعتبر أن شعرنا انتصر ليس فقط على مستوى الجماهير ولكن أيضا على مستوى الأطر الادبية الرسمية دون التخلي عن مواقفنا الواضحة أو ممالأة السلطات، بل على العكس أدفأتنا الجماهير وحضنتنا وصارت درعنا الواقي من أي سهام توجهها لنا الدولة على الرغم من أن أنظمتنا العربية لم يعد يهمها جماهير أو غيره ولم تعد مهتمة أو تبالي بستر عوراتها.
* ما الذي لفت انتباهك بسيرة بيرم التونسي؟
- لم أكن أدري أن بيرم التونسي تعرض لتهجمات وبذاءات ومحاولات طعن وإيلام من الزجالين الاخرين الذين هم " بالطبع" أقل قيمة من الكيان الكبير المسمى بيرم التونسي، وهو نفس ما أتعرض له أحياناً من شعراء عديمي القيمة محبطين وليس لهم مشروع شعري، وإنما يعملون كالبهلوانات على أسطح قشور السياسة وظواهر المجتمع، ولقد سعدت شديداً حين اكتشفت قدرة بيرم التونسي على الصبر والتجاهل وهو يعلم أن كل هؤلاء سوف تذروهم رياح النسيان وأنه لن يظل في النهاية غير بيرم التونسي، ولقد جمعت كل تلك الطعنات والتآمرات التي أعطى الكثير منها المبرر للقصر والاستعمار للتمادي في نفي الرجل وعقابه، إضافة الى ماذا كانوا يكتبون في هذا الوقت، وماذا كان بيرم يكتب، وكيف تجاهلهم هذا التجاهل العظيم، ويحوي الكتاب العديد من أشعار بيرم التي لا يعرفها أحد، كما يحكي عن فترة سياسية هامة من تاريخ مصر.
* هل هناك أعمال أخرى؟
- أعد الان مجلداً ضخماً اسميته ديوان "الزجل الكبير" وهو ديوان حافل بكل إبداعات الزجالين القدامي وتلك النصوص التي اختفت في غبار السنين، وهو تأريخ للمرحلة التي كان فيها الزجل في قمة اشتعاله ودوره الانتقادي والتنويري، والذي ساعدني على ذلك هو البرنامج الصباحي الذي اقدمه "صباح الخير يا خال" على القناة لاولى والذي اقدم فيه يومياً الثروة الزجلية مقسطة وأُعرف بأصحابها وأدوارهم وقيمتهم، وهو ديوان سوف يحتوي على حوالي ألف نص زجلي باللهجة العامية لكافة الزجالين المصريين الذين غابوا في زحمة الاحداث السياسية منذ ثورة 23 يوليو 1952.
وسوف أتوقف عن طباعة أجزاء جديدة من السيرة الهلالية خوفاً عليها من لصوص الاثار، فالاثار ليست مادية فقط كالتماثيل والقلائد ولكنها من الممكن أن تكون آثارا شفاهية من تراث شعوبنا!!!.
salwalubani@hotmail.com