الحنين خطر على الرواية واللغة العربية لم تتطور
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حوار حسين الشيخ: ليس غرض هذا الحوار الذي أجريته مع رفيق شامي الحديث مع مبدع رواية عن أمور نظرية في بناء الخط واللغة. وبالتأكيد لم أقصد سماع أجوبة جاهزة عن أسئلة لا تزال قيد البحث والتنقيب. هل من الضروري أن يجيب روائي عن أسئلة نظرية جداً صعبة عن الأخطار المحيطة باللغة؟
لا أريد من جهة أخرى إرهاق القارئ بمتاهات لغوية وخطية ونحن الفرحون بظهور أول رواية في تاريخ الرواية العربية (في الوطن والمهجر والمنفى) تختار الخط موضوعا لأحداثها. وتحظى رواية رفيق شامي هذه باحترام النقاد ومحبة القراء في ألمانيا، سويسرا والنمسا وقد ظهرت خلال تسعة أشهر بثماني طبعات ضخمة. رفيق شامي أنهى قبل أسبوع في نهاية أيار 2009 رحلة طويلة عبر 90 مدينة لتقديم هذه الرواية للجمهور وللحوار معه حول ما تطرحه قصته. وسيبدأ رفيق شامي الجزء الثاني لرحلته في أيلول القادم ويستمر حتى نهاية السنة.
"سر الخطاط الدفين" حدث يشابه في إحدى غاياته قرع الأجراس لنستيقظ ونبدأ حواراً جميلاً، شاقاً وشيقاً حول وضع أبجديتنا.. لكل هذا ورغم التردد وامتلاء جدول أعمال كاتبنا تحدثت معه لأشهر طويلة عبر الإنترنت... وكل ما أرجوه لهذه الرواية أن تترجم بدقة وجمال وشاعرية إلى اللغة العربية التي يعشقها رفيق شامي.
أنهيت روايتك الأخيرة التي صدرت في الخريف الماضي بعنوان "سر الخطاط الدفين" هناك سر وهو مدفون، هل تعد القارئ بالإثارة، هل تعده برواية بوليسية يبحث فيها القارئ عن حبكة تؤدي به إلى المتعة؟
} روايتي الأخيرة "الوجه المظلم للحب" كانت رواية حب تاريخية جنائية عائلية. أما رواية "سر الخطاط الدفين" فليس فيها إثارة الكشف عن القاتل. القاتل حميد فارسي يسلم نفسه بنفسه. السر يحمله هذا الخطاط الشهير والعبقري في قلبه وعقله وهو خطة تامة لتطوير الخط والأبجدية العربية وهذا السر سيقوده إلى متاهة لا يخرج منها إلا في سجن القلعة حيث يستطيع بكل هدوء أن يفهم ما الذي حصل معه ويباشر من جديد بتطوير خططه على هذا الضوء.
ولماذا السجن؟ لأسباب سياسية؟
} ظاهريا لا، إذا كنا نفهم السياسة كتلك الفعالية التي تقوم بها مجموعات منظمة للوصول إلى السلطة. فالخطاط يُسجن لأنه قتل من ظنه عشيقا لزوجته دون أن يدري أن زوجته التي فرت ليست لها أية علاقة بزير النساء هذا. أما إذا أخذنا الثقافة بمجملها وبعمقها الذي يصل إلى كل ما نقوم به يومياً (فالثقافة ليست الكتب والموسيقى والأفلام بل كل تصرف من الأكل والشرب إلى التعامل مع الآخر) فإن حميد فارسي هذا المحافظ إلى حدود الرجعية والثائر على تجمد الأبجدية إلى حدود التهور والجشع، هو نفسه الذي سيقوم بخطوة ثقافية سياسية عجزت عنها الأحزاب والمجامع الأدبية برمتها. هكذا هو الإنسان معقد التركيب إلى حدود مذهلة. الخطاط حميد سيثير حقد شريحة كاملة من أعداء أي تقدم ثقافي وسيُدفع عبر خطة أعداؤه الذكية إلى ارتكاب جريمة قتل ليلقى عذابه الأكبر في السجن. الجهة الدافعة والمعادية له ولكل ما هو ثوري هم سلفيون جدد يعملون فوق وتحت الأرض. وهم نسخة للحكام والسجون القروسطية والمجهزة بذات الوقت بالكومبيوتر والجوال.
وبنفس الوقت تحكي الرواية قصة إنسان لم ينعم بلحظة ارتواء حب لا في طفولته ولا في شبابه. أبوه قاس وأمه جنت لأنها فقدت ابنها المفضل فهمي وصارت لقمة سائغة للمشعوذين. تزوج حميد مرتين ومارس الجنس مع نساء عديدات لكنه أبداً لم ينعم بحب. عشق حتى الثمالة لفترات قصيرة لكن عشقه ظل من طرف واحد و انكفأ لينتج بعدها سادية تجاه امرأته. هذا بالذات أبعد زوجته عنه وهي التي كانت ترغب فيه في البداية فعشقت صعلوكاً يعمل كأجير عند زوجها.
إنها قصة حب أخرى إذاً، بعد "الوجه المظلم للحب"، قصص الحب المستحيلة والصعبة تجمع الروايتين، إنهما بشكل أو بآخر متشابهتان كأنك منذور لرصد ذلك الجانب، وكأنك تقرن الحب بالتحدي، إنها علاقة حب محكومة بالموت، في مجتمع غير متسامح، كأنك تريد الثأر من شيء ما، هل خضت تجربة حب كانت محكومة بالاستحالة أو بالفشل، احك لنا عن روايتك هذه؟
الحب من أكثر القوى المؤثرة على نشوء الرواية. أعتقد أيضاً أن الحب هو مبتدع اللغة. هو الذي يحرك في الإنسان رغبة جامحة للبوح للآخر بشيء. هو أول ما يسمعه الطفل من أمه الحانية عليه. الحيوان لا يحب. قد يرغب ويفرح ويصدر مجموعة متكاملة من الأصوات (لدى الحيتان والدلفين والقرود بالغة التعقيد) تفي بما يحتاج اليه وتكرر نفسها منذ الأبد دون زيادة أو نقصان. أما اللغة فشيء آخر.
أعود لسؤالك. الحب اليسير والسهل المنال لا يثير اهتمام أحد سوى الذين ينعمون به. أما الحب المعقد سواء كان في النهاية مستحيلا أم لا، فهو يمتلك قدرة كبيرة على حمل الرواية إلى نهايتها دون أن تفقد مصداقيتها. الحب هو تحد كما تقول وأكثر من ذلك. إنه أعجوبة ونحن لا نشعر بها لسبب تكرارها. الولادة أعجوبة كذلك لكنها ولتكرارها مليارات المرات تبدو كأنها بديهية. عندما شرح لي عالم اختصاصي الأخطار التي تحيط بالجنين حتى لحظة ولادته أصبت بدوار. أليس الحب أعجوبة؟ أن يلتقي غريبان وسط زحام الحياة وهما محاطان بآلاف البشر منذ ولادتهم ويحبون شخصا معينا بالذات ويألفونه ويثقون به ـ وهو الغريب ـ بعد حين أكثر من أبيهم وأمهم!
رواياتي لا تعنى بالثأر من أي شيء. أنا أعقل من أن أظن أن رواية تؤثر بقدر بعوضة على أعداء الحب. أحاول فقط لفضوليتي الوصول إلى جواب عن سؤال أطرحه في البداية. أحد أسئلتي في هذه الرواية كان حول الاغتراب الذي يحصل بين الزوج والزوجة. وصلت إلى أحد الأجوبة (هناك بالطبع إمكانيات كثيرة). الرجل يزداد هروبا متعمقا إلى حدود مذهلة في عمله غائصا مفتشا عن جذور الخط واللغة. والمرأة؟؟ نورا، بطلة هذه الرواية، تحاول بكل الوسائل أن تتحمل الملل والشلل والإحباط الذي أحاط بها وهي المرأة المتعلمة والمتقنة فن الخياطة. تصل إلى حائط في نهاية الطريق. وفجأة يظهر لها هذا الأجير الصعلوك بكل ما فيه (أبطالي بمجملهم لا علاقة لهم بعمر الشريف أو روبرت ردفورد). تعشقه، وفي تلك اللحظة يتصدع الحائط وترى عبر الشق أفقاً بعيداً.
تسألني إن خضت أنا هكذا تجربة؟ بالتأكيد مثل 95% من شباننا. إذاً، أنا أعر ف هذه الصنعة فأنا لا أكتب عن شيء لا أعرفه.
المغامرة
روايتك تبدأ بخبر هروب امرأة وتعود في الفصل الثاني لتدخل في طفولتين (طفولة المرأة الهاربة وطفولة الرجل عشيقها).هي مسلمة من أسرة مثقفة وهو صعلوك من الحي المسيحي يعمل صانعاً لدى زوجها الخطاط الشهير، كأنك تلامس مساحات محرمة في تراثنا، تقاليدنا: مسيحي ومسلمة، رجل عازب وامرأة متزوجة، رجل يخون معلمه في الخط، ما الذي تريد قوله؟
هناك أسباب وأسباب لهذا الاختيار. أغلب الخطاطين الشهيرين الذين عرفتهم في دمشق كانوا مسلمين. هناك جار لي خطاط مسيحي لكنني تعلمت لثلاث عطل صيفية الخط عند خطاط شهير صديق لوالدي رحمه الله. كان الخطاط غنيا وبخيلا وكنت أجيره الذي يقوم بكل ما قام فيه لاحقا بطل روايتي... اللهم سوى المغامرة الرائعة التي خاضها هذا الصعلوك مع زوجة الخطاط. أما تفاصيل يوميات الخطاطين فلقد عشتها عن قرب مما مكنني الآن إلى جانب الكتب أن أصف كل شيء بدقة... من جهة أخرى الصعلوك هذا يقطن في حوش للفقراء المسيحيين يقع في نهاية حي العبارة الذي أمضيت فيه 25 سنة دون أن أخطو خطوة واحدة لداخل الحوش. سألت نفسي باستمرار لماذا ؟ كان الحوش كأنه قرية من عالم آخر عصفت بها الريح فحطت في حينا بفقرها وأطفالها وكلابها الهزيلة. حاولت عند كتابة الرواية أن أصور تلك الأسباب التي تقف حائلا بيننا وبين أقرب الناس.
بالنسبة للمساحات المحرمة لا يمكن لكاتب ـ أو كاتبة ـ رواية أن يأخذها بعين الاعتبار لأنك بذلك ستبقى في ممر ضيق محاط بأسلاك الممنوعات الشائكة ومساحات المحرمات. من الأسهل السؤال في بلادنا عن المسموح فهو قليل. من هنا حسنة المنفى الفريدة من نوعها وهي تحريرك من كل هذا الأصفاد لتكتب رواية بما تحتاج اليه الرواية وهو كثير بحد ذاته. أما إذا أضفت إلى ذلك أثقال الممنوعات في منطقتنا فإن كتابة رواية ممتازة تحت هذه الظروف تقارب الأعجوبة. وأنا أدين بالكثير للديموقراطية والحرية اللتين أنعم بهما أثناء الكتابة. ما أردته من هذه الرواية هو أن تعالج من جهة أولى مشكلة الحروف العربية ومن جهة ثانية مشكلة العزلة وفقدان الارتواء بالحب (أو حتى الحرمان منه نهائياً) بأسلوب شيق لا أكثر ولا أقل.
اخترت لروايتك زمنا (ربيع 1954 حتى ربيع 1958)، ما الذي دعاك لاختيار هذا الزمن؟
أردت على عكس رواياتي السابقة هذه المرة كتابة رواية بدون سياسة. السبب الأول لهذا القرار هو إرهاق شديد حل بي عند فصول العذاب في السجون في روايتي الأخيرة "الوجه المظلم للحب" التي صدرت عام 2004 وترجمت إلى عشر لغات رغم حجمها الضخم. أردت كتابة موضوع جميل وكنت من البداية ـ لأن اللغة شغلي الدائم ـ واثقا بأن الصراع حول أبجدية متجددة فيه تعقيد كاف وسياسي بما فيه الكفاية ومن الخطأ إقحام وضع ديكتاتوري يتطلب توجها وثقلا آخر... فتشت عن الزمن المناسب ووجدته: إنها الفترة الديموقراطية الأطول في تاريخ سوريا منذ سقوط الشيشكلي في عام 1954 وحتى إعلان الوحدة في شباط 1958. في هذه الفترة تدور أحداث الرواية. وفي هذه الفترة المضطربة لم يكن هناك سجين سياسي واحد. هذا مكنني من تركيز الاهتمام كاملا على فحوى الرواية في اللغة والحب. اختيار الزمن عامل هام جدا لخلق جو مناسب لأحداث الرواية.
هل يمكن أن نتصور أنك تعيد كتابة سيرتك الذاتية في هذه الرواية، كيف يصبغ الحنين كتاباتك، وما الذي يفعله بروحك؟
هناك آراء متضاربة جدا حول كون الرواية، أي رواية، جزء من السيرة الذاتية أم لا. أنا أعتقد أن رواياتي تحتوي على أي حال على أجزاء كثيرة مني لكنها بالتأكيد ليست في شخص البطل فنفس الكاتب فسيفساء يفجرها أثناء الكتابة فتتساقط أحجارها وتدخل في عقلية ونفس أبطاله. ويختلف حجم القطعة التي ترسو في نفس بطل أو بطلة ما باختلاف الرواية. سيرتي الذاتية لا أنوي كتابتها فلقد أراحتني كاتبة ألمانية بأخذها هذا العمل الشاق على عاتقها وهي تجري معي منذ سنين مقابلات وحواراً حول الأدب والحياة وأنا أضع وثائقي تحت تصرفها. أصدرت هذه الكاتبة بمناسبة عيد ميلادي الستين سيرة ذاتية أولى وتعمل بجد لتصدر السيرة بصورة أكثر تفصيلا في المستقبل.
الحنين خطر جدا على كتابة الرواية (بعكس حسنه المنقطع النظير في الشعر) فهو يعمي بصرك عن السلبيات الموجودة في كل ما تحن إليه. ينثر لك تبراً فوق التراب ويرش عطر زهر الليمون (ماء زهر كما يسمى في دمشق) فوق رائحة المجارير وزيت قلي الفلافل. لا بالعكس عندما أكتب أتحول لطبيب جراح أحاول بكل هدوء الإحاطة بمشكلة المريض لإنقاذه، لمصور فوتوغرافي يحاول تثبيت ما تراه عيناه. والكتابة هي احدى الطرائق لإرواء الحنين وأنا أظن أيضا أنها أنجعها لمداواة مرض الحنين في المنفى لكنه دواء غريب ما ان تكتب وتنتهي حتى يزداد حنينك لأنك تستخرج من أعماق الذاكرة تفاصيل جميلة وقبيحة لم تدر قبل الكتابة مدى تأثيرها على نفسك. أحيانا أتوقف لأيام عن الكتابة لأن أمي رحمها الله التي أصفها في الرواية تحضر بكل طيبتها وحتى بكلماتها الأخيرة على الهاتف وأكاد أموت حزناً عند ذكراها، أو أنني أضحك لساعات بعد صياغة ذاكرة من طفولتي وتحسين بنيانها كتابة كطرفة فالأحداث الروائية أجمل وأكثر إيثارا من الحقيقة وهذا هو دور الفن.
أنت كما أذكر كنت تعمل خطاطا في دمشق، وعاشقك في الرواية الجديدة خطاط أيضا، ألا ترى أن هناك تشابها بينكما، كيف أثرت تجربة الخط العربي لديك في هذه الرواية وأنت تعرف أسرار الخط العربي وجمالياته، كيف انعكس كل ذلك على قصة العشق؟ هل الخط رباط وثيق كالحبل السري لم تستطع قطعه بينك وبين الوطن الأم؟
مارست فن الخط بعد تمرسي لدى الخطاط الشهير كما ذكرت لك لسنين كهاو لكني لم أصل لحد الإبداع. وعندما أرى خطك الجميل وخط الصديق عصمت أميرالاي فإني أعتبر خطي خربشة أو كما يقال في دمشق "تعد على المصلحة". عصمت أميرالاي صمم كل الخطوط العربية داخل الرواية فلقد أقنعت الناشر بأن رواية عن الخط العربي ومحبته لا يمكن حتى ولو صدرت بالألمانية أو الصينية إلا أن تحتوي على خطوط عربية تعطي القارئ حتى الذي يجهل اللغة فكرة عن الجمال الأخاذ لهذا الخط. اقتنع الناشر وأوكل عصمت بتصميم كل ما هو ضروري فخرجت الرواية كعمل فني.
التشابه بيني وبين الخطاط والصعلوك عاشق زوجته (رغم الفوارق الأخرى الكبيرة إلى حدود التضاد بيني وبين هذين الشخصين) هو محبة الخط العربي والإدراك العميق لأثر الخط على النفس كما إدراك مواطن ضعف الخط واللغة العربية التي على عكس وهم السلفيين ليست مقدسة ومن صنع الله فهذا غرور وعنصرية تشبه إلى حد بعيد هلوسة أن شعباً ما هو شعب الله المختار . اللغة العربية هي كبقية لغات العالم من صنع البشر وهي لذلك غير تامة تطورت باستمرار ومحكومة بالتطور وإلا لماتت. وليست الرواية سوى أحد تعابير الحب للخط.
من جهة ثانية كتابة الرواية هذه والبحث والتمحيص في كل نواحي اللغة والخط سمحت لي بالاقتراب لأول مرة في حياتي إلى هذا الحد من جذور الخط واللغة. دهشت جداً ولم أصدق بعض الأحيان ما وجدته (مثلا دور السفاح الدموي الحجاج بن يوسف الثقفي في تطوير الحروف العربية) وهذا أجبرني المرة تلو الأخرى على أن أتمهل في إصدار أحكامي وصياغة أفكار أبطالي عن الخط العربي.
اللغة لهما علاقة بصوت الأم وكل ما له علاقة بالأم يحتل مكانا كبيرا في قلبي. والأبجدية العربية، حفيدة الآرامية التاريخية، هي أبجدية صوتية على عكس كل ما سبقها من إشارات وصور (مثلا الهيروغليفية) وهنا يكمن سر الاختراع الفذ للفينيقيين. الأبجدية هذه تستطيع بعدد قليل من الحروف أن تصور عالما واقعيا وخياليا تستطيع التعبير على عكس الصور عن أكثر الأفكار النظرية والحالات النفسية وعقدها تعقيدا التي لا يمكن لصورة أن تعبر عنها ببساطة.
ثم يأتيك أحدهم متجاهلا التاريخ ومحتقرا شعوب الأرض برمتها ليحاضر عليك بأن اللغة العربية فريدة وإلهية إلى ما هنالك من خزعبلات.
ما الحل إذاً؟ وإلى أين يقود هذا الاعتقاد بألوهية اللغة؟
إلى مطبات كبيرة. لغتنا العربية توقفت منذ أكثر من ألف سنة عن التطور. بعضهم يفتخر بـ200 مرادف لكلمة لحية و50 أو 100 للنبيذ ومئات المرادفات لكلمة جمل. لكن ماذا عن الأوكسجين والهيدروجين وماذا عن التلفزيون والكومبيوتر؟ يقدر العلماء اللغويون الألمان أن عدد مصطلحات الفيزياء يبلغ 60000، الكيمياء 100000 ، الطب حوالى 200000، علم النبات 350000 وفي علم الحيوان مليون مصطلح واسم علمي. هذه كلها تحتاج لترجمة منظمة لنلحق بركاب العلم. ونحن اليوم مجبرون أكثر من أي يوم مضى إن كنا ننوي بناء مجتمع حر ديمقراط على الرد على كل اقتراحات أسباب التأخر وعلاجها وللأسف لا يرد على هكذا وصفات استعمارية سوى إسلاميين بشكل كاريكاتوري عنصري.
لنأخذ مثالا آخر: أكثر من ألف سنة مضت وأبجديتنا تحتوي على حرف لا (ولا تزال كتب كثيرة في الخط واللغة تعتمد حتى هذه اللحظة هذه الأبجدية وحتى مواقع إنترنت) وأنا من الجيل الذي تعلم أبجدية بـ29 حرفاً ولا تزال هذه الأبجدية تعلم في كثير من البلدان العربية مع العلم الأكيد أن لا ليست حرفا بل كلمة (ما يسمى أداة نفي) من الحرفين الألف واللام الواردين سلفا في الأبجدية. ألا يدهشك هذا الجيش الجرار الذي كان يشهر سكاكين النقد العديمة الرحمة ضد من تسول له نفسه أو تزل قدمه فيكتب مفعولا به بدلا من فاعل ويصمت دهرا عن هكذا خلل في صلب اللغة . أليس غريبا عجيباً أن نتشاجر حول قافية ليست على ما يرام أو بحرا شعريا غرق شاعر فيه، وننام دهرا على أبجدية خاطئة. رحم الله أبا ذر الغفاري الذي نبه النبي العربي بدون وجل أن حروف الأبجدية 28 وليست 29 لكن النبي العربي كما تقول الروايات أصر على أن الأحرف العربية عددها 29.
الأبجدية العربية جميلة كما هي بأحرفها ولا حاجة لمس القرآن أو إقناع مليار إنسان بأبجدية جديدة. الضروري والممكن ببساطة هما إضافة أربعة إلى خمسة أحرف لتصبح لغتنا قادرة على لفظ أغلب أصوات الأرض. وبالتالي يمكننا كتابة كل الكتب من اليمين إلى الشمال ودون أي حاجة لأحرف لاتينية. وبالتالي يمكننا نقل أي علم أو فلسفة إلى لغتنا دون تشويش. هذه هي الخطوة الأولى التي عليها أن تسبق الخطوة الثانية بترجمة كل كتب العلم والفلسفة كما فعل العرب عندما نهضوا ليلحقوا بآخر التطورات وليساهموا مع الإنسانية فنا وعلما وفلسفة.
ليس من الضروري تقليد حروف الإيرانيين. بل إنه من المهم أن يقوم خطاطون عرب بابتكار صورة واضحة لهذه الأحرف الجديدة. وليس على من يحرص على الدين أن يخشى الضرر. هذه الإضافة قامت بها شعوب مسلمة غير عربية ولم تصبح أقل أو أكثر تدينا من المسلمين العرب.
بالمناسبة لا ينقص العرب المال للقيام بهذه الخطوة فدخل يوم واحد من البترول يكفي لتطوير الأبجدية وترجمة كافة المصطلحات العالمية وأهم الكتب من كل لغات العالم. ما ينقصنا هو الحرية والديموقراطية.
خطاط صيني قال ذات يوم: عندما تكون الفكرة بنهاية الفرشاة، فلا داعي للذهاب إلى نهاية الفكرة، لكن عاشقك ذهب إليها، وهو يعرف استحالتها، وكتب رسائل عشق؟
صحيح، لأن العاشق لا يملك حكمة الصيني فقلب العاشق دليله, أظن أن لحظة العشق تصيغ شخصية الإنسان من جديد ليس دائما للأفضل لكنها قد تقلب شخصيته رأسا على عقب وهذا ما يدهش إن لم نقل يرعب محيطه الذي ما تعودوه بهذه الشخصية أو التصرف. أنا لا أعتقد أن العاشق يمضي وقتا طويلا كالمهندس أو العالم الاستراتيجي ليفكر بعقلانية إمكانية أو استحالة هدفه. هناك أبحاث شيقة جدا عن العشق واللغة من ابن حزم "طوق الحمامة" وحتى الكاتبة التونسية الجريئة والذكية رجاء بن سلامة وكتابها "لعشق والكتابة" كما وكتيب صادق جلال العظم "في الحب والحب العذري".
من الضروري الذهاب للمحبرة باستمرار للاستزادة من الحبر والاستفادة لأخذ النفس أيضا. فكما قال القدماء ان الخطاط يحبس نفسه عند خط كل حركة . وحبس النفس هو ضرورة لإعطاء الحرية للحركة... ولمنح الحياة والقوة لها. وعند حبس النفس لا يتزود الجسم وخصوصا الدماغ بالأوكسجين . لذلك أن التوقف باستمرار والعودة للمحبرة يصبحان أيضا ً ضرورة للتزود بالأوكسجين، أو أن الأمر أعمق من العملية الفيزيولوجية؟
التخطيط عملية تقترب من الطقس. بعض الخطاطين يمزج عطراً خاصاً (ماء ورد أو زهر) مع الحبر لأنه يبلغ عبر هذا العبير الخاص قمة الإبداع. كان معلمي مثلا يصلي ركعتين قبل مباشرته بتخطيط لوحة هامة. تنظيم النفس الذي تذكره له وقع موسيقي بين حجب وانفراج كحركة الأكورديون. خذ مسألة الحبر مثلاً. كان هناك خطاطون لا يكتبون إلا بالحبر الأسود بينما تنزع الخطاطات للألوان. خطاط الرواية العبقري مثلا لا يباشر بالتخطيط إلا بعد أن يعتني بجسمه وهندامه كأنه ذاهب لملاقاة حبيبة وكانت ورشته أنظف من صيدلية. وكان يعالج يديه يومياً لتصل أصابعه مرنة ويكون جلده ناعما يحلق فوق الورق كالفراشة.
كيف كان عاشقك يتزود بالأوكسجين؟ بالعشق، وبالنظر إلى عشيقته؟ إذاً كان عاشقك خطاطا رديئا؟
كن رحيماً شيئاً ما مع العشاق يا صاحبي. الصعلوك عشيق نورا يصبح في نهاية الرواية خطاطاً عادياً جدا. ويعيش في مدينة ثانية مع حبيبته بأوراق مزورة وهناك في الحي المسيحي من تلك المدينة يخسر شيئاً فشيئاً اسمه المميز ويصبح "زوج الخياطة" إذ ان نورا تأسر ألباب الجيرة بذكائها ودماثة أخلاقها، وبراعتها كخياطة.
صممت دفترا جميلا حول الخط العربي طبعته دار النشر بطبعة 100 ألف ووزعته كدعاية على بائعي وتجار الكتب، هل هذا بمثابة تحريض القارئ على شراء الرواية. ما الذي تريده من هذه الوسيلة الجديدة التي ستكون مرفقة مع الرواية، أليس هذا تشتيتا للقارئ عن الرواية، كأنك تريد الاستيلاء عليه جماليا أولا، ومن ثم حين يقرأ روايتك يكون قد وقع بالفعل تحت سحر وجمال الخط العربي، هل هي وسيلة لمساعدة القارئ على تتبع قصة عشق الحرف والأنثى معا؟
الدعاية أمر لا بد منه إن أردت إيصال ما تنتج لقرائك. في بلد كألمانيا يصدر فيها سنويا 80,000 كتاب جديد وتعرض أي مكتبة أو بائع للكتب حوالي 300000 كتاب. هذه هي الشروط التي يعمل كل كاتب تحتها بإيجابيتها (محبة الشعب الألماني للكتاب) وسلبيتها (غمر السوق بمئات آلاف الكتب).
على دار النشر إذاً أن تفكر بأسلوب يبرز الكتاب وسط الزحام. هناك آلاف الطرق وليست صفحات الدعاية في المجلات التي كانت في الماضي فعالة جدا اليوم بذات شأن. فكم تتوقف أنت كقارئ أمام صفحات الدعاية حتى في مجلات محترمة؟ أنا أقلبها حتى دون أن أرى محتواها. دور النشر تتكرم بحنكة متى رصدت إمكانية أن يتبوأ الكتاب مكاناً جيدا في قائمة أفضل الكتب أو أكثرها انتشارا. فنجاحها بكتاب واحد يؤثر إيجابيا على كل برنامجها.. أحيانا يرسلون هدايا للعاملين أو زينة للواجهات أو يدعون أصحاب المكتبات لحفل عشاء ساهر... الخ.
دار النشر التي أصدرت روايتي عندها قررت أن تصدر بكرم وحنكة في آن واحد إلى جانب الرواية كتيباً صغيراً بحوالى 50 صفحة بالغ الأناقة يوزع بطبعة 100,000 مجانا على دور بيع الكتب والمكتبات والصحف ويحتوي الكتيب ثلاث مقالات أبحاث لي حول الخط العربي، أولاها عن دور العبقري الخالد ابن مقلة ( الذي أعتبره بعد تفكير طويل ليوناردو دافنشي العرب) والذي قال عنه أبو حيان التوحيدي: "إنه نبي الخط، أٌفرغ الخط في يده كما أٌوحي للنحل في تسديس بيوته".
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف