لقاء إيلاف

هلترمان: الغرب شريك في جريمة الأنفال

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

حوار موسـّع مع مسؤول ملفّ الأنفال في "هيومان رايتس ووتش"
يوست هلترمان: الغرب شريك في الجريمة

ترجمة: شعلان شريف

مع بدء محاكمة الدكتاتور السابق صدام حسين وعدد من معاونيه على خلفية تورطهم بجريمة الإبادة وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب اثناء حملة الانفال في عامي 1987 و 1988، أقدّم هنا ترجمة شبه كاملة (حذفتُ الفقرات المتعلقة بطفولة هلترمان وحياته الشخصية) للحوار الذي أجرته مجلة (زمزم) الهولندية مع السيد يوست هلترمان. السيد هلترمان هولندي يعيش في أمريكا ويعمل حالياً في منظمة (المجموعة الدولية للأزمات) وكان يعمل في عقد التسعينات في منظمة (مرصد حقوق الإنسان- هيومان رايتس ووتش). كان مسؤولاً أثناء عمله هناك عن دراسة ملفّ جرائم الأنفال، وقاد محاولات لإجراء محاكمة دولية لنظام صدّام حسين بتهمة الإبادة، ولم يكتب لمحاولاته النجاح. في هذا اللقاء يحكي هلترمان عن تلك المحاولات واسباب فشلها، وعن أبعاد جرائم الأنفال وخصوصيتها، وعن دور القوى الغربية الكبرى في تلك الجرائم، وعن رأيه بالمحكمة العراقية الحالية.
مجلة (زمزم) التي أجرت الحوار هي مجلة هولندية صدر عددها الاول في العام الماضي، تـُعنى بشؤون الشرق الأوسط والمغرب العربي وقضايا الإسلام، يشرف على تحريرها عدد من المتخصصين بهذه الشؤون وتصدرها مؤسسة (زمزم) الأهلية بالتعاون مع (رابطة دراسات الشرق الاوسط والإسلام) وهي رابطة أكاديمية والعدد الأخير (الثاني-2006) الذي تضمن هذه المقابلة كان محوره (هولندا والعراق). أجرى الحوار يورغن ماس، مدير تحرير المجلة. (المترجم)

طوال سنوات كان يبحث في جريمة إبادة الأكراد، وقام بمحاولات لم تنجح لتقديم النظام العراقي إلى المحكمة الدولية. حالياً يعمل يوست هلترمان مديراً للمكتب الإقليمي لـ (المجموعة الدولية للازمات- إنترناشنال كرايسس غروب) في عمـّان. "المحكمة العراقية سيرك كبير".

إشارة صوتية نبهته إلى رسالة على هاتفه النقـّال، ألقى نظرة سريعة على شاشة الهاتف: " قناة الجزيرة تعلن عن انفجار جديد في بغداد، إنها مولعة بنقل أخبار الإنفجارات".
يوست هلترمان (49 عاماً) في طريقه من واشنطن، حيث أجرى مقابلاتٍ مع مسؤولين في الحكومة، والقى محاضرة في وزارة الخارجية، وها هو يتوجه عائداً إلى عمـّان. في الطريق هبط في أمستردام، بضعة ايام مع الأصدقاء، تقرير موجز حول العراق إلى وزارة الخارجية الهولندية، مؤتمر في باريس، وثلاثة ايام في بروكسل.

يشعر بارتباط شخصي مع العراق، "لديّ هناك العديد من الأصدقاء، أشعر بالمسؤولية عمـّا يحدث. كنتُ معارضاً للحرب، لكني أريد أن أسهم في إعادة الاستقرار في العراق." يصف عمله في المجموعة الدولية للأزمات بإنه نوع من الإدمان، منذ ربيع عام 2002 وهو منشغلٌ دائماً بأمر العراق.
عمله هذا يعيده إلى فترة سابقة حيث كان خبيراً بشؤون جرائم النظام السابق. عمل طويلاً لدى منظمة هيومان رايتس ووتش باحثاً في قضية إبادة الأكراد العراقيين عام 1988، وأثمرت بحوثه تلك عن إصداره كتابه المؤثر (جريمة الإبادة العراقية- Iraqacute;s Crime of Genocide) الذي صدر عام 1995. لهذا فقد دُعي للعمل في المحكمة العليا في العراق، لكنه اعتذر عن قبول الوظيفة.
يقول هلترمان: " أنا لا اغامر بسمعتي. إنه سيرك كبير، إنها عدالة المنتصر، فوضى هائلة: قاضٍ يعقب قاضياً، المحامون والقضاة كلهم يفتقرون إلى الخبرة، وهذا ليس أمراً غريباً، فالعراق كان لفترة طويلة معزولاً عن العالم. إنه أمرٌ مؤسف، فمن الضروري جداً أن يقتنع العالم السـنّي بعدالة المحكمة، وإلا فلن يقبل بها."

أمام المحكمة العراقية دعاوى كثيرة موجهة ضدّ صدّام حسين، من بينها قضية إبادة الاكراد، ورغم رأيه السلبيّ بإدارة المحكمة فإن هلترمان سعيدٌ بتحريك هذه الدعوى. خاصة من أجل الناجين السبعة الذين يزورهم من حينٍ لآخر. " كانوا قد أُخذوا إلى مكان الإعدام، وقد نجوا بأعجوبة، لا أدري إن كانوا سيدلون بشهاداتهم في بغداد، إنهم خائفون على حياتهم"، يعتقد هلترمان أن من الأفضل أن يكون الحديث في الدعوى المتعلقة بعمليات الأنفال في عامي 1987 و 1988 عن خمسين ألف قتيل بدل الرقم المتداول وهو 182 ألفاً، لأن الرقم الأخير رغم تداوله فإنه لا يستند إلى أدلة قطعية.
هناك دعوى منفصلة بشأن الهجوم الكيمياوي على حلبجة. فرغم أن الهجوم كان متزامناً مع حملة الأنفال، إلا أنه لم يكن جزءاً منها. أولاً لأن عمليات الأنفال كانت موجهة إلى المناطق الريفية، وثانياً لأن الهجوم على مدينة حلبجة كان جزءاً من الحرب العراقية-الإيرانية، وكان رداً على وقوع المدينة في الايام التي سبقت الهجوم تحت سيطرة مقاتلي البيش مركه الأكراد والقوات الإيرانية.

لا دعم دولياً للمحاكمة
في منتصف التسعينات حاول هلترمان وباسم منظمة هيومان رايتس ووتش وبواسطة جمع الأدلة القانونية، أن يقنع عدداً من الحكومات لتحريك دعوى ضدّ النظام العراقي بتهمة الإبادة لدى محكمة العدل الدولية في لاهاي : " لقد أردنا أن نثبت أن النظام العراقي مارس القتل الجماعي، وان نطالب بتعويضات للضحايا، وبمعرفة مصير المفقودين".
دولتان تتمتعان بسمعة حسنة في مجال حقوق الإنسان عبرتا عن الاستعداد لدعم القضية، بشرط أن تلتحق بهما دولة أوربية. هلترمان لا يريد تسمية تلك الدولتين: "السرية كانت شرطاً من الاتفاق، إنها قضية حساسة. أجل حتى الآن لا تزال حساسة،. كلا، ليس الولايات المتحدة، نحن لم نرغب بذلك، فهي طرف له علاقة مباشرة بالاحداث."
كلّ الدول الأوربية رفضت، هولندا أيضا. لماذا؟ هذا أمرٌ سري هو الآخر. مع ذلك يخبرنا هلترمان عن بعض الحجج التي قـُدمت لتبرير الرفض: "هناك الآن فريق تفتيش دولي من الامم المتحدة في العراق"، "نخشى من الأعمال الإرهابية الانتقامية"، وأيضاً " قضية كهذه تستغرق أعواماً وهذا يكلف أموالاً كثيرة" إبادة أم لا، ليس مهماً.

إعدامات
بدأ اهتمام هلترمان بالعراق في عام 1991، بـُعيد حرب الخليج. كان يسكن في واشنطن بلا عمل. طلب منه أحد الخبراء في هيومان رايتس ووتش أن يذهب ضمن بعثةٍ إلى العراق. زار النجف وكربلاء والبصرة وسبح في مياه شطّ العرب. كانت الانتفاضة الشيعية قد قـُمعت قبل ذلك بفترة وجيزة. لم يـُسمح له بزيارة ضريح الإمام علي، في ما بعد سمع أن الإعدامات كانت لا تزال مستمرة في دخل الصحن. كذلك قام هلترمان بزيارات إلى مدينتي السليمانية وأربيل الكرديتين، كان القتال لا يزال مستمراًن وكانت هناك جثث على الطريق: "بعد ستة اشهر ذهبتُ مرةً أخرى إلى كردستان، وكنت قد بدأت أعمل في (لجنة المحامين لحقوق الإنسان) في البرامج الخاصة باللاجئين." في تلك الزيارة سمع للمرة الاولى عن عمليات الأنفال ضدّ الأكراد.
في الثمانينيات كان هلترمان مشغولاً بأمورٍ أخرى. عمل لمدة خمسة أعوام في المنظمة الفلسطينية لحقوق الإنسان (الحقّ): "في عام 1982-1983 كنتُ مدرّساً في الجامعة الأمريكية في القاهرة، فالتقيت بعدد من الطلبة الفلسطينيين وقررت الانتقال إلى الضفة العربية، والدتي لم تفهم كيف أترك القاهرة من أجل الفلسطينيين، فبالإضافة إلى اعتقادها بأن القضية الفلسطينية (قضية خاسرة) فإنها كانت تتساءل كيف سيمكنني تسديد ديوني في هذه الحالة!"
كانت الضفة الغربية بالنسبة لهلترمان تركيباً غريباً -أناس لطفاء ومتعلمون جيدا يعيشون تحت الاحتلال العسكري- وقد أثمر وجوده هناك عن أطروحة دكتوراه. فبعد دراسة الفلفسة لعامين، ثم العلاقات الدولية لعامين، حصل على الدكتوراه في علم الاجتماع. طبعت رسالته وصدرت عن منشورات جامهة برينستون بعنوان (ماوراء الانتفاضة: الحركات العمالية والنسوية في الأراضي المحتلة). "بعد ذلك بفترة وجيزة جئت لزيارة الأهل، والدتي قالت إنها حاولت قراءة الكتاب لكنها وجدته مملاً" ويضيف ضاحكاً: " كانت تفضـّل أن تراني دبلوماسياً، لكني لا أتصف بالدبلوماسية بشكلٍ كافٍ".

جثمان الصحفي
أثناء انتفاضة الأكراد عام 1991 اختفى المصوّر الألماني (غاد غروس Gad Gross). ذهب إلى كركوك بصحبة دليل كرديّ وزميلين أمريكي وفرنسي. في ذلك الوقت بالضبط دخلت القوات العراقية إلى المدينة. غروس والدليل الكردي قتلا بإطلاق نار، على الأرجح كان العراقيون يظنون أن كليهما كرديان، حيث كان غروس يؤتدي شالاً على رأسه. الفرنسي والأمريكي تمكنا من الاختباء في مكانٍ آخر ثم سلما نفسيهما. " الصحفي الأمريكي يعرف مكان الحادثة بالضبط، ولكن للاسف لم اتمكن حتى الآن من إقناعه بالذهاب إلى هناك بسبب الوضع الأمني الحالي."
والدة غروس عبـّرت عن حاجتها الشديدة لاستعادة جثمان ولدها، وفي عام 1992 رافقها هلترمان بطلب من لجنة حماية الصحافيين في زيارةٍ إلى بغداد، ولكن دون أي نتيجة. ما زال متأثراً بهذه القصة: "كان ولدها الوحيد، وهي كانت رسامة، رسامة ممتازة، بعد مقتل ابنها توقفت عن الرسم".

في عام 1992 بدأ هلترمان العمل في منظمة هيومان رايتس ووتش. كانت مهمته إجراء تحقيق حول الأنفال وحول الجرائم التي تعرّض لها الأكراد. كان عليه أن يصف بالضبط مالذي حصل، بين عامي 1987 و 1988. " حينها تجولت طوال ثلاثة اشهر في كردستان لإجراء مقابلات شخصية". تطور التحقيق ليصبح أكبر المشاريع التي أنجزتها المنظمة. "خـُصص له أكبر مبلغ من المال من بين المشاريع الاخرى، شعور أمريكي بالذنب بسبب وقوفهم آنذاك إلى جانب العراق؟ ربـّما، ولكن ذلك المال لم يأتِ من الحكومة بل من ممولين أهليين"

الوثائق
حصلت منظمة هيومان رايتس ووتش على الحق الحصري باستخدام الوثائق التي حصل عليها الحزبان الكرديان أثناء الانتفاضة. " في البداية أرادوا نقل الوثائق إلى الولايات المتحدة لتأمينها، وثانياً أرادوا إجراء تحقيق علمي للإرشيف. كانت هناك ثلاثة اطراف تتفاوض للحصول عليها: منظمة هيومان رايتس ووتش، وكنعان مكية، وبيتر غالبريث من لجنة العلاقات الدولية في مجلس الشيوخ. في النهاية حصل الإتفاق على أن تكون الوثائق بعهدة مجلس الشيوخ لحفظها في مخازن الإرشيف الوطني وان تحصل هيومان رايتس ووتش على الحق الحصري بالإطلاع عليها.
"الشحنة الاولى من الوثائق تسلمناها من الإتحاد الوطني الكردستاني. أربعة عشر طناً من الورق نقلت في ايار 1992 بإشراف رئيسي السابق بطائرات هليكوبتر إلى تركيا ومن هناك بطائرات حمولة أمريكية إلى واشنطن عبر ألمانيا. في آب 1993 ذهبتُ بنفسي إلى كردستان للإشراف على نقل أربعة أطنان من الوثائق التي حصلنا عليها من الحزب الديمقراطي الكردستاني، طبعاً شيء كهذا يمنحك شعوراً بالأهمية."
تمّ حفظ الوثائق في مخبأ سري، سرداب إحدى البنايات الكبيرة في إحدى ضواحي واشنطن. "مرةً اصطدمت سيارة بمؤخرة سيارتي عند إشارة مرورية، وسرعان ما تساءل أصدقائي ما إذا كانت هذه الحادثة مدبـّرة".
"كنا نريد معرفة الطريقة التي تمّ فيها التحضير لعمليات الإبادة. القادة العراقيون سجلوا كلّ شيء دون أدنى تحفظ، إلا أنهم كانوا يستخدمون تعبير (هجوم خاص) أو (عتاد خاص) للدلالة على الأسلحة الكيمياوية، ما عدا مرات قليلة، سهواً. تحدثتُ بهذا الأمر مع رئيس الاستخبارات العسكرية العراقي المنشق، وفيق السامرائي، والذي كان قريباً من مراكز القرار، فقال لي: "هل كتبوا أحياناً اسلحة كيمياوية؟ أغبياء!" تلك الوثائق تثبت كلّ شيء: الإعدامات الجماعية قبل وبعد الأنفال، استخدام الأسلحة الكيمياوية، تدمير القرى."
"كان هناك إجمالاً ما يقارب خمسة ملايين صفحة، لكنّ الجزء الأكبر منها عديم القيمة، وحين قمت باستنساخ الوثائق المهمة من بينها ملأت بها دُرجين كبيرين."
"كلا، لا أعاني من الأرق، أنام جيداً، ولكن بسبب محاكمة فرانس فان أرنات (تاجر هولندي أدين في العام الماضي بجريمة تزويد العراق بمواد تستخدم في تصنيع الأسلحة الكيمياوية-المترجم) فإن كثيراً من التفاصيل عادت لتشغلني من جديد، فقد اُستدعيتُ كشاهد- خبير. هل الحبس خمسة عشر عاماً عقوبة مناسبة له؟ لا أعطي جواباً على هذا السؤال، هناك استئناف في الحكم، وربما سيستدعونني مرة أخرى، فلا أريد أن أمنعهم من هذا."

إيران والأسلحة الكيمياوية
هل كان بالإمكان منع حدوث إبادة الأكراد؟ يقول هلترمان أن هذا السؤال هو موضوع الكتاب الذي يعمل حالياً على إنجازه: "اقوم حالياً بإعادة كتابة وتنقيح بعض الفصول، عنوان الكتاب: (علاقة سامـّـة: أمريكا، العراق، واستخدام الأسلحة الكيمياوية A Toxic Relationship: Amereca، Iraq، and the Use of Chemical weapens) وهو عنوان اقترحه عليّ العراقي المقيم في هولندا عصام الخفاجي." يعالج الكتاب قضية استخدام الأسلحة الكيمياوية خلال الحرب العراقية - الإيرانية. بعد الهجوم الكيمياوي على حلبجة صار الأكراد مذعورين، بحيث أنهم في كلّ عملية لاحقة من عمليات الأنفال وبعد استخدام للسلاح الكيمياوي في يومها الأول، يتركون بيوتهم ويتوجهون إلى الشوارع الرئيسية خارج القرى حيث تنتظرهم هناك القوات العراقية التي تقوم بنقلهم إلى معسكرات يجمعون فيها قبل تهجيرهم. كثيرون يتم إعدامهم، من بينهم أطفال، آخرون يـُحتجزون في أماكن أخرى، حتى صدور العفو العام سنة 1988: "رايي هو أن هذا الأمر لم يكن ممكن الحدوث إلا لأن العراق تـُرك وشأنه ليستمرّ في استخدام الأسلحة الكيمياوية، تحديداً بسبب عدم انتقاده على ما فعله في حلبجة. أما هجوم حلبجة نفسه فقد كان ممكناً لأنه لم يسبقه اي احتجاج حقيقي على استخدام السلاح الكيمياوي ضدّ إيران أو ضدّ الأكراد. أمريكا بشكل خاص، ولكن أيضاً كلّ مجلس الأمن، باستثناء الصين المحايدة، كانوا يقفون إلى جانب العراق، حتى الاتحاد السوفيتي، رغم الحرب الباردة. كان عداؤهم لإيران أقوى من عدائهم للنظام العراقي. الجميع كان يعرف ما الذي جرى في حلبجة، فقد قامت إيران بإرسال الصحفيين إلى هناك. والجميع كان يعرف أيضاً بعمليات تهجير الأكراد، ما جرى هو في الحقيقة تكرار لما حدث عام 1975، ولكن آنذاك تم تهجير الأكراد إلى المعسكرات ولم يتم إعدامهم جماعياً. الشيء الوحيد الذي كان مجهولاً هو مواقع الإعدام."
"الغرب شريك في الجريمة. العراق استخدم ما بين عامي 1983 و 1988 وبشكل متزايد، الأسلحة الكيمياوية. في كتابي أجريت تحقيقاً حول المدى الذي بلغه استخدام هذه الاسلحة من قبل العراق. تحدثتُ مع ضحايا أكرادٍ وإيرانيين، أطباء إيرانيين، ضباط استخبارات متقاعدين أمريكيين وإسرائيليين، ولديّ أيضاً شهادات لضباط عراقيين سابقين، كذلك اطلعتُ على وثائق أجهزة الأمن الأمريكية. ما يهمني هو السياسة الأمريكية، أردتُ أن أعرف بالضبط، ما الذي كان يعرفه الأمريكان، وما الذي امتنعوا عن فعله."
رغم أن الدور الأمريكي بشكلٍ عام أصبح معروفاً لكثيرين، لكنّ هلترمان يريد أن يكتشف تفاصيل اللعبة كلها: " لم أعثر على دليلٍ قاطع، ولكن ما تبيـّن لي من الوثائق الأمريكية هو أن وزارة الخارجية الأمريكية، بعد هجوم حلبجة، وجـّهت دبلوماسييها بالحديث عن المسؤولية الإيرانية عن مقتل الأكراد. لا يوجد في تلك الوثائق أنهم (وزارة الخارجية) يختلقون تلك المسؤولية الإيرانية، ولكن يوجد في تلك الوثائق أنهم لا يستطيعون أن يقولوا شيئاً عن مصادر معلوماتهم". الاسم الذي يتكرر اكثر من مرة هو ستيفن بيلتير. يزعم بيلتير أن قسماً كبيراً من الضحايا الاكراد قتلوا باسلحة إيرانية، مدعماً زعمه هذا بحقيقة استخدام غاز السيانيد، في محاكمة فرانس فان أرنات كرر هذا الحكاية نفسها، وحتى إدوارد سعيد صدّق مزاعم بيلتير، في كتابي فنـّدتُ هذه القصة تفنيداً كاملاً."
في كانون الثاني /يناير كتب هلترمان في صحيفة ذي انترناشنال هيرالد تريبيون واصفاً رفض المجتمع الدولي لإدانة العراق حين استخدم الأسلحة الكيمياوية بأنه "عملٌ يشبه في فظاعته هجمات 11 ايلول". "ما بين ألفين إلى خمسة آلاف شخص قتلوا، كثير من الضحايا ما زالوا في مقابر جماعية مجهولة، العدد الدقيق للضحايا ما زال حتى الآن غير محدد. لكن من المؤكد أنهم بالآلاف. وبعد حلبجة، كان بوسع العراق أن يواصل استخدامه للاسلحة الكيمياوية دون رادع، وأن يواصل عمليات الأنفال، وهي حملة لا تقلّ مأساويتها عن مأساة الحادي عشر من ايلول بالنسبة إلى امريكا".
"لقد سمحوا للعراق بشكل مقصود أن يتصرّف بما يناقض بروتوكول جنيف لعام 1925 من خلال إعاقتهم لأيّ قرار إدانة من مجلس الامن. وإذا ما صدر قرار فإن صياغته لا تتضمن :"العراق يستخدم الأسلحة الكيمياوية" بل " لقد ثبت لدينا مرةً أخرى أن الاسلحة الكيمياوية قد تمّ استخدامها في الحرب العراقية-الإيرانية". ولا يتضمن مطالبة للعراق بوقف استخدام تلك الأسلحة، بل: "ندعو الطرفين إلى عدم استخدام الأسلحة الكيمياوية". كلّ مرة كان الاتهام يوجه ضمنياً إلى إيران باستخدام الاسلحة الكيمياوية دون أن يكون هناك اي دليلٍ على ذلك."
كانت تلك القرارات تصدر غالباً بناء على تحقيق تقوم به الأمم المتحدة، أمر مثيرٌ للاهتمام، ذكرتُ في كتابي بالتفصيل أن هناك خلافاً بهذا الشأن بين مجلس الأمن وبين مكتب الامين العام خافيير بيريز دي كويلار الذي كان أكثر حياديةً. كان الأمين العام يسعى إلى إنهاء الحرب بين العراق وإيران ولذلك كان عليه التفاوض مع الطرفين. في الوقت الذي رأى فيه إمكانية لوقف إطلاق النار اصطدم بالرفض الإيراني. إيران كانت تشعر بالغبن، وبأنها تتعرض دون رادع لهجمات بأسلحة كيمياوية. ابتداءً من عام 1983 أرسل بيريز دي كويلار فرق تحقيق إلى إيران، وبعد ذلك إلى العراق حين كان العراق يسمح بذلك، وأثمرت هذه البعثات عن تقارير جيدة بخصوص استخدام السلاح الكيمياوي. وابتداء من عام 1986 صارت تلك التقارير تضيف : إنه العراق الذي يستخدمها! ولكن لم تؤدِ هذه المعلومات إلى قرار إدانة".
" لهذا فإن كتابي هو شكوى ضد الاتفاق الذي كان يسود مجلس الأمن على فكرة تشريع أو السماح باستخدام الأسلحة الكيمياوية دفعاً لخطرٍ أكبر (إيران). هذه هي نفس الفكرة خلف هيروشيما وناكازاكي، إنها جرائم حرب، جرائم ضدّ الإنسانية."

الحرب الأهلية
كان يوست هلترمان من المعارضين للغزو الأمريكي عام 2003، حجته الرئيسية: الأمريكان لن ينجحوا أبداً في خلق الاستقرار في العراق. بشيء من المرارة يقول: "أعتقد أن الواقع أثبت صواب رأيي. لقد كانت حرباً بتبريرات مزيفة، قلت هذا الكلام مباشرة بعد خطاب كولن باول في مجلس الأمن. كان على العراقيين أن يغيروا النظام بأنفسهم بدعم خارجي. أني أتفهم الاصدقاء العراقيين الذين كانوا مؤيدين لشنّ الحرب، ولكن بالنسبة لي فإن الاستقرار الإقليمي هو الأهم، إني أهتمّ بمصير الناس في عموم المنطقة قبل أن أهتم بمصير العراقيين".
"إذا اندلعت حربٌ أهلية فلن تبقى داخل الحدود العراقية. لن تقبل الدول المتجاورة بالتفرّج على ما يجري، المصالح الإقليمية من الأهمية بدرجة كبيرة. إذا دخلت إيران الساحة العراقية ستصاب السعودية بالهلع وستتدخل. تركيا ستقتحم كردستان، ولا أدري ماذا سيفعل السوريون والأردنيون، لكن الأردن لن يقبل بأن تـُخلق أوضاع تسمح لمن يخلف أبو مصعب الزرقاوي بالحركة والنشاط ليرسل المجندين إلى عمـّان للإطاحة بالمملكة. إذا اندلعت حرب أهلية في العراق فإني أتوقع وضعاً يسبب لنا المشاكل لسنوات طويلة قادمة".

في تقريرها الصادر في شباط 2006 بعنوان (الحرب القادمة في العراق؟ الطائفية والنزاع الأهلي) تحذر المجموعة الدولية للأزمات من حرب أهلية في العراق، ولكن السؤال هو ألم تبدأ تلك الحرب بعد؟ يجيب يوست هلترمان:" بغض النظر عن المصطلح، فإننا نرى نزاعاً يمكن أن يزداد خطورةً بشكل كبير، السؤال هو كيف نتجنب تصعيداً أعنف من هذا؟ ليس هناك جوابٌ واضح، ولكن في كل الأحوال هناك ثلاثة شروطٍ لازمة، ولكن ربما تكون غير كافية: أولاً تشكيل حكومة وحدة وطنية، ثانياً أن تقرر هذه الحكومة تأجيل تطبيق الدستور، فهو دستور يكرّس الطائفية أو تقوم بتعديل الدستور لاسيما في ما يخص تعريف الفيدرالية، لا بدّ أن يكون للجميع حصة متساوية من النفط وإلا فإن العراق سينهار، وثالثاً إعادة بناء القوات المسلحة على أن لا يسمح للعناصر الطائفية بالهيمنة عليها".


ترجمه عن الهولندية: شعلان شريف

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف