لقاء إيلاف

الجميل: الاعلام العربي ليس له أي مصداقية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

حوار متنوع مع المفكر العراقي الدكتور سيار الجميل (2/2)
في محاولة لفهم الثقافة العربية وموقعها من الثقافة العالمية

سلوى اللوباني من القاهرة: د. سيار الجميل استاذ التاريخ الحديث والفكر المعاصر...أحد أهم المفكرين العرب..تجربته العلمية والفكرية ثرية بثراء أفكاره حيث بلغ إنتاجه العلمي الحلقة الأولىوالفكري أكثر من عشرين كتاباً منشوراً وعشرات البحوث العلمية المنشورة في العربية والانكليزية. نشر المئات من المقالات الفكرية والسياسية والنقدية في العديد من الصحف العربية والاجنبية. ترجمت بعض أعماله الى الانكليزية والفرنسية والتركية. عمل محاضراً واستاذاً في جامعات عدة، تخّرج على يديه العديد من حملة الماجستير والدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر. ونال دكتوراه الفلسفة في التاريخ الحديث في العام 1982. د. سيار الجميل من مواليد مدينة الموصل عام 1952 وغادر العراق لأول مرة العام 1976، وتنّقل في عدد من بلدان العالم، ويقيم حالياً في مدينة مسيساكا قرب تورنتو بكندا، ويعمل في الامارات العربية المتحدة. وهو الامين العام للمنظمة العراقية لتنمية المجتمع المدني "يودكس" وهي منظمة دولية أسسها مؤخراً.

*هل تعتقد أن الصراع غير متكافئ؟
نعم، إن الصراع غير متكافئ، ولما كان غير متكافئ، فان من الضرورة بمكان أن تتوالد قناعة راسخة بأن مجتمعاتنا بحاجة ماسة الى ثقافات العالم المتقدمة، أقول ثقافات ولا أقول غزو ثقافي، إننا بحاجة الى السلوكيات في العمل والى اللياقة في النقد والى النظام في التعامل والى التنمية في التفكير والى الصبر والمثابرة في الانجاز والى الابداع في المهنة .. الخ. ولا يمكن لأي مجتمع ناهض أن يلغي تجارب كبرى في تاريخ العالم خلال القرنين السابقين. أعتقد إن نماذجاً من صدام الثقافات سيتبلور عنها عدة مخاطر في السنوات الثلاث التالية، منها مشكلات بسبب عدم تأقلم الجاليات مع المجتمعات الغربية، منها إرتفاع نقمة العالم كله على الاسلام ـ ويا للاسف الشديد ـ، وازدياد استياء العالم من المسلمين الذين يريد الغلاة منهم وجماعات من المتعصبين نقل وتحويل عاداتهم وتقاليدهم الى مجتمعات اخرى لا تتقّبل تلك العادات والتقاليد، ومنها عدم اندماج العرب والمسلمين وخصوصاً أصحاب الثقافة الاصولية بالمجتمعات الاخرى التي يعيشون فيها بسبب إغترابهم والتعامل بالضد مع الاخر وجهاً لوجه والاتجاه نحو الغلو بخصوصياتهم التي تصطدم حتماً بافكار وتقاليد المجتمعات الاخرى. قبل هذا الزمن بثلاثين سنة، لم تكن المجتمعات الغربية الاوربية والامريكية خصوصاً تنظر الى مجتمعاتنا وجالياتنا بمثل هذه النظرة الدونية، بل بالعكس فتحت تلك المجتمعات والدول أراضيها للمشردين في الارض، ومدت أياديها للمهاجرين واللاجئين والنازحين وطلبة ما وراء البحار لتعلمهم ولتضمهم وتساعدهم وتضمن لهم فرص الحياة والعيش الكريم وكل الحريات. ولكنها اكتشفت اليوم ان ثمة عوائق متجذرة بين ثقافات لا يمكن تحللها أبداً. ثمة مشكلات وتصادمات ستتلاقح وتمتد من مكان الى آخر ليس بسبب ما يمارسه الاخر من عادات وتقاليد حسب، بل لأن ثمة كراهية تنشأ وردود فعل ساخنة وإرهابية من قبل المتعصبين ضد المجتمعات الاخرى في العالم.

*من هي الشخصية الاعلامية التي تجذبك. ولماذا؟
انني أحترم منذ زمن طويل الاستاذ القدير "غسان تويني"، وهو أبرز شخصية إعلامية عربية ناضجة ومتزنة وليبرالية ولها مصداقيتها وخدماتها وجهودها في القرن العشرين، وقد كتبت عن الاستاذ غسان في كتابي "نسوة ورجال: ذكريات شاهد الرؤية". أن أبا جبران له كاريزما إعلامية وشخصية جذابة ليس من خلال كتاباته فقط، وليس من خلال جريدته العريقة (النهار) بل من خلال مواقفه الفكرية قبل السياسية، لم ينصّبه أحد من القادة والزعماء رئيس تحرير أو رئيس مجلس إدارة، بل ورث مهنيته العالية عن الاعلامي الراحل والده جبران، ونجح في توريثه لها لابنه الاعلامي الراحل ولده جبران الثاني. وهو رجل مفكر وكاتب قبل أن يكون سياسياً، ولقد برع في مفاهيمه الدبلوماسية وفي انتصاراته التي سجلتها جريدة النهار على امتداد أكثر من نصف قرن. والرجل ليس على غرار غيره من كبار الصحفيين العرب، إذ لم يعرف الفبركة وترديد الاكاذيب واختلاق القصص أبداً، ولم يكن ذيلاً لأحد. بل ويعتبر من أبرز المحللين للاخبار ومن أهم المتابعين للمظاهر السياسية وتداعيات الوقائع وتقويم المسؤولين العرب في التاريخ المعاصر.

*ما هي خصائص الشخصية الاعلامية التي نحن بحاجة اليها؟
ثمة خصائص أساسية لابد أن يتميز بها أياً من الاعلاميين الذين يمكنهم أن يمتلكوا شخصيتهم المؤثرة والتي لها مصداقيتها وأمانتها وحياديتها وكشفها للحقائق وسعيها من أجل المعلومات ولها اسلوبها الجذاب وقدرتها على الاقناع وتوغلها في فضاءات مختلفة واستقلاليتها السياسية. أي الانطلاق بروح ليبرالية لا تتخذ أي جانب ضد الجانب الاخر، أن تكون بارعة في عرض الموضوع المقروء والمسموع والمرئي مراعية الجوانب السياسية والاجتماعية. ان الاعلام العربي المعاصر يفتقد الى مثل هذه الشخصيات التي تفرض احترامها على الجماهير، ان الاعلام العربي قد انتقل من حالات اعلاميات سلطوية ساذجة لا تعرف غير الزعيق والكتابات الفارغة والهزيلة الى اعلاميات مخصخصة بليدة لا تعرف غير الضراوة والتمويل غير المشروع والادلجة القومية والسياسية والدينية والطائفية، اي باختصار: اعلاميات مأجورة وغير موثوقة ولا تعرف إلا الاوهام والكتابات الجاهزة والخطابات الفارغة. ثمة ما يبشر بخير لدى جيل جديد في خضم التغيرات البطيئة التي تمر بها مجتمعات المنطقة عموماً .

*مؤخرا أصبح لدينا فضائيات عربية عديدة. كيف تقيم إعلامنا العربي من خلال هذه الفضائيات؟
لقد ازداد عدد الفضائيات الناطقة بالعربية وسيزداد مع توالي الأيام القادمة وزادت معه كل التداعيات والأخطاء، وغداً بعضها ناطقاً باسم أشخاص وأحزاب وطوائف ومذاهب وبأساليب متدنية جدا بكلّ ما تقدّمه للناس من إسفاف حقيقي وخزعبلات ومهاترات. لقد غابت الرقابة على الممنوعات من قبل سيطرة الدولة لتصبح الأمور مخصخصة ومنفلتة إلى الدرجة التي لم يعد فيها المشاهدين بقادرين على رتق الفجوات وتضييق المرئيات. لقد كان لبعض الفضائيات شهرتها من أدوار التشهير والإثارة والسخرية من خلال مذيعيها ومراسليها و(خبرائها الاستراتيجيين) الذين ليس لديهم عمل سوى خلق وإثارة المتاعب والاستفزازات واللعب على العواطف والأعصاب! وهناك سوء تصرف فاضح لإعلاميين وضيوف وأناس عاديين بوسائل الاتصال المتنوعة وخصوصاً بتدخلاتهم وإطلاق آرائهم الشخصية مع سيل من التهم الجاهزة والشعارات السياسية والتهريجات المتفق عليها بعيداً عن روح الشفافية والموضوعية حتى طغت السلبيات على الواقع نتيجة إذكاء كل النفوس في الضد؟
إن الإعلام العربي اليوم ليست له أي مصداقية حقيقية، إذ لا يمكنني اعتباره محايداً أبداً، فالفضائيات التي غدت أهم ميادينه لا تكتفي بأدوار الإثارة المصطنعة والضجيج وفبركة الموضوعات واللهو والمسلسلات التافهة والأفلام السخيفة أو الاستعراضات البدائية أو المكررات الساذجة، بل أن بعضها يساهم في نشر الشعوذة في برامج إستهلاكية رثة ترتزق منها المحطات عبر الاتصالات والأسئلة والأجوبة. أما من الناحية السياسية، فان للواقع صورتين أولاها يعكسها الإعلام الواقعي كما هي بلا تغيير، وثانيها تقوم على التشويه بعيداً عن أي موضوعية وحيادية ومصداقية لأنه لا يصور ما هو كائن وموجود فعلاً. أن لكل فضائية عربية سياسة معينة ومزاجية خاصة ومرجعية لها لا تتجاوز خطوطها الحمراء واضويتها الخضراء، وهذا لا يمكن أن يمرّره الوعي العربي اليوم الذي يطمح أن يرى الحقيقة مهما كانت مريرة، وإذا كانت الفضائيات تعكس ما ترغب به المجتمعات لا الدول، فإنها تساهم في تأخر الوعي وتعمل على جر تفكيرنا إلى الوراء قسراً وأنها تزرع كل الخطايا في طبيعة الإدراك الجمعي الذي بات يستهوي ما يرضي عواطفه وما يشبع رغباته وما يلائم أمزجته وما يريح أعصابه.

*كيف يمكن تقويم أداء برامج الفضائيات العربية لتناسب أجيال الشباب أو لتساعدهم على الوعي الفكري؟
إن دور الفضائيات يغيب تماماً في تربية الأجيال وتصويب الأخطاء ونقد المواقف ونشر الرأي العام ومتابعة الأحداث وتحليل الظواهر، بل وتغيب أيضاً بشكل مقصود مساهمات العلماء والمفكرين والتعرف على الثقافات والعالم. إننا لم نجد أي إعلام واقعي في صناعة المستقبل! وعليه، لابد من إصلاحات جذرية معمقة يقوم بها مختصون أذكياء! كما أن جيلنا الحالي لا يعرف من فضائيات اليوم إلا الانغلاق ومكررات النصوص وتشويه العقول والسذاجة الفكرية. إنه بحاجة إلى ثورة فكرية وإعلامية وأخلاقية في تطوير أساليب الحذاقة والمهنية العالية والعقلية المنفتحة، وان تلغى كل هذه البرامج السخيفة التي دخلت كل البيوت والغرف. إن أجيالنا القادمة ستطالبنا حتماً بضرورات المستقبل، ولكن فضائياتنا تأكل الزمن، وتضعف الحياة، وتشغل التفكير، وتميت الأعصاب وتشوه الأذواق. إنني أعيد منادياً ومطالباً بالاتفاق على لائحة عربية تطالب الجميع بالاحتراف وبعدم جعل الحرية وسيلة تبرر نشر الفساد الفكري والاجتماعي والأخلاقي وإشاعة الدجل والخرافة والشعوذة وزرع الانقسامات الطائفية والمذهبية وإثارة المواقف وإشعال المشاعر المضادة للحقائق العقلانية والواقعية. ان هذه الثورة الإعلامية إما أن تغدو وسيلة نهضوية حضارية من أجل بناء المستقبل، أو أنها ستبقي حياتنا كسيحة واستهلاكية وضائعة، وتلك هي مشكلة معقّدة لا يمكن حلّها أبداً. وعليه، نطالب بأن يندرج الإعلام المرئي خصوصاً في دائرة إهتمام الدول والمجتمعات والمدارس والجامعات وحتى النخب من أجل تقويم أدائه وتطوير برامجه ومنوعاته والاستفادة من مبتكرات ما تقدّمه بقية المجتمعات لأبنائها. فهل ستتحقق أمانينا؟ إنني أشك في ذلك!

*برأيك لماذا ينجح المبدعون العرب في الخارج بينما لا يتحقق لهم ذلك في أوطانهم؟
لا يستطيع كل المبدعين العرب النجاح خارج أوطانهم، فثمة ظروف صعبة قد تحيط بهم، ولكن بشكل عام، فان من يجد فرصته ليس في خارج وطنه، بل في الغرب خصوصاً فهو محظوظ كي يبدع في مجال تخصصه أو في مجالات أخرى. ولكن يعطي موهبته وجهوده لمجتمعات أخرى ترعى مواهبه وتثمّن دوره. ان الجواب في تمام الوضوح المبدعون العرب في أوطانهم وأممهم مسحوقون، ولكن يتدرج الانسان في الغرب منذ سنوات مدرسته الابتدائية ليعرف أين يكون في المستقبل، ويختار بنفسه تخصصه، وعليه تجدين أن كل انسان مبدع في حقل نشاطه وتخصصه، أما في مجتمعاتنا فالبشر لا قيمة لهم ويا للاسف الشديد!! أعترف بأن عدداً غير قليل من المبدعين والمثقفين العرب والاتراك والايرانيين قد نجحوا في مشروعات عدة في مجتمعات غربية، بل وأصبح بعضاً منهم رموزاً لثقافات عالمية، وبالرغم من كل ذلك فان غبنا كبيراً يلحق بهم في أوطانهم، بل ولا يعترف بأعمالهم ولا تثمن مجهوداتهم ولا تحترم اغتراباتهم! واعتقد أن كل ما يمضي الزمن نحو الامام ستزداد شقة الخلاف بين أهل الداخل وأهل الخارج نتيجة تباين المفاهيم واختلاف الرؤى وتعاكس الاتجاهات، وهنا ينبغي القول باحترام إرادة كل من في المهجر، وعلى ابن المهجر أن يتحسس عمق المأساة التي يعاني منها ابن الداخل!

*عاش العرب في فترة الخمسينيات والستينيات بفكر معين وشعارات وطنية محددة. كيف ترى شعارات وفكر الاجيال الجديدة في الفن والادب والسياسة؟
خذيها قاعدة، اننا لا نجد اليوم فناً حقيقياً ولا أدباً حقيقياً ولا سياسة حكيمة ولا إبداعاً يفرض نفسه ليس علينا نحن، بل يأخذ مكانته في العالم. لم أعد ألقى مجلة حقيقية في الادب العربي كالرسالة أو الاداب أو الاديب أو شعر أو فراديس، لم يزل بعضها حياً يرزق، لكن لا تأثير لمضامين ما ينشر اليوم، وأنا أتكلم عن الاتجاهات العامة التي تحدد سيرورة جيل كامل. في مرحلة الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات كان الفكر القومي مسيطراً، بعد أن كان الفكر الليبرالي مسيطراً على مجتمعاتنا في مرحلة ما بين الحربين العظميين، ومنذ العام 1979 وحتى اليوم، أي على امتداد جيل كامل في الثمانينيات والتسعينيات والعقد الاول من القرن الجديد تغيرت الاتجاهات العامة للتفكير والشعارات السياسية للمرحلة، ومات الفكر القومي، بل واستهجن من قبل قطاعات سكانية واجتماعية عربية لتصبح الشعارات الدينية البعيدة عن المضامين الاسلامية الحقيقية وخصوصاً عندما استخدمت الثورة في إيران تعبير" تصدير الثورة" وشعارات الصحوة هي البديلة التي أكلت الاخضر واليابس، فأصبحت السياسة والاعلام والثقافة وكل المجتمع تهيمن عليه سلطات الوعاظ وهم يوزعون أحكامهم وأوامرهم ونواهيهم، أصبح المجتمع في قبضة رجال تابو يمتلكون سلطة إجتماعية ضاربة وهم لا يعرفون من تعقديات الحياة المدنية شيئاً، بل إنهم (التابو المقدّس) في نظر العوام من الناس، ولما كان العوام جهلاء وامييّن، فلقد أصبح المجتمع كله في قبضة ( التابو المقدّس) في كل مكان، في أروقة السياسة وفي الصحف وفي الاعلام الاذاعي وفي الاعلام المرئي، بل وحتى في الشارع، بل والاخطر أن ما تسمينه "شعارات" قد انقلب الى "مضامين" لا تتفق وسياقات هذا العصر، بل ولم تكتف مجتمعاتنا بما تفعله في دواخلها، ولكنها بدأت تنقله الى العالم لتعطي صورة مؤذية وكالحة عن ثقافتنا وحياتنا الى العالم كله! إن الاديان ينبغي أن تكون ذات سمو وتجلة وعلو، ولا يمكن أبداً أن تصبح مبتذلة كما يريد بعض الغلاة ذلك، والاسلام سماحة واعتراف بالاخر وسعي ونشاط وحث على العمل وأمانة وأخلاقيات عالية واحترام للانسان والانسان عنده يعادل كل البشرية .. الخ، لا كما يريده المتعصبون أداة تكفير وإرهاب وقطع رقاب ولا كما يجعله الاخرون أداة إنتقام وضرب ولطم وتطبير!!

*كيف تصف الشخصية العربية حالياً؟
الشخصية العربية هي في الحقيقة، المثال الساطع والنموذج الرائع للشخصية المنتجة الفاعلة السمحة الكريمة الودودة والبسيطة والقنوعة في كل مجتمعاتنا بالمنطقة، وفضلاً عن ذلك هي شخصية رائعة ان كانت منفتحة ومتحضرة وحقيقية وواضحة ومبتسمة ومرنة، ولها سلوكياتها الراقية في التعامل وتحمل قيما أصيلة من السماحة واللياقة والاعتدال والمثابرة والصدقية. ولكنها ستغدو شخصية ثقيلة الظل ان كانت ( وقد غدت ويا للاسف الشديد ) في تضاعيف كل هذا الزمن الصعب: محتجبة وغامضة وغير منفتحة وحاقدة وكارهة ومزاجية ولا تعلن عن إرادتها الحقيقية، أو إنها شخصية مليئة بالتناقضات، وتناقضاتها غير متصارعة لكي ينتصر نقيض النقيض فيها، بل هي متفاعلة ومركبة بفعل عدم تنمية أي تفكير لدى تلك الشخصية بفعل الجهل المطبق وانعدام الوعي بتوافه الامور في أكثر الاحيان، شخصية معّقدة ومقلدة وتافهة منتجة للمزيد من التراكيب المعقدة بفعل تفاعل تلك التناقضات. شخصية تعيش في الماضي روحاً وفكراً ورؤى ولكن جسدها يمشي هنا وهناك، انها غير إنسانية وتعاصر الاشياء دون أن تراها، إنها شخصية معمية البصر والبصيرة معاً، إنها شخصية إنسان مشبع بالاوهام والتفاهات والاشياء التي لا تعقل أبداً، انه يجلس في طائرة حديثة أو يستخدم الموبايل والستالايتات أو يعالج باجهزة الاسكاننك المتطورة وغيرها من آخر ما أنجزه العصر، ولكنه لا يفكر أبداً في التشيؤات أبداً! ان الشخصية التي نجدها عربياً وايرانياً وتركيا وافريقياً وأفغانيا وباكستانياً وغيرها هي شخصية لا تعرف تنمية التفكير أبداً هي من نسق واحد وتفكير واحد، لقد سحقتها قوة المعاني الرمزية ولم تفكر في طبيعة الاشياء، انها واقعة تحت وطأة الزمن ولا تقبل التحرر منه مهما كّلف ذلك من أمرها! انها سريعة العواطف والغضب والانفعالات والكراهية للاخرين وتهميش الاخرين وتسفيه الاخرين وتكفير الاخرين، انها لا تراعي حقوق الانسان، إنها لا تعرف الرحمة، انها لا تعرف معنى الاختلاف ولا الديمقراطية انها لا تعرف الا التكفير والقتل، انها شخصية ظالمة تسحق كل من يخالفها الرأي، بل إذا راقبنا منذ الثمانينيات وحتى اليوم كم اقصي من علماء وكم اضطهد من مفكرين وكم لوحق من أدباء وكم كفّر من روائيين، والحبل على الجرار، انها تستخدم كل أدوات القهر وبسببها فان الاعلام في أزمة والسياسة في مأزق والثقافة في عطلة تاريخية جماعية، بل انها هيكلية مموّهة تستفيد من كتابات وأصوات اناس سموا أنفسهم بمثقفين وكّتاب كبار وهم ماضون الى حيث نهايات مجتمعات كاملة لا تجاري هذا العصر وستتخلف عنه وسيأتي زمن لا تستطيع أن تفهمه. انها مأساة لا يمكن تخيلها وستبقى تسحق مجتمعاتنا وتجلب له الخراب والعدوان والحروب الهمجية والاحتلالات الاجنبية!!

*في ظل عصر العولمة وثورة المعلومات. لو قدر لك أن تحذف شئ من مكوناتها، ما هو؟ ولو قدر لك أن تضيف، ماذا تضيف؟
لو قدر لي أن أحذف وأضيف، فسوف أحذف تماماً على النظام العالمي الجديد، وعلى الكارتلات الاقتصادية المخيفة وساكون ضد تسريح ملايين العمال في العالم من وظائفهم بفعل سطوة شركات متعددة الجنسية، وساحذف كل أشكال الهيمنة الاقتصادية وعلى آثار الكابيتالية الجديدة التي لا تعرف الا سلخ الموارد، وساشطب على كل التشويه الذي أصاب بعض المجتمعات التي أخذت تتاجر بكل المحرمات، أما ثورة المعلومات فلا يمكنني أن أشطب على شيئ فيها الا على ما أتاحته تكنولوجيا المعلومات من وفرة معلومات خاطئة لا يمكن الاعتماد عليها، فضلاً عن دخول كل من هب ودب ليدلي باقواله التي لا سند علمي لها، وستخلق هذه الحالة مشكلات صعبة للعالم على مدى ثلاثين سنة قادمة! أما ما يمكن إضافته الى العولمة خصوصاً .. تحقيق نسب عالية من الاندماجات في الثقافة ولكن ليس على حساب الخصوصيات، إضافة الى أن تلعب العولمة دوراً حقيقياً في مساعدة المناطق المتضررة جوعاً وفقراً وحرائقاً وفيضانات وزلازل وأمراضاً، إن العولمة لا يمكن أن تبقى متوحشة لا تعرف الا منطق الربح، بل عليها أن تمثّل ضميراً إنسانياً مستخدمة كل الوسائل النظيفة في التاريخ وأن تعمل من أجل المستقبل لكل البشرية وأن تمحي من قاموسها ما أسمته بعالمي الشمال والجنوب!

*لا شك بان هناك انحدار في مستوى الثقافة العربية في معظم المجالات. إلا أن المجال الفني أصبح واضحاً ولافتاً جداً. بغياب الكلمة واللحن والاداء. هل بالفعل الجمهور عايزة كدة؟
كلا أبداً، في كل مرحلة زمنية الجمهور متنوع في رغباته وأهوائه، ولا يمكن أن يتنازل المبدعون والفنانون الحقيقيون من الاعلى نحو الادنى لهكذا أسباب تافهة، بل عليهم ما استطاعوا أن ينجحوا في أن يرفعوا المستوى نحوهم، كما هو حالي كأستاذ في الجامعة، إذ لا يمكنني أن أنزل الى مستوى طلبتي حتى لو كانوا طلبة دكتوراه، بل عليّ ما استطعت أن أرفعهم الى المستوى الذي أنا فيه .. الفنان الحقيقي لا ينزل ولا يمكنه أن يتنازل .. أما السؤال الحقيقي: أين هو الفنان الحقيقي؟ انه حال أي مبدع عربي حقيقيّ! انه مغيّب تماماً عن المرحلة وقد خفت دوره، انني اعترف بأن حياتنا العربية اليوم فيها أصوات رائعة وإمكانات فنية راقية ولكنها أيضاً حالها حال أي قطاع ثقافي آخر، إنها مكبّلة بالقيود وبالاصفاد. إن الفن الحقيقي مغّيب بل وانه قد ضعف جداً عن أداء دوره بسبب مرور ثلاثين سنة عليه وهو يمّثل عطاء تكوين هش في الماضي، ولابد أن يعلم الجميع بأننا في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات قد قطفنا ثمار تكوين الثلاثين سنة التي سبقت الخمسينيات وكانت مرحلة بكر ورائعة ونهضوية حرة ونجح العرب في تكوين جيل من أروع العمالقة في مصر ولبنان والعراق وسوريا وتونس والمغرب والجزائر، أما في الثلاثين سنة الاخيرة، فهي تمثل ثمار تكوين المرحلة الانقلابية والايدولوجيات السياسية، أما الثلاثين سنة القادمة فستمثل في عطائها جيل جرى تكوينه منذ الثمانينيات حتى اليوم، فتخيلوا عمق المأساة خصوصاً وان هذه المرحلة قد شهدت اسوأ الاحداث والكوارث والحروب وكل تناقضات الغنى والفقر وبؤس الثقافة وهزال التربية والتعليم. ان مجتمعاتنا بعيدة كل البعد عن الفنون الراقية وعن الثقافة الراقية. فقط تخيلوا كم كانت الاجيال السابقة تقرأ ما يصدر من الترجمات للاداب الاجنبية، ومقارنة مع ما يصدر من ترجمات للاداب العالمية اليوم؟؟

*هل تعتقد بانه من الافضل لو كان هناك إتحاد أو هيئة عربية على غرار جامة الدول العربية معنية بالثقافة العربية لتوحيد الجهود ولتفعيل الثقافة العربية؟
موجود هي منظمة الاليسكو في تونس والتابعة لجامعة الدول العربية! وموجود معهد الدراسات والبحوث! وموجودة منظمات واتحادات عربية، ولكن لا نفع فيها كلها، فالثقافة العربية لا يمكننا أن نتعامل معها معلبة مثل السردين. الثقافة العربية هي قدرة أصحابها على أن يقدموا إبداعاتهم على أعلى درجة من المنافسة والتقدم والنشاط ليس في ما بينهم حسب، بل بينهم وبين ثقافات أخرى في العالم. لا يمكن ان نخلق في يوم وليلة ثقافة فاعلة، لا يمكن أن ننام ونصحو على حياة عربية مليئة بالمثقفين المبدعين، علينا أن نحصد تاريخياً أوضار ما خلفته لنا العهود السابقة بكل توحشها وقسوتها! الثقافة ـ كما أتخيلها ـ دوماً هي احتراف وهي قدرة أي إنسان في المجتمع أن يبدع في مهنته على درجة عالية من الكفاءة، الثقافة العربية بحاجة الى ثلاثين سنة على الاقل أن نجحنا فعلاً في تطوير مناهجنا وتنمية تفكيرنا وتجديد أساليبنا ونقد أوضاعنا. الثقافة العربية بحاجة الى مجتمعات آمنة ومستقرة ربما تعيش فيها صراعات فكرية لا سياسية وربما تحيا على منازلات أدبية واستكشافات علمية. الثقافة العربية لابد أن تجد تجمعات وملتقيات ومنتديات تشيع روح الحرية والعقلية المدنية ضمن ضوابط دنيوية. الثقافة أن تجد إعلاماً نظيفاً ومثقفين حقيقيين، فالمثقف الحقيقي ينأى دوماً عن الاشباه والذيول والاذناب. الثقافة العربية لا تحتاج الى قوالب رسمية وهيئات وتجمعات كي تكون مبدعة، فالمبدعون يمثلون أنفسهم وحدهم، المبدع هو عالم خاص بذاته لا يجد نفسه لدى الاخر، بل يجد نفسه في ذاته ليطرح مشروعه أو قصيدته أو نصه أو لوحته أو مقطوعته على الاخر. انني أعتقد ان الثقافة العربية ستغدو هزيلة جداً على إمتداد الجيل القادم، أي حتى نهاية الثلاثينيات من هذا القرن. وسيرى العالم كم هي قدرة الجيل القادم على صنع مستقبل جديد للثقافة العربية في قابل، ولكن ضمن متغيرات العصر؟ وهل سيتخلص الجيل القادم من كل ماضويات التفكير وبلاهة الوعي وعقم الحياة ؟؟

*هل استطعنا أن نوصل للاخر ثقافتنا الحقيقية؟
ماذا تقصدين بثقافتنا الحقيقية؟ أي ثقافة حقيقية نحن نمتلكها اليوم؟ عندما يفرض كاتب ياباني أو موسيقار صيني أو أديب من أمريكا اللاتينية نفسه على العالم يكون كل واحد منهم قد أوصل ثقافته للاخر. أما إن بحث أحد شعرائنا عن مترجم ليترجم له بعض قصائده لينشرها بالانكليزية أو قام مطرب وغنى في قاعة البرت هول بقلب لندن للجاليات العربية أو عرض الاوسكار فيلماً عربياً على عشرة أشخاص من المتواجدين العرب أو كتب أحدهم مقالة هزيلة ونشرها بالفرنسية..فليس معنى هذا إننا فرضنا ثقافتنا على العالم، اننا نضحك على أنفسنا في كثير من الاحيان عندما نتخيل أن مغنية قامت بالغناء والرقص في كندا أو أن أستاذاً دعى لحضور ندوة في أمريكا لدعوة تلقاها من أستاذه بناء على رغبة منه، ونتوهم إن أصبحت ثقافتنا عالمية؟؟ والمشكلة أن كل مغترب عربي يقدم إبداعه في علوم الفضاء والطب والفيزياء والتاريخ وغير ذلك في ما يقدم في الغرب مثلاً لا يقدمه باسم الثقافة العربية ولا باسم وطنه الام، بل يقدمه باسم جنسيته الجديدة! فلا يغرنكم كل ذلك، إننا لسنا باصحاب ثقافة حقيقية حتى يتلقفها العالم؟

*كيف تقيم عام 2006 ثقافياً؟
صفر على الشمال ..ربما اطلعت على بعض ما صدر وما نشر وما انتج من أعمال وأفلام وإبداعات، ولكنها لا تتناسب أبداً مع حجم ديمغرافي يتجاوز الثلاثمئة مليون نسمة! ولمن هذه كلها؟؟ إنها لنسبة بسيطة جداً جداً من مجتمع يسمونه مجتمع عربي نسبة الامية فيه أكثر من 70 بالمئة!! دعيني أقول آخر كلمة وأوجه خطابي الى كل أبناء مجتمعاتنا بأن يفكّروا في المستقبل وأن نزرع الامل ونجدد الحياة كل يوم وأن ننتقد الاخطاء وأن نحرر التفكير من كل القيود وأن نجد في الجيل الجديد مادة أساسية في التغيير والخلق والابداع متمنياً أن تشهد مجتمعاتنا تطوراً نحو الاحسن وأن نشارك العالم كل مشروعاته وتجديداته من أجل حياة أفضل .. ونزرع الكلمة الطيبة في كل مكان وأن نتقبل كل الاراء والافكار بروحية عالية وصدر رحب .. فهل ستغدو لنا ثقافتنا الحقيقية في يوم من الايام ؟ هذا ما أتأمل حدوثه بعد كم آت من السنين.

الشكر الجزيل لك د. سيار على هذا الحوار الممتع
شكرا لك سلوى مع تمنياتي الطيبة لايلاف الزاهرة.

salwalubani@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف