حوار حول جدل العلاقة بين المثقف والسلطة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
صفاء ذياب- بغداد: الثقافة موضوع مثير للجدل في أي وقت ومكان، منذ ان ابتلعسقراط السم، وأُجبر غاليلو على إنكار دوران الأرض إلى ان تحسس احد الساسة مسدسه ما ان سمع بكلمة ثقافة... وعلى الرغم مما أثارته العلاقة من تأملات وبرغم كل ما كتب وقيل، فإن الموضوع خاضع لزوايا النظر المختلفة التي تضيء كل مرة تتناوله شيئا جديدا
دولة من دون برنامج ثقافي
* يرى الفنان والناقد التشكيلي خالد خضير هذه العلاقة من منظور تاريخي، إذ لم تكن هذه العلاقة سوى تكسباً من قبل المثقف وطغياناً من قبل السلطان أو السياسي، لهذا يقول:
تدور قضية علاقة المثقف بالسياسي لحقب غائرة منذ أن كان المثقف جزءاً من حاشية الملوك (=السياسيين)، يغدقون عليه المكارم حينا، ويقطعون رأسه متى أغضبهم أو انتفت الحاجة إليه لكي لا يتحول إلى شاهد عليهم، ومنذ عصر النهضة العربية الحديثة صار السياسي ممولا للمشاريع الفكرية التي يطرحها المثقفون: رفاعة الطهطاوي والخديوي.. وحتى وقتنا الحاضر يلقي السياسي بالمثقف، الذي شكل جزءاً من مشروع ذلك السياسي ومحرراً لصحيفة حزبه، يلقي به في قارعة الطريق حالما تنتفي الحاجة منه، فللسياسي مشروعه الخاص في الحكم، مشروعاً جماعياً، بمعنى آلة جماعية لا يشكل المثقف فيها إلا جزءاً من ماكنة متعددة الأجزاء، وهكذا هو حال العراق الآن، حكومة لا تعد الثقافة جزءاً في بناء مجتمع تشح فيه أساسيات العيش المادية، مما يجعل الثقافة تبدو أمراً ثانوياً في اهتمامات السواد الأعظم من العراقيين، وأول هؤلاء السياسيين تكون صلتهم مع الثقافة صلة واهية أو معدومة.
الخلل إذن بنيوي مستديم، وهو في الوضع العراقي يكتسب مزيداً من السوء نتيجة سوء الأوضاع، وكلما غابت سلطة القانون وغابت إمكانات وفعالية النشاطات الثقافية التي غالبا ما تمول الدولة جزءاً ضخما منها فستسوء العلاقة أكثر بين السياسي والمثقف وتزداد أزمة المثقف تعقيدا، ويزداد حاله انسحاقا أمام قسوة الحياة وتردي الأوضاع الاقتصادية في دولة لا تعده جزءاً من مشروعها.
العرف، الدين والسياسة
* يرى الكاتب عباس منعثر إن المثقف العراقي معرض لرياح سلطات متعددة كالعرف، الدين والسياسة، قائلا عن الأولى: ( لو بقيت الأعراف كنتاج اجتماعي لكان بالإمكان توجيه النقد والتعرية بشكل سلسل... لكن العرف تحول إلى سلطة قوية تغلغلت في السياسة والدين والإدارة والصحافة إلى درجة تحولها إلى صانع حياة لا يمكن التحاور معه بسهولة. فتقلصُ قدرة الفرد على التحرك بحرية وتقبلُ الاختلاف والنظرةُ القاصرة للمرأة وتعميمُ أسلوب حياة معينة على أساليب الآخرين وإرغامهم على تقبلها والعمل بها، إذ تحولت إلى قوانين صارمة لا يمكن تجاوزها)... وعن علاقة المثقف بالسلطة الدينية يقول: (بسبب التأييد الشعبي- لرجل الدين- يكاد موقف الحذر أو الإعلان المتوجس هو المهيمن. فلا يمكن لشخص اعزل لا يملك إلا الحبر والورق أن يتورط في مواجهة غير متكافئة مع طغيان الحماسة الشعبية للدين بشكله السياسي، تنبري بعض الأقلام الليبرالية من حين إلى آخر للإعلان عن صوتها المضاد لتدخل الدين في السياسة أو لتجيير الدين لصالح هذه الجهة أو تلك، لكن العقبات كثيرة: صوته في خضّم الأصوات الأخرى غير مسموع، والوعي الاجتماعي غير قادر على تقبل أطروحاته، وهو من دون سند يحميه أو يؤازره، ووسائل الإعلام لها أجندتها الخاصة إلا ما ندر، وأخيرا امتلاك الوعي المضاد للقوة وللقدرة على استخدامها متى يشاء، كل ذلك ينقص المثقف الليبرالي).... أما عن علاقته بالسياسي فيقول: (السياسي قادم مباشرة من الأيديولوجي أو النفعي، والمثقف الحقيقي ناقد يسعى إلى الكشف والتعرية والاستقلال. في الشرق خاصة لا يتحقق ذلك، فلكي تنضوي عليك أن تدفع الثمن الذي قد يكون باهضا. أضف إلى ذلك ان السياسي والحزبي لا يمتلك ان يشكل كاريزما جاذبة، ولا الأيديولوجيا التي تحركه مما يمكن ان يدافع عنه، ولا الدور الذي يناط به ذو اثر يذكر ).
بين الديمقراطية والديكتاتورية
وباختلاف الفضاء تختلف العلاقة كما يرى الناقد ياسر عبد الصاحب البراك: ( تتحدد علاقة المثقف بالسلطة وفقاً لطبيعة النظام السياسي الذي يحكم مجتمع المثقف، فإذا كان النظام السياسي ديموقراطياً فأن شكل العلاقة يبدو شكلاً سويّاً على اعتبار أن النظام الديموقراطي يكفل (حرية التعبير) التي يجب أن تتوفر للمثقف من أجل أن يعبّر بواسطة إنتاجه الثقافي عن موقفه من قضايا المجتمع الذي يعيش فيه بغض النظر إن كانت تلك القضايا سياسية ، أو اجتماعية ، أو اقتصادية ، أو أخلاقية لان المثقف الحقيقي ينبغي أن يندمج في كل قضايا مجتمعه حتى لو كانت خارج اختصاصه الأكاديمي إذا ما كان مثقفاً أكاديمياً، فالنظرة الشمولية للأحداث وتفاعلاتها مع العوامل الاجتماعية تشكل نسيجاً واحداً لأية قراءة معرفية يمكن أن يُنجزها المثقف عن مجتمعه، فيكون في المجتمعات الديمقراطية مكرّساً لدولة القانون والمؤسسات، ومناصراً لحقوق الإنسان، ومحافظا على مكاسب النظام الديموقراطي الذي وفر له كل هذه الحريّات، ولذلك لا يمكن الحديث في مثل هذه الأنظمة عن علاقة توتر بين السلطة والمثقف إلا في حدود ضئيلة جداً لا تتعدى الاختلاف في طريقة فهم الأنظمة والقوانين وشكل التعبير عن الحريات الفردية، بينما في الأنظمة الشمولية ذات الطابع العسكرتاري نجد أن علاقة المثقف بالسلطة تتركز في شكلين من أشكال العلاقة، أولها: الاندماج مع مشروع السلطة والترويج له عبر وسائل الثقافة المختلفة كما هو الحال في الأنظمة الفاشية والنازية التي بدأ مثقفوها يتحدثون عن (الأدب الفاشي) و (الأدب النازي)، وثانيها: المعارضة المباشرة للسلطة القائمة من قبل المثقفين وهذا يؤدي إلى ثلاثة احتمالات (القتل والتصفية الجسدية وفي اقل الاحتمالات السجن لسنوات طويلة للمثقف، أو اختيار المنفى القسري والهروب خارج الوطن، أو الصمت)، وفي كل تلك الاحتمالات يكون المثقف مستهدفا من قبل السلطة، سواء كوجود، أو كحرية تعبير، لذلك يمكن القول أن علاقة المثقف بالسلطة في الأنظمة الشمولية علاقة ذات طبيعة غير سويّة لأنها قائمة على الإقصاء والتهميش والإرهاب الفكري الذي يحد من فاعلية المثقف في المجتمع)... وفي وضعنا العراقي نجد أن المثقف يقف على مفترق طرق، ففي زمن الدكتاتورية البعثية كان المثقف (وأقصد المثقف غير المندمج بمشروع السلطة) لا يستطيع التعبير عن أي رأي أو حقيقة إلا عبر المنفى، في الوقت نفسه لم يكن هناك أحد يسمعه لان النظام الدكتاتوري فرض طوقاً من الحصار الإعلامي والثقافي على الشعب العراقي، أما الآن فان المثقف العراقي في العصر الديمقراطي يمتلك قدرة التعبير وحريته ولكنه لا يمتلك (قدرة التأثير) بسبب الفوضى التي تعم البلد، فأصبح المثقف العراقي في كلا الزمنين غائبا ومهمّشاً، باستثناء أولئك المثقفين من الانتهازيين الذين تجدهم في كل زمان ومكان، فهم أسياد الثقافة في العصرين، وهذه إحدى مآسي الثقافة العراقية الراهنة).
الالتباس الدائم
في حين ينظر الفنان التشكيلي الدكتور كاظم نوير إلى هذه العلاقة من خلال التباس المفاهيم وطريقة التطبيق، ويتمنى على الدولة انشاء فضاء ثقافي تستطيع الثقافة والمثقف من خلاله من تشكيل هوية خاصة بالثقافة العراقية:
أقول إن علاقة المثقف بالسلطة تبقى ملتبسة طالما لا يعرف من يكون بالسلطة ماهية الثقافة وماهية دورها في بناء الإنسان والمجتمع والحضارة, وتكون هذه العلاقة علاقة استعداء طالما أن الفكر السلطوي الذي يحرك القرار والأفق السلطوي قرارا ديكتاتوريا أو أبويا أو سلفيا أو أحاديا, ومرجعها أن اللاوعي العميق لهذا الفكر يستشعر بأن المثقف عبر نتاجه وتمرده واستقلاله ولمعانه وعدم تبعيته للفكر الذي يسند أرجل السلطة؛ فإنه يمثل خطرا وتمردا على السلطة, فالعقل السلطوي لا يستطيع الاعتقاد ولو للحظة واحدة إن الآخر يتوافر على ذاته!! والعقل الواعي للسلطة الأبوية يرى إن الآخر ومنه المثقف لا يتوافر على العقل الذي يمكن ان يكون راشدا أو واعيا ومشاركا، بل قاصر ويحتاج إلى المراقبة والتعنيف الدائم لكي لا يطيح بالمكان الذي يسكنه أو الآخر الذي يصاحبه بالمكان أو العيش!!
لا يمكن للثقافة أن تكون حقيقة ما لم تكن اجتماعية، أي أنها تنتشر بأوردة شعبية وإلا ستكون ثقافة النخبة. وثقافة النخبة لا يمكن لها أن تحدث التحولات الحداثية الحقيقة في الدولة و المجتمع التي نسعى إليها, وستكون كل العمليات تحديثية (سطحية) لا حداثية (عميقة), ومن هنا على السلطة أن تعي دور الثقافة والمثقف لا بمقاساتها بل بمقاسات الثقافة والمثقف لأنها رأس التحول والحداثة والتربية والتعليم وبناء الإنسان والحضارة.
ولا يمكن لأية نماذج تربوية وتعليمية وحداثية وحضارية أن تنجح من دون الإيمان بدور المثقف والثقافة وأهمية الصور الوجودية الجديدة التي تحاول الذات الثقافية إيجادها, فكل الأنظمة الديمقراطية لا يمكن أن تنجح وان تجني ثمار تلك النماذج والخطط من دون الإيمان بالمثقف ودوره, فالمثقف سيعكس قيمة الحوار وإيقاظ العقول الراكدة وتنشيطها التي أنتجتها عقود طويلة من التخلف والديكتاتورية ومصادرة العقول وتأجيلها واختزالها في كرسي الحكم أو كانت أضاحي لبنية جاهزة لا يحكمها الجدل أو التحول أو النسبية, فالعقول المطلقة لا تقبل بدور المحاور أو الند بل بدور التخاصم مع الثقافة/ المثقف والتحول الحضاري الذي (قد) تتبناه السلطة!!
يمكن للثقافة أن تنجو من بطش السلطة طالما إن السلطة لا تدعي امتلاكها للعقل المطلق وآمنت بالآخر وخرجت من طريق التهميش وادعاء الحقيقة المطلقة والمقدس وأحقيتها بالخلود وإنابتها في كل التحولات ومنها الثقافية, فتدعي أنها تخطط لثقافة لا تشكل خطرا على المجتمع أو أنها لا تنسجم معه وأنها تحافظ على الدولة فتتبنى نظرة أحادية وتهمش المثقف والثقافة. فللثقافة بنيتها الخاصة التي لا تشترط السكون والأحادية والنخبة والمركز والمطلق والمقدس, وهذا الجدل وربما التناقض هو المرجل الحقيقي لوجود الثقافة والمثقف الذي يعيش ويسكن المتخيل والقادم والمجهول.
ويمكن أن تنسجم الثقافة والسلطة طالما كانت السلطة التعبير الحقيقي للمجتمع المثقف أو المرحب بالثقافة أو المتطلع للثقافة والتغيير والتحديث والسلام والأمن والإنسانية, فالثقافة جوهرها إنساني أي إيمانها بالإنسان وكرامته وحريته, فهي لا تؤمن بالآفاق الضيقة للطائفية أو المصالح الحزبية أو الفئوية. والثقافة تنشط تربية المجتمع وتعليمه وتنشط قطاعاته الاقتصادية كالسياحة وقطاعات البناء والعمران, وتغير من علاقة المكان بالإنسان وعلاقة المدينة بالإنسان مثلما تغير علاقة الزمان بالإنسان. وهي من ثم تدفع السلطة لان تكون ساعية للتطور والتحديث والتغيير والمحافظة على حقوق الإنسان والمجتمع المدني ومنظماته المختلفة , تدفع السلطة لان تكون متسامحة تحاور الآخر وتنفتح على العالم وتسعى إلى البناء وتساعد المجتمع والسلطة أن تحقق أهدافها بيسر, لأنها ستعكس علاقتها بنواتج الثقافة وامتصاصها للبنية العميقة للثقافة ورسالتها الإنسانية والحضارية.
على السلطة أن تفهم أن إمكانية وجود الإنسان هي بوجود وسائل التعبير عنه من خلال المثقف والثقافة, والإنسان (الموجود حقا) هو الذي يستطيع أن يبني ويجادل ويبتكر ويسعى إلى حياة جديدة, وصور جديدة مبتكرة منها في كل مجالاتها بدءا من الإحساس الذاتي والوجودي الذي يتملكه إلى علاقته بالأشياء والأمكنة والأزمنة التي يعيشها, فمن دون الإنسان (نتائج الفكر الديكتاتوري) لا يمكن التحدث عن وجود دولة ومجتمع حقيقي فاعل يستطيع أن يقدم للإنسانية شيئا ذا قيمة ويستطيع الآخر استشعاره, فالإنسان/ المجتمع/ الدولة/ السلطة لا يمكن أن تجد لنفسها مكانا في هذا العالم المتحضر والمتسارع والمتحول في أثيرية/ العالم الرقمي من دون ثقافة حقيقية تعبر عن وجوده وتطلعاته وتمرده وعدميته بمعناها الإبداعي (فأساس البناء المستمر هو الهدم المستمر) التي ستشكل عالمه المستقبلي, عالم يستحق العيش به وله من دون أن يكون مجبرا في العيش به واستقبال الإساءات المستمرة له, فالعيش والوجود اختيار بكامل الحرية, فالعالم يبدو انه لا يتشكل إلا بالاختيار وهذا الاختيار هو مسعى ثقافي بالدرجة الأولى؛ فهو حرية قبل أن تكون أي شيء آخر, وان تفشت الحرية تفشت معها الثقافة والاختيار, وعندها يمكن للمجتمع أن يفرض خياراته على السلطة ويكون المثقف والثقافة التعبير الحقيقي عن المجتمع والسلطة معا.
أتمنى ان تكون علاقة المثقف بالسلطة علاقة متكافئة وان تسعى الدولة ان تفهم دور المثقف وان لا تبني مشاريعها من دون الأخذ بنظر الاعتبار ما يسعى المثقف تحقيقه وان يكون التوجه الثقافي جزءاً لا يتجزأ من توجهاتها على كل الصعد بدءا من قطاع التربية والتعليم والى كل الأصعدة الأخرى. فالمدارس والجامعات يجب أن تكون بيوت ثقافية قبل أن تكون تعليمية, وان تسعى أن تتبنى كل الأنشطة الثقافية كجزء من استراتيجيتها لبناء الإنسان والمجتمع والدولة وان لا تقدم حقلاً إبداعياً أو ثقافياً على آخر, ولأننا لا نمتلك أسساً لإنتاج ثقافي مستقل ماديا عن الدولة. فعلى الدولة أن تتبنى بناء تلك الأسس إلى أن تصل إلى نوع من الاستقلال المادي, ويجب أن نذكر أن اغلب الدول المتطورة ما زالت تدعم النشاطات الفنية والثقافية, وان توفر فرص التقاء المجتمع بالمثقف والثقافة كبناء المجمعات الثقافية أو القرى الثقافية, وتقديم المطبعات والأجهزة الداعمة للثقافة والفنون وتوفير فرص عيش كريمة للمثقف, وبناء المتاحف والاهتمام بالسياحة والآثار بشكل علمي ورصين في كل المواقع والمحافظات أو الأقاليم والتراث وتطوير الجامعات والمدارس وتوفير فرص الاحتكاك مع العالم خلال الزمالات والبعثات والدورات والمنظمات الثقافية العالمية, وإقامة المهرجانات العالمية على كل الصعد الثقافية والفنية.
حرية الأديب... سلطة الدولة
* ومن اجل إيجاد علاقة جمالية وتلقائية بين المثقف والسلطة، يرى باسم الأنصار ان الحرية هي أساس هذه العلاقة، فإذا لم توجد هذه الحرية انهدمت كل المعايير والسدود التي يمكن ان تحد من سخط المثقف والأديب تجاه الدولة:
من البديهي القول، ان الركيزة الأهم للابداع هي ركيزة أو اشتراط الحرية. فمن دون هذه الركيزة يكون الابداع في كل مستويات الابداع المعروفة وبالأخص المستوى الأدبي منه، ناقصا ومجردا ومشوها أحيانا كثيرة. لذا كيف سيكون شكل العلاقة بين المثقف ككائن إبداعي حر وبين الدولة كمؤسسة ترتكز على السلطة؟ فالمثقف من جهة يسعى الى الانفلات من كل أنواع السلطات للحفاظ على توهجه الجمالي والابداعي، ومن جهة اخرى الدولة تسعى الى فرض كل انواع سلطاتها على المجتمع بما فيه المثقف لكي تضمن عملية استمرارها وديمومتها لتنظيم امور المجتمع بكافة جوانبه.
وكل طرف من طرفي المعادلة (المثقف والدولة) يسعى باتجاه شرط ديمومته الذي لا يود التنازل عنه لكي يضمن ديمومته كما اشرنا (الحرية/ الشرط الاساس للمثقف) و(السلطة/ الشرط الاساس للدولة). ومن المعروف أو من ضمن ما هو متوارث في أذهاننا المكوَّنة في ظل ديكتاتوريات متعددة ومختلفة مقيتة بأن العلاقة بين السلطة والحرية علاقة عكسية إنْ لم تكن علاقة متنافرة الى حد الصراع بينهما أو النفي من قبل احدهما للاخر. لذا كيف ستنشأ العلاقة بين أطراف لا تود التنازل عن رمزها وسر ديمومتها في الحياة؟
أظن انه وقبل أن نطرح أجابتنا أو تصورنا لخلق هذه العلاقة، علينا ان نعيد قراءة مفهوم الحرية المنشودة لدى المثقف، ومفهوم السلطة لدى الدولة. او بشكل اخر علينا قراءة صورة المثقف في الحياة ودور الدولة في المجتمع. أظن ان الوصول الى قراءة جديدة لهذه الامور ستحل الكثير من الاشكاليات القائمة بين المثقف والدولة، وخصوصا اننا نتحدث عن علاقة بين طرفين (كما اشرت) مكانهما الجغرافي الذي يجمعهما رضخ لديكتاتوريات سياسية واجتماعية وثقافية مستبدة ومتكررة بشكل جعل الوعي الجمعي لمجتمعاتنا تصعب ان تفرق بين الدولة والديكتاتورية، او بين المثقف والرضوخ لرموز هذه الدولة الديكتاتورية.
والان! وبعد الهزة الكبيرة التي اجتاحت المجتمع العراقي بكل مفاصله بعد سقوط النظام الديكتاتوري الذي هيأ كل الظروف والمناخات لبروز الظواهر السيئة اكثر من بروز الظواهر الايجابية، وبعد ان هام في فضاء العراق هامشا لا بأس به من الحرية السياسية، ولكن للاسف على حساب الحرية الاجتماعية والثقافية للمثقف خصوصا، اظن بأنه علينا اعادة قراءة مفاهيم الدولة والمثقف واعادة قراءة شكل العلاقة بينهما كما اسلفت قبل قليل، بعقلية جديدة وذهنية مغايرة تناسب الوضع الجديد الذي حل في العراق منذ ثلاث سنوات.
أرى ان دور الدولة يجب ان يكون راعيا وحاميا فقط للمثقف، بعيدا عن اسقاط محمولها الايديولوجي أيا كان شكل هذا المحمول عليه. وعلى المثقف ان يسعى باتجاه الحفاظ على استقلاليته وحريته بأقصى حدود السعي والاستطاعة، بعيدا عن كل أشكال السلطات المحاط بها، سواء كان شكل السلطات سياسيا او اجتماعيا او ثقافيا.
بمعنى اخر، على الدولة ان تمارس دورها الطبيعي والتقليدي مع المثقف في حمايته من الشرائح الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تتعارض مع الطرح الجمالي والفكري له، أيا كانت سلطتها او تأثيرها في المجتمع ومن دون ان تطالب المثقف بأي مقابل لهذه الحماية او الرعاية (كأن يكون هذا الدور ترويجيا من قبل المثقف لايديولوجية الدولة او ما شابه ذلك) على اعتبار ان الدولة هي موظف لدى المجتمع وليس العكس. فيجب ان تمارس الدولة دور الخادم للمجتمع (وللمثقف طبعا) لا أن تمارس دور المتسلط والديكتاتور معه، على اعتبار ان الخدمات المقدمة من قبل الدولة للمثقف هي جزء من واجباتها الطبيعية اتجاهه وجزء من حقوقه المشروعة التي يجب ان يتمتع بها هو والمجتمع بأكمله.
اما بشأن المثقف، فإنني ارى بأنه عليه ان لا يساير أية موجة سياسية او اجتماعية تتعارض مع حريته واستقلاليته بحجة عدم التعالي عليها او بحجة الخوف منها او بحجج أخرى مرضية كان المثقف لازمنة مختلفة في مجتمعاتنا يروج لها مع نفسه على الاقل للحفاظ على مصالحه الحياتية اليومية فقط على حساب رؤاه الجمالية ومواقفه الاخلاقية والمبدئية. على المثقف ان لا يقع بفخ المسايرة مع الظواهر المتعارضة مع حريته ايضا لكي لا يساهم في اعلاء صروح الطغاة، أيا كان شكل الطغاة سواء كان شكلهم سياسيا او ثقافيا او اجتماعيا. على المثقف ان يفكر بشيء واحد فقط لا غير، ألا وهو طرح منجزه الجمالي بحرية مطلقة وواعية. وأقصد بمطلقية حريته هي انفلاتها من كل سلطة خارجية قد تمارس عليه، واقصد بوعيها هو الحفاظ على سلطته الجمالية والفكرية والمعرفية الموجودة في دواخله والحفاظ على دورها في انارة رؤاه وتصوراته عن الجمال وعن المجتمع الذي يعيش فيه وعن كيفية تعامله مع الحدود التي ترسمها الدولة والمجتمع معا له وللاطراف كافة. أي ان حرية المثقف ستكون تلقائيا ومن دون اجبار من قبل الدولة عاملا مهما ومساعدا لاستقرار الدولة وديموتها.
من هنا سينشأ كما أرى شكل علاقة جديدة بين الدولة وبين المثقف. بحيث تكون سلطة الدولة اخلاقية وخدمية وليست سلطة قمعية ومستبدة مع المثقف، وبالمقابل ستكون حرية المثقف منارا جماليا واخلاقيا ايجابيا للدولة من دون اتفاق مسبق بينهما ومن دون قصدية الترويج لها.
الفرداني، الوحيد، غير المؤثر
* يرى الكاتب المسرحي علي عبد النبي الزيدي ان الثقافة (هي تراكم كمي يمكن له ان يكون فاعلا ومؤثرا في حياة الشعوب، على اعتبار ان هذه الثقافة أصلاً قد خرجت من معطف هموم وتقاليد وقضايا تلك الشعوب. ومن هنا نستطيع ان ندلف بقوة إلى واقع المثقف العراقي ونحدد تلك (الثقافة) التي يرفع لواءها المثقفون العراقيون. فإذا كانت الثقافة العراقية تشير بوضوح إلى تراكم كمي أنتجته سلطة البعث- وهو واقع يحتم علينا ان نقرأ ثقافة تلك السلطة، فإن المثقف العراقي كان احد منتجي تلك الثقافة، على اعتبار ان المؤسسة الرسمية عندنا هي التي كانت تقود حركة الثقافة العراقية بشكل أو بآخر، وقد صار لدينا جيش يسير بهمة عالية وراء مخططات تلك المؤسسات، وحالوا بطريقة وبأخرى صنع حياة مغايرة لما هو سائد من خلال وضع الزخارف والديكورات والماكياج لسلطة البعث. والمشكل- هنا- يوقفنا أمام 98% من مثقفي العراق على مدى أكثر من أربعين عاما).. وفي معرض ذلك يتساءل: ( إذن كيف لنا ان نقوّم حركة المثقف العراقي الآن وهو الصانع لثقافة القتل والتضليل والتجميل، وهذا هو صلب أزمة الواقع العراقي. حركة الثقافة عندنا حركة مشكوك فيها على طول الخط، وهناك جدار طويل عريض سميك بين المثقف والناس. من هذا فان مسؤولية المثقف (الملتزم)- 2%- تواجه الكثير من الصعوبات خاصة مع اختلاط الملتزم بجيش كامل من غير الملتزمين الذين يحاولون بشتى الصور ان يعلنوا أنهم كانوا أبطالا في زمن القهر. أرى وبقوة ان المثقف العراقي الآن، واعني الملتزم يعيش فردانية مطبقة ووحدانية غير مؤثرة في حياة الناس، والتي أنتجت ثقافة المقاهي التي تميل إلى التصريحات والصخب والثرثرة، وبالنتيجة هناك تسيد واضح لثقافات فرضت نفسها بقوة السلاح والصراخ، جعلت من ساحة الثقافة عندنا مجموعة من الثقافات المتصارعة والمتخلفة في آن. لذلك فان حجم المثقف العراقي اصغر بكثير من التحول الحاصل في بنية المجتمع العراقي).
المثقف العضوي والمثقف التقليدي
* طارقا سؤالا يعده الأهم من بين الأسئلة، يشير القاص حسن عبد الرزاق إلى انه لم يظهر لدينا مثقف بالمعنى الدقيق للمصطلح، متسائلا بدوره: (هل أنجب العراق شخصية أنتجت فكرا خلخل ما هو سائد من بنى فكرية تأسست عليها منظومة القيم والتقاليد والسلوكيات المكتسبة لطابع الثبات منذ عصر القبيلة؟)... مجيبا عن التساؤل بالاستطراد التالي: (في العراق قد يوجد مثقفون تقليديون حسب وصف غرامشي، لكن المثقفين العضويين لا وجود لهم على امتداد التاريخ.. ثمة عوامل تقع خارج العقم العقلي هي التي قادت إلى هذا الأمر لعل في مقدمتها الهيمنة الجبارة للمؤسستين السياسية والدينية على امتداد تاريخ العراق. فهاتان المؤسستان مارستا أساليب تضييق فضاء الحرية وتبعية العقل المستمر لها والتهديم الذاتي للشخصية من خلال ممارسة الإغراء المادي والإرهاب أو التجويع حد الانهيار... هذه الأمور بأجمعها كفيلة بجعل المثقف يعيش حالة من التقوقع والارتداد إلى الذات أو التشكل الفكري بما يتلاءم مع الأنساق الخاصة بإحدى هاتين المؤسستين ليصبح في النهاية صوتا خاصا من أصواتها... ان المناخ الحقيقي أو (الحاضنة) الحقيقية لنمو الأفكار نموا سليما، حرا، داخل عقل (المثقف) العراقي ما تزال معدومة بسبب استمرارية هيمنة المؤسستين المذكورتين، ولذلك سوف يبقى الموقف المستقل له بمثابة أمنية مستحيلة التحقق، ويبقى هو خارج دائرة الإدانة لان الأمر أصعب من ان يقاومه أو يتحداه بقدراته الذاتية).
بين المثقف والسياسي
* باقتران الاقتصادي بالسياسي، كما في الشرق، يرى القاص كاظم الحصيني ان (السياسة وقوة المال يجب ان تكونا مصحوبتين بقوة ديكتاتورية كي تهيمن على الثقافة وتقمعها بحيث يبقى المثقف يسير وراء السياسي مستغلا أية فرصة للتصفيق كما حدث في عهد النظام السابق في العراق)... أما المسالة فمختلفة تماما في الدول الديمقراطية حسبما يرى: (إذا كانت قوة رأس المال مصحوبة بالديمقراطية وتوفر أجواء الحرية كما هي في الأنظمة الرأسمالية الحالية فهنا يكون القمع داخليا، أي ضمن نظام عام يستغل الإنسان. وفي هذه الأجواء لا مانع من ظهور ثقافة كبرى ومؤثرة لان الثقافة هي ركن من أركان حركة المجتمع وظهورها هو ناتج هذه الحركة التي تحاول إزالة الاستغلال وتوفير الأجواء الصحية لحياة الإنسان. ونلاحظ الآن في أثناء الثورة التكنولوجية والعولمة ان الرأسمالية قد وعت عمق الهوة في نظامها ولذلك سعت لتوفير دولة الرفاه الاجتماعي. لكن هذا لا يعني ان الدولة قد أنهت الصراع الطبقي ولكنها منحت الإنسان مزيدا من الحرية لانجاز مهامه الفكرية والثقافية ويعود السبب الأول في ذلك لوجود الآلة الحديثة التي سببت وفرة الإنتاج ووفرة الوقت.. ففي حالة وجود قوة المال والديكتاتورية تتجوف الثقافة إعلاميا لكنها تتبلور سريا وتصبح للنخبة القليلة، أما في حالة النظام الرأسمالي المصحوب بالحرية والديمقراطية فالثقافة تدافع عن الإنسان ولا يمكن ان تتجوف لانها نتاج حركة مجتمع يصنع الجديد يوميا).
من هنا يمكننا، نحن المثقفين العراقيين، ان نطالب ما يسمى بـ(الحكومة) ان تبسط يدها عن المثقف والكاتب والفنان، وبسط اليد هذا ليس بانفلات هذه العلاقة وتركها على الغارب، بل ان تبني مؤسسات ثقافية تترك ادارتها والاشراف عليها للمثقف من دون أي تدخل... وحبذا لو تساعدنا، الآن على اقل تقدير، بمطالبة الأحزاب الدينية بالابتعاد عن الثقافة لأنها بدأت بمسخها، كما مسخها النظام السابق... إنها أمنية فقط!