معرفة

مقالة في التقمُّص قراءة نقدية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

كتبت هفال يوسف:صدر الكتاب الثاني من سلسلة "الحكمة"[1] التي يقوم عليها الباحث ديمتري أڤييرينوس بعنوان مقالة في التقمص[2]. يحوي الكتاب، بالإضافة إلى "مقالة في التقمص بحسب التعاليم الثيوصوفية"، ثلاثة نصوص للمفكر الثيوصوفي وليم ك. دجدج تحمل عناوين "العَوْد للتجسُّد" و"كَرْمى" و"حِكَم في كَرْمى"، ترجمَها إلى العربية توفيق شمس وديمتري أڤييرينوس.

موضوع البحث، في حقيقته، يتجاوز سؤال التقمُّص، الشائك والعسير، وذلك لأن قضية كهذه لا يمكن فصلها عن مجمل الأسئلة والأسرار الوجودية حول حقيقة الإنسان وماهيته، حول الحياة - معنًى وغايةً -، وحول الوجود بكلِّيته وما يكتنفه من مجاهل معرفية لا تزال تحتفظ بعذريتها بعيدًا عن متناول الفضول الإنساني.
يتماس التقمُّص مباشرة مع الموت وما يفرزه من تساؤلات وقضايا شغلت معظم الفلاسفة والعلماء والمفكرين على مرِّ العصور. يقول الراحل دَگْ همِّرشولد، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة:
لو ذهبنا حتى جذر الموضوع فإن فكرتنا عن الموت هي التي تقرِّر إجاباتنا عن جميع الأسئلة التي تطرحها الحياة.[3]
في محاولته لتجاوز الموت، وفي أثناء بحثه عن ينبوع الحياة والخلود والأبدي، طرح الإنسان إجابات عدة بقيت محل جدل طويل. بعض تلك المذاهب والأفكار لا يزال محتفظًا بحيويته في وقتنا الراهن، وخاصة تلك التي اعتمدت مفهوم التقمص أو "العَوْد للتجسد" reincarnation لبنةً أساسيةً في بناء منظوماتها العقائدية والفكرية.
يرتبط التقمُّص ارتباطًا وثيقًا بعلم الأخرويات أو "النشوريات" eschatology، أي الاعتقاد باستمرار الحياة بعد الموت، أو بالحري، اعتبار الموت سيرورة من سيرورات الوجود؛ فهو، بالتالي، تحوُّل وانتقال، لا إلى عالم آخر مفارق، بل إلى حالة أخرى - ذلك لأن من المبادئ الأساسية للثيوصوفيا Theosophy، التي ينطلق منها المؤلف في دراسته للتقمُّص، النظر إلى الكون بوصفه كائنًا واحدًا لا يتجزأ، لا يولد ولا يموت، أزليًّا غير محدود (ص 16).
بالعودة إلى الكتاب الذي بين أيدينا، لا يحاول المؤلف مَنْطَقَةَ آرائه أو "فَكْرَنتها"، وذلك لأنه يتناول ما يتجاوز حدود المنطق والفكر، ولأن الكلام على المطلق واللاتناهي والأزل والأبد إلخ يقع خارج حدود التذهُّن والتصوُّر. يؤكد ذلك الحسين بن المنصور الحلاج في "طاسين الفهم"، إذ يقول:
أفهام الخلائق لا تتعلق بالحقيقة، والحقيقة لا تليق بالخليقة. الخواطر علائق، وعلائق الخلائق لا تصل إلى الحقائق.[4]
من هذا المنطلق، فإن المؤلف، عبر شرحه للمبادئ الأساسية التي يقوم عليها "دين الحكمة" (الثيوصوفيا)، لا يحاول إقناعنا بقدر ما يحاول تعريفنا بهذه العقيدة التي ترى الكون كائنًا واحدًا لا يتجزأ: "حي وعاقل - ككل وفي كل جزء من أجزائه. وهو، في كلِّيته، تجلٍّ لمكوِّنه الذي هو الله أو الواحد أو المطلق" (ص 16). لا خوف هنا من الوقوع في الإشكالية الأرسطية حول حدوث العالم أو قِدَمِه، لأن "الله، من هذا المنظور، ليس كائنًا مستعليًا transcendent على الكون" (ص 16). بيد أننا نقع هنا في المحذور، حيث يجب اجتناب كل محاولة لتقديم تعريف، وذلك لأن أية محاولة للتعريف بـ"الله" بوصفه خالقًا تقود لا محالة إلى التعريف بما ليس هو "الله". ولقد نبَّه ديونيسوس الأريوپاغي إلى هذا الأمر حين قال:
ليس لأحد ممَّن يحبون الله فوق كل حق أن يجوز له تمجيد جوهر الألوهية السامي - الذي هو الوجود الأعلى والخير الأسمى - على أنه كلمة أو عقل أو حياة أو ماهية، بل على أنه مفارق لكل وصف وحركة وخيال وتخمين ولفظ وفكر وتصوُّر وماهية ووضع وثبات ووحدة وحدود ونهائية، بل وبأي شيء آخر على الإطلاق[5]
- الكلام الذي ينسجم مع القول الهندوسي: "ليس هذا، ليس ذاك". ولكن، كما أسلفنا، لا يحاول المؤلف إقناعنا، الأمر الذي يدفعه إلى الحديث عن خلود الكون، حيث "كل ذرة حية فهي لا تفنى، لكنها في تطور (تفتُّح) أبدي" (ص 17). فالخلود، بمعنى سرمدية أزلية-أبدية، مفهوم نظري غير قابل للتذهُّن؛ وبالتالي، فإنه ينضوي تحت المحتوى الإيماني، لا المعرفي. وفي الحقيقة، إن كونًا لامتناهيًا، مكانًا وزمانًا، هو شيء غير معقول. لكن الثيوصوفيا، باعتبارها هذه الوحدة بين "الله" والكون، لا تتناقض مع ذاتها، وذلك لأن "القوانين سارية في كل شيء، من الذرة إلى المجرة. [...] تناغُم الكل تناغُم واحد غير منقسم" (ص 17).
أحد هذه القوانين هو قانون كرمى karma الذي سنعود إليه لاحقًا. غير أننا نجد أنفسنا هنا أمام معضلة غير قابلة للحل في العلاقة بين الـ"كائن"، الذي هو "شعاع Ray في الكل ومنه" والذي "ينطوي بالقوَّة in potentia على صفات الكل ومقوِّماته كافة" (ص 17)، وبين هذا "الكل"، وذلك لأن كون "الشعاع" ينطوي بالقوَّة على صفات الكل لا يعني البتة أنه يساوي الكل أو أنه قادر على أن يكون كلاًّ بذاته. فاللامتناهي لا يُدرَك، وإنما يُتناهى إليه؛ الأمر الذي بيَّنه ابن عربي في شرحه على مقولة سهل التُّسْتَري حين قال: "إن للألوهية سرًّا، لو ظَهَرَ، لبَطُلَتِ الألوهية"؛ إذ قال الشيخ الأكبر: "الألوهية مرتبة للذات لا يستحقها إلا الله"[6].
ترى الثيوصوفيا في الحياة مدرسة يتعلم فيها المرء من أجل
[...] بلوغ مستوى من الوعي هو الوعي المنعكس على ذاته، أي وعي الوعي [...]. وعندما يخترق "المدرك" حدود ظاهر الأشياء إلى بواطنها يتعرف، كشفًا، وجود العاقلة الصادرة عن أصل الوجود - في نفسه وفي غيره من البشر الفانين الذين يتجلَّى من خلالهم الإنسان الخالد. (ص 18-19)
ولأنه "لا حدود للحكمة وللتعلم" (ص 19)، فالإنسان في حاجة إلى حيوات عديدة لحصول هذا التجلِّي. بيد أننا نسأل من منطلق "لاحدِّية" الحكمة أو لامحدوديتها: هل يتوقف التطور عند "الإنسان الخالد" أم يستمر؟ والإجابة سوف تكون طبعًا: يستمر! عندئذٍ نتساءل: ماذا بعد الكمال؟!
في البحث عن الأصول الكتابية الأولى لعقيدة التقمُّص، يعود بنا ألبرت شڤايتْسِر إلى الأسطورة القمرية القديمة التي تقول:
كل أولئك الذين يغادرون هذه الأرض يذهبون إلى القمر. فنفوسهم تملأ البدر، والهلال المتناقص يجعلهم يولدون من جديد. إن القمر باب السماء، وعندما يعرف المرء كيف يرد عليه يترككم تمرون. ومَن لا يعرف الجواب يحيله إلى ماء ويعيده مطرًا إلى الأرض. وهناك، [يثاب] بحسب ما قدَّمتْ يداه وبحسب ما يملك من معرفة. [...] والحقيقة أنكم عندما تصلون إلى القمر يسألكم: "من أنت"؟ عند ذلك يجب أن تجيبوا: "أنا أنت". وكل مَن يقدم هذا الجواب يتركه القمر يمر.[7]
ويعيد شڤايتْسِر أصل هذه الأسطورة تاريخيًّا إلى سكان الهند السابقين للفتح الآري، حيث يؤكد عدم وجود أي أثر لها في الأناشيد الڤيدية، إلى كونها تبدو غريبة عن التصوف البرهمني.
كذلك نرى أن أزلية الوجود هي من ضمن تعاليم كرشنا لأرجونا في البهگڤدگيتا Bhagavadgītā، حيث يقول: "غير أني لم أكن غير موجود، ولا أنت ولا أولئك الرجال الحكماء، ولن يتوقف أي منا أن يوجد هنا"[8]. ويقول في موضع آخر: "لا وجود لما لم يوجد، أما ما هو حقيقي فإنه لن يكون غير موجود"[9]. أما بخصوص التقمُّص فيقول كرشنا: "كما يتخلص المرء من ملابسه ويلبس ملابس جديدة، كذلك الروح المتجسِّدة تتخلص من الأجساد وتدخل أجسادًا جديدة"[10]. وأما عن دورة الولادة والموت فيقول: "حيث إن الموت مؤكد لمن يولد فإن الولادة مؤكدة لمن يموت"[11].
وبالعودة إلى الكتاب قيد القراءة، نرى المؤلف يستنتج "بالقياس العقلي" أن "الكون [...] صادر عن المطلق" (ص 19). وعلى الرغم من أنه لم يشرح كيفية هذا "الصدور"، يمكن لنا مقارنة مفهوم هذه الكلمة مع مفهوم "الفيض" الأفلوطيني. ولكن، ألا يفترض هذا الصدور عن المطلق مبتدأ زمانيًّا، وبالتالي، منتهًى زمانيًّا أيضًا؟ الثيوصوفيا تقول: لا، لأن المطلق ليس مفارقًا للكون، ولأن الكون قابع أصلاً في كمون المطلق، ولأن مادة الكون "مجلى من مجالي واحدية ما بعد الروح الذي يمكن لنا أيضًا أن نسميه الحياة" (ص 20). وبما أن المادة والروح تجلِّيان للمطلق الكلِّي الخالد، فهما غير قابلين للفناء؛ وبالتالي، فإن "الحياة كلِّية الحضور omnipresent [...] غير قابلة للزوال" (ص 21).
ويرى المؤلف أن الحياة طاقة، وأن الطاقة تخضع لقوانين طبيعية. من هذه القوانين الراحة والنشاط. وبالتالي، وبما أن كل فعل هو طاقة، فإن هذه الطاقة سترتد علينا مساويةً لفعلنا، مما يعني توازنًا وتناغمًا وتواكلاً "بين كل واحدات الحياة المتساوقة في التطور" (ص 22)؛ الأمر الذي ينفي "المصادفة" أو "الحظ"، ليحل محلَّه القانون الكوني الذي هو قانون "لا يخطئ وغير شخصي impersonal" (ص 23). هنا يقع المؤلف في تناقض حين يقول: "من هنا ليس لأي صلاة أو التماس مرفوع لإله أو شفيع أن يمنع القانون من السريان" - نقول "تناقُض" لأن الصلاة أيضًا "فعل"؛ فإنْ كانت الصلاة "صالحة" فلِمَ لا تعود على صاحبها بالخير؟ أليس هذا هو القانون؟!
ينطلق المؤلف، بعد ذلك، راصدًا الحركة الدائرية أو اللولبية في الطبيعة، ليصل إلى إثبات سريان هذا التواتر في الإنسان عبر مفهومي التقمُّص وكرمى - موضوعَي الكتاب.
في إطار شرحه لـكرمى يوضح المؤلف أن "الجذر السنسكريتي كْر kri يتضمن معنى "الفعل" ويدل ضمنًا على دورة العلَّة والمعلول. كرمى هو قانون الدينامية الروحية law of spiritual dynamics" (ص 24). وهو يستشهد بالطبيعة وظواهرها، كتعاقب الليل والنهار والفصول وأطوار القمر إلخ، ليدل على دورية التطور الكوني وليصل، بالتالي، إلى أن هذه الدورية تستوجب الولادة بعد الموت بهدف الوصول بالإنسان إلى غايته الأسمى: الألوهة (ص 25-27). وبالتالي، فإن الكون "مدرسة شاسعة" (ص 28)، والبشر فيها تلاميذ يتعلمون ويختبرون، وتستمر دورات الولادة والموت حتى التخرُّج من مدرسة الكون. وهكذا فإن قانون العلة والمعلول "سار أبدًا، سواء وعيناه أم لم نعِه؛ وبسريانه تصاغ مصائر الأشياء" (ص 30)؛ الأمر الذي قد يقودنا إلى أن النتيجة معروفة مسبقًا، فيما ذهب إليه الجبريون. لكن المؤلف يبيِّن أن هذا "السريان المتواصل للقانون يتولد من إرادة الإنسان الحرة وحدها ويتوقف عليها" (ص 30)؛ وبالتالي، فكل علة هي "معلول معلولها"، على حدِّ قول ابن عربي. وبذلك يبدو كرمى قانونًا لاجبريًّا، يعتمد على سيرورة أفعال الشخص الاختيارية.
لكننا نعود إلى الاختلاف مع المؤلف في حديثه عن المعجزات التي ينفي وجودها، وذلك لأن "كل شيء [...] واقع تحت حُكم القانون. [و]هذا يعني بالضرورة أن الله لا يستطيع خرق قوانينه" (ص 33). وهذه الفكرة تقترب من عقيدة المعتزلة والفكر الأرسطي حول ضرورة الفعل الإلهي تبعًا للقانون. ولكن، هل يمكن الحديث عن "إله" مقيَّد الإرادة بقانونه؟!
وباعتبار أن جميع القضايا الآنفة الذكر تعتمد في معالجتها على السؤال المركزي: "ما هو الإنسان؟" فإن المؤلف يتحدث عن الإنسان بوصفه كائنًا سبعي البنيان من حيث تكوينه؛ لكنه يقتصر في نقاشه على أبعاد ثلاثة، ألا وهي الجسم والنفس والروح (ص 36-37). ولأن النفس هي ما يجعل الإنسان بشرًا، فإنه يوضح هذه الفكرة بقوله: "النفس [...] نفسان: نفس دنيا [...] زائلة [...] تسمِّيها الثيوصوفيا أنيَّة الشخصية personal ego [...]؛ ونفس عليا [...] تتصف بالديمومة [...] يُصطلَح على تسميتها بأنيَّة الفردية individual Ego" (ص 37). وبطبيعة الحال، فالنفس الأبدية، أي "أنيَّة الفردية أو الذات الواعية للإنسان قبل الولادة"، هي التي تتجسَّد، وهي التي تبقى بعد الموت (ص 39).
انطلاقًا من التعريف السابق للإنسان، فإن "الإنسان السوي [يعمل] في ثلاثة عوالم - الجسماني والنفساني والذهني" (ص 39) في الوقت نفسه. ويتم الانعتاق من إسار القانون عندما يبلغ الإنسان بوعيه مرتبة الروح. يحتاج الإنسان للعديد من الدورات الحياتية للوصول إلى هذه المرتبة؛ وبالتالي، فإن دورات التقمُّص هي "الامتداد الزمني الضروري لسريان قانون السببية law of causality" (ص 43). والسؤال هنا هو: كيف؟ ولماذا؟
يقول الكتاب: "تشتمل الولادة على سرٍّ مزدوج: [...] سر نموِّ المضغة [...]. وهناك، ثانيًا، اتحاد النفس بالبدن" (ص 55). ولذلك يؤكد على ضرورة تأمين محيط مناسب لنمو الطفل لأن "الجسم العاجز قد يحوي نفسًا أينعت حكمة" (ص 58). إنما يجب على هذه النفس المولودة أن تحقق استقلالها عن المحيط بأن تصبح قادرة على تحقيق كموناتها تحقيقًا حرًّا (ص 59).
تجري الحياة في تيارين عبر المسار الإنساني: "أولهما جريان النفس (العليا) الخالدة عبر أجسام متعاقبة [...]؛ وثانيهما جريان الحياة من جيل إلى جيل" (ص 59)، تحقيقًا لهدف الإنسانية في التطور وصولاً إلى الكمال: "العودة إلى بيت الآب"، بحسب تعبير المؤلف المقتبس عن الإنجيل (ص 60) - التطور الذي يواصل عمله، مؤكدًا على الأخوَّة الكونية بين الموجودات، من خلال قانون النمو، وذلك لأننا "ننمو بوحدتنا مع كلِّ شيء" (ص 35). فالصلاح، في هذا السياق، هو "القيام بالأعمال المتناغمة مع التناغم العام للكون" (ص 34)، بينما الطلاح هو "الأفعال والخواطر والمشاعر غير المتناغمة" (ص 35). وبالتالي، فالقانون "ينسحب على الصعيد الأخلاقي بمقدار ما ينسحب على الصعيد الجسماني" (ص 35). ويتم هذا النمو عبر دورات الولادة والموت.
تميِّز الثيوصوفيا بين النوم والموت، على الرغم من أن "الموت ليس مختلفًا جدًّا عن النوم" (ص 60): فالنوم انسحاب مؤقت للوعي، بينما الموت يعني مفارقة الجسم نهائيًّا. وتؤكد هذه التعاليم أن الموت الفعلي يحصل قبل الموت الظاهري بمدة طويلة، وذلك حين تتبيَّن الذات العليا انتهاء مهمة "شعاعها" في البدن (ص 61).
ويسير بنا الكتاب في رحلة يصف خلالها حوادث ما بعد الموت، دون براهين بطبيعة الحال، إنما بالاعتماد على التعاليم الثيوصوفية وخبرات الحكمة القديمة، وصولاً إلى تصفية الحساب مع الطبيعة، ليتم التطهُّر من الرغبات والمنازع الشريرة، ولتكون النفس قادرة على مصاحبة الذات العليا للسمو إلى "أرض الآلهة" Devachan (ص 64)، حيث يتحدَّد مستوى الـديڤاخان الذي ستقيم فيه النفسُ طردًا مع مستوى الوعي الذي بلغتْه على الأرض (ص 64). وهكذا يتحدَّد نعيم المرء أو جحيمه بحسب ما قدَّم فيما سلف. ويتم التأكيد صراحة على أن الفردوس وجهنم حالتان، وليسا مكانين. ويقول المؤلف، في جرأة يُحسَد عليها: "تلكم هي قدرة الفكر" (ص 64).
أما مسيرة ما بعد الموت، فتتم عبر مراحل من التأملات، ابتداءً بالأشكال والصور، وصولاً إلى معاينة "الذات" وجهًا لوجه (ص 65). ويحاول المؤلف الإفادة من حالات "الموت السريري المؤقت" (ص 67) للتدليل على صحة هذه الفكرة وصوابها، لكني لا أعتقد أن الأمر بهذا الوضوح وبهذه البساطة. واستنادًا إلى ما سبق، يوصي المؤلف بضرورة مساعدة المحتضر على الانسحاب من جسمه وبعدم إطالة مدة الحداد عليه (ص 68).
يختتم المؤلف مقالته قائلاً:
إن العبرة الكبرى من التقمُّص هي أننا ننطوي على قدرات لانهائية، وفرص أبدية، وغاية إلهية. الثيوصوفيا تعلِّمنا أننا شرارات من لهب واحد، صَدَرنا عن المنبع الأصلي للوجود، ولا بدَّ أن "نعود" إليه يومًا [...]. (ص 69)
ويضيف في لغة شاعرية: "التقمُّص هو إيقاع الوجود نفسه. [...] التقمُّص تأكيد على أن للحياة معنًى وقصدًا. [...] التقمُّص هو العاتق العظيم" (ص 70).
أما فيما يتعلق بملاحق الكتاب - وهي عبارة عن دراسات حول كرمى لدجدج، فلم نرَ ضرورةً للتوقف عندها، لأن معظم الأفكار الواردة فيها جاءت في المقالة السابقة، باستثناء ما يتعلق منها بميكانيزم عمل كرمى، الذي هو في حدِّ ذاته موضوع شائك يحتاج إلى دراسة مطوَّلة، آخذين بعين الاعتبار مختلف الآراء والاجتهادات.
فيما عدا ذلك، يحوي الكتاب الكثير من الأفكار الجدية. وقد استطاع المؤلف، بمنطقه الهادئ الدقيق، وصْل الفقرات والآراء بعضها ببعض بدراية وحكمة، مما أعطى الدراسة قيمة حقيقية. أما ما يؤخذ على البحث فهو توجُّهه إلى الخواص دون العوام - وربما كان هذا الأمر ميزة له، لا مأخذًا عليه! - ولكن قد تتوفر إمكانية إيصال المضمون إلى عدد أكبر من الناس.سماوات

--------------------------------------------------------------------------------

* سماوات.
[1] جاء في تقديم السلسلة: "المقصود بالحكمة ذلك الموروث الروحي الإنساني المشترك الموغل في القِدَم الذي وصلنا بالنقل وبالخبرة بواسطة الوجه الباطن للأديان والفلسفات القديمة، ويعود بإسناده إلى الخبرات الروحية الكبرى التي حققها الجنس البشري عبر مسيرته المضنية باحثًا عن حقيقة وجوده والتي تجسدت، ولا تزال، في حياة وتعاليم حكماء وعارفين من جميع الشعوب والأزمنة."
[2] ديمتري أڤييرينوس، مقالة في التقمص في ضوء التعاليم الثيوصوفية، ويليها مقالان في العود للتجسد وكرمى و"حكم في كرمى" لوليم ك. دجدج، دار مكتبة إيزيس، دمشق، 1998؛ يقع الكتاب في 112 صفحة من القطع المتوسط.
[3] نقلاً عن: ريتشارد شتاينباخ، معنى الحياة والموت، بترجمة هدى موسى، دار الحوار، اللاذقية، ط 2: 1996، ص 31.
[4] الحلاج، الطواسين وبستان المعرفة، من إعداد رضوان السح، دار الينابيع، دمشق، 1994، ص 47.
[5] نقلاً عن جيمس كارس، الموت والوجود، بترجمة بدر الديب، المجلس الأعلى للثقافة بمصر، 1998، ص 81.
[6] ابن عربي، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، مج 1، ص 42.
[7] ألبير شويتزر، فكر الهند، بترجمة يوسف شلب الشام، دار طلاس، دمشق، ط 1: 1994، ص 47-49. والأسطورة مأخوذة عن أوپنشاد كَوشيتكي 1.
[8] شاكونتالا راو شاستري، الباجاڤادجيتا (كتاب الهند المقدس)، بترجمة رعد عبد الجليل جواد، دار الحوار، اللاذقية، طب 2: 2005، ص 30.
[9] المصدر نفسه، ص 31.
[10] المصدر نفسه، ص 32.
[11] المصدر نفسه، نفس الصفحة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف