قراءة في طروحات محمد أركون
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كتب أحمد تموز - إيلاف:محمد أركون يدعو إلى حوار بين الثقافات، على سعة أفق وشمولية وتنوُّر. يتمثَّل مشروعُه الفكري الرصين في إنتاج ثقافة الأسئلة، بمنأى عن كافة المسلَّمات الجاهزة، وصولاً إلى المسكوت عنه واللامفكَّر فيه في الثقافة العربية الإسلامية. ويحرص أركون على كشف المعوقات الذهنية والعراقيل التاريخية والاجتماعية التي تعوق التقدم وتعرقله. يقضُّه سؤال العقل الإسلامي، في شرطيه المعرفي والتاريخي، وكيفية تجاوز الواقع الراهن لدخول معمعان الحداثة.
يطرح محمد أركون على الثقافة العربية مهمة مقاومة النسيان والتغييب وإعادة بناء الذاكرة، كي يستقيم الموقف ويبطل الخلل، مشدِّدًا على علم الاجتماع التاريخي والأطُر الاجتماعية للمعرفة، محلِّلاً، في أسلوب نقدي، ما يحصل لنا تاريخيًّا، متقصِّيًّا التحديات التاريخية والفكرية والعلمية التي تجابهنا. والحافز الأكبر لدى أركون هو كسر الأغلال عبر المناهج التربوية الحديثة وأدوات المعرفة الدلالية والأنثروبولوجية بغية الوصول إلى الحرية.
وفي قراءته النصوص التاريخية الدينية يرفض أركون الأساليب التقليدية، معتمدًا منهجية العلوم الاجتماعية. وينطوي فكرُه، الحديث بحق، على منهجية دقيقة، تقيم المعيار والتمييز وتبدع المفهوم الجديد.
***
ففي القرآن، على سبيل المثال، نقرأ لفظ الجلالة "الله" 1697 مرة، ما عدا صفاته، بينما نجد كلمة "إسلام" ترد 6 مرات وحسب، بما يعكس تباينًا كبيرًا في النسبة. لماذا؟ يجيب أركون بأن القرآن خطاب ديني روحي، تأسيس لخطاب قِيَمي ("الدين القيِّم"). في القرآن يعرِّف الله بنفسه إلى البشر عبر كلامه. أما الإسلام، كما يرى، فهو شأن البشر الذين يتدبَّرون النص القرآني تفسيرًا وتأويلاً. من هنا فإن المسلمين، إذ يحاولون أن يفهموا تجلِّي الكلام الإلهي في تاريخهم البشري، يقدِّمون وجوهًا مختلفة للإسلام تتباين بتبايُن التاريخ والثقافات واللغات والظروف السياسية. المشكلة، إذن، هي أن الخطاب الإسلامي المعاصر يتكلَّم على الإسلام، لكنه قلما يذكر الله وصفاته - وهذه قطيعة معرفية.
كلام الله هو الخطاب الإلهي الوارد في القرآن، كما في التوراة والإنجيل. وهو غير الدين الذي هو، في صورة عامة، تجلٍّ في التاريخ البشري لما يفهمه البشر من النصِّ الديني التأسيسي وما يريدون أن يفرضوه على التاريخ؛ أي أنه، عمومًا، شأن يتعلق بتفسير البشر وتأويلهم للنصِّ الديني.
هنا تصير مسألة الفكر مسألة محورية، يؤكد أركون. والتفكير هو عملية تحليل عقلي وبحث دينامي، باتت اليوم غير قادرة على الاستغناء عن التأهيل والبحث العلميين بالمعنى الحديث للكلمة. دراسة الفكر الديني باتت تتطلب اليوم، بالضرورة، إلمامًا جيدًا باللغات التي جاء فيها الوحي، على اختلاف مراحله؛ باتت تتطلب تحصيلاً علميًّا لكلٍّ من اللغة العبرية، لغة النصِّ التوراتي الذي بين أيدينا، والآرامية، اللغة التي تكلَّم بها يسوع المسيح، بالإضافة إلى اليونانية، التي وُضِعَ بها العهد الجديد، ناهيكم عن العربية التي هي لغة الوحي المحمدي.
كذلك تتطلب دراسة الدين إلمامًا باللغات الأوروبية الحية، لا يمكن بدونها للمسلمين أن يشاركوا في إنتاج المعرفة، في صناعة تاريخنا البشري المشترك - ولاسيما أنهم اليوم خاضعون لقوى سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية هائلة، ناهيكم عن قوى العولمة ومتطلَّباتها. من هنا ينبغي اليوم على كلِّ فرد، وعلى كلِّ مسلم بالأخص، أن يتقن لغتين أجنبيتين في الحدِّ الأدنى، من أجل التأسيس لبرنامج بحث يمكن من خلاله صياغة طريقة جديدة لدراسة الإسلام اليوم. لكنَّ مَن يلقي نظرة على تدريس اللغات الغربية الحية في العالم العربي يجده في حالة إهمال يُرثى لها. ويرى أركون أن اللغة الفرنسية، مثلاً، لغة لا غنى عنها لأيِّ باحث في الفكر الإسلامي؛ وكذلك الإنكليزية والألمانية إلخ. لكن السؤال المطروح هو: ماذا نفيد من إجادة كلِّ هذه اللغات؟
في دراسة الفكر الإسلامي، يجيب أركون، لا بدَّ اليوم من الانطلاق من دراسة اليهودية وكتب العهد القديم دراسة معمَّقة، بما هي جزء لا يتجزأ من تاريخ الفكر الإسلامي. فلكي نفهم سيرورة تشكُّل الفكر الإسلامي تاريخيًّا، لا بدَّ من التعريج على كلٍّ من اليهودية، تاريخًا وشرائع (هالاخاه)، والمسيحية، تاريخًا ولاهوتًا. إن من شأن إدراج دراسة تاريخية مقارنة بين أديان الوحي أن يفتح أفقًا واسعًا لفهم أفضل للجذور التاريخية للوحي القرآني. ففي القرآن إشارات كثيرة إلى بني إسرائيل والتوراة وعيسى بن مريم والإنجيل، بما يشكِّل شهادته على العلاقات مع أهل الكتاب، التي تكوِّن أصول الوحي القرآني، المرتبط ارتباطًا وثيقًا بأنبياء التوراة.
وقد ذهب أركون إلى أبعد من ذلك، فربط طرحَه بالتكوين البنيوي للمجتمعات المعاصرة. فهذه المجتمعات باتت اليوم مجتمعات تعددية، تتعايش فيها الأديان في فضاء اجتماعي واحد. وعلَّة هذا الربط أن له سابقة تاريخية في فترة ازدهار الإسلام بين القرنين السابع والثالث عشر. فبغداد، عاصمة الدولة العباسية، كانت مدينة كوسموبوليتية، متعددة الثقافات، بكلِّ معنى الكلمة؛ وكذلك البصرة التي كانت منفتحة على المحيط الهندي، بوابة العالم الإسلامي على الهند والصين وإندونيسيا. أي أن الإسلام آنذاك كان مفتوحًا على الثقافات والأديان الأخرى؛ الأمر الذي ينساه - أو يتناساه - مسلمو اليوم. لقد حرص المفكِّرون المسلمون آنذاك على الاطلاع على الأديان والمذاهب الأخرى، تشهد على ذلك كتبٌ من نحو الملل والنحل للشهرستاني والفِرَق للبغدادي والفصل في الملل والنحل لابن حزم؛ أي أن المفكرين المسلمين في العصر الوسيط كانوا روادًا في دراسة تاريخ الأديان.
ويأسف أركون لأن مسلمي اليوم يجهلون كلَّ شيء عن اليهودية، ربما، جزئيًّا، بسبب ارتباط بني إسرائيل بوجود دولة إسرائيل اليوم، الأمر الذي سبَّب تشويهًا معرفيًّا. فعلى المرء اليوم أن يتحلَّى بوضوح الرؤية والشجاعة للقيام بالفصل الضروري بين الديني والسياسي لئلا يتخلَّى عن عناصر كفيلة بإغناء معرفته بالإسلام.
الدول الأوروبية، من ناحيتها، تواجه اليوم الأديان كافة: فرنسا، مثلاً، فيها مواطنون بوذيون وهندوس وسيخ وعلمانيون ولاأدريون وملحدون (باعتبار الإلحاد موقفًا معرفيًّا يحق للبشر أن يختاروه طوعًا). والعلمانية تطرح مشكلة على الدين، بما هي تتيح للجميع الحريةَ الدينية التي توفِّرها دولةُ القانون للجميع والحقَّ بأن يختار كلٌّ انتماءه إلى هذا الدين أو ذاك، إيمانه أو عدم إيمانه بدين نقلي. فلا يجوز اليوم لأيٍّ كان أن ينغلق على نفسه ويتحصن وراء موروثه الديني، درءًا عن نفسه لهذه المؤثرات؛ كما لا يجوز أن نرى في الانفتاح على الأديان الأخرى تهديدًا للهوية، لأننا بذلك نكرِّس تخلفنا الثقافي عن العالم المعاصر، ذلك التخلف المتمثِّل في ضعف البحث العلمي في علوم الإنسان والمجتمع - هذه العلوم التي تساعد قطعًا، بحسب أركون، على فتح الفكر الإسلامي على كافة المسائل المطروحة. ويلحظ أركون، آسفًا، أن كلَّ منادٍ بانفتاح كهذا سرعان ما يُرمى بالزندقة والمروق.
لا ريب في أن حضور الإسلام في الغرب أوجد وضعًا جديدًا فيه تحدٍّ خلاق للفكر الغربي، جعله ينتهج تطوير البحث العلمي في الأديان وإدراج تدريس الأديان في الثانويات بناءً على طلب الجاليات المسلمة. وهذا ما جعل وزارات التربية والمؤسَّسات التربوية تعيد النظر في الأسُس التي كان يتم عليها التطرُّق إلى الأديان في المقرَّرات المدرسية. طلاب الثانوي باتوا يدرسون الكاثوليكية والبروتستانتية واليهودية، بالإضافة إلى الإسلام. هذا هو جواب الأوروبيين على التحدي: جواب جديد، خلاق، جعلهم يحاربون الجهل بالمعرفة، حتى بات هناك قسم للكتب المعرِّفة بالأديان في كلِّ مكتبة مدرسية. أعادوا النظر في الأجهزة العلمية المتوفرة لديهم كمفاهيم فكرية، بالإضافة إلى تطوير مناهج البحث العلمي والمكتبات وتأهيل الباحثين، من أجل صياغة جديدة لصنع المفاهيم الإنسانية.
ويؤكد أركون أن من الإنجازات العظيمة للفكر الغربي تطويرَه "آلات" الفكر والتفكير التي تدعى "المفاهيم" concepts. فالمفاهيم للفكر بمثابة مباضع الجرَّاح وآلاته المرهفة التي يُجري بها عمليات دقيقة على أجسامنا. آلات الجرَّاح تعمل على الأجسام، بينما المفاهيم تعمل على العقول.
غير أن هذه الآلات أو الأدوات تعوزنا إلى حدِّ المأساة في الفكر الإسلامي اليوم، يقرُّ أركون، بما يجعلنا نقوم بعمليات على أدمغتنا تفضي إلى عواقب كارثية: العنف الناجم عن عدم فهم مقاصد الدين - العنف باسم الدين عمومًا، وليس باسم الإسلام وحسب. وهذا يبرهن أن البحث العلمي لم يتقدَّم بما يكفي للسيطرة على الموقف عبر سياسة تربوية ناضجة. فإجادة استعمالنا لأدواتنا الثقافية، كما يرى أركون، هي التي تُرهِفُ أداءنا الثقافي، بما يحول دون الشطط الإيديولوجي في الأديان المفضي إلى العنف.
غير أن العنف الإرهابي ليس عاقبة الدين وحسب، بل هو عاقبة الحداثة أيضًا. وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى بطلان فكرة أن العنف هو ظاهرة أصولية إسلامية وحسب؛ فقد خاضت أوروبا "العلمانية" أيضًا حربين عالميتين مروِّعتين. العنف قد ينجم عن ممارسة للدين عاجزة عن السيطرة على أدائها في المجتمع، وتفتقر إلى مفاهيم خلاقة. وهذا، بحسب أركون، ينطبق على الحداثة بقدر ما ينطبق على الدين. لكن طموح أركون الفكري هو أن يدلي تاريخُ الفكر الإسلامي بدلوه في مشكلة العنف، فيجد عليها إجابات جديدة خلاقة؛ إذ إنه مشروع يتعلق بالجذور العقلية للمعرفة، بشقَّيها الديني والمُعَلْمَن (أو الحداثي).
الفكر الإسلامي، والعربي إجمالاً، تنقصه اليوم الآلات أو الأدوات العقلية، وهو يفتقر إلى طريقة فعالة لبناء المفاهيم. فالمدرِّس العربي - الذي لا يكلِّم نفسه، بل يخاطب جمهورًا - يحتاج اليوم لتبيان مقاصده إلى ثلاثة أضعاف الوقت الذي يحتاج إليه المدرِّس بالفرنسية. لماذا؟ ليس لأن العربية لغة عاجزة عن بناء المفاهيم، يجيب أركون، بل لوجود تقصير في الجهد المبذول في صياغة مفاهيم عملانية opeacute;rationnels. وقد جاء أركون بمثالين على هذه المشكلة.
المثال الأول يحيل إلى الصعوبة البالغة في ترجمة مفهوم le Sacreacute;, the Sacred, das Heilige إلى العربية. أغلب المترجمين العرب يترجمونه بـ"المقدَّس" أو "القدسي"، الذي لا يحيل إلى "الحرام" (وهي الترجمة الأصح)، بل إلى "القداسة" la Sainteteacute;, Sanctity وإلى "التقديس" Sacralisation. لم يتساءل المفكِّرون العرب عن الدلالة العميقة للمصطلح، لأنهم جاهلون بالسياق التاريخي الذي نشأ فيه المفهوم في اللغات الأوروبية. لكن اللغات الأوروبية نَمَتْ في حاضنتين اثنتين وغرفتا من معينهما: الإغريقية واللاتينية، اللتين سكَّتا لها مفاهيمها وأدواتها العقلية والعلمية.
المفهوم الأساس للفكر وللنشاط الخطابي النقدي في الغرب هو مفهوم "اللوغوس" Logos الذي نجده في أواخر المصطلحات الدالة على الكثير من العلوم، مثل Seacute;miologie (علم العلامات)، Eacute;cologie (علم البيئة)، Embryologie (علم الجنين)، إلخ. مدار مؤلَّفات أرسطو جميعًا هو اللوغوس؛ والفكر العربي، هو الآخر، عاش عالة على اللوغوس، حتى موت ابن رشد في العام 1198. فماذا جرى للُّوغوس في الفكر الإسلامي؟ ابتداءً من القرنين الثامن والتاسع، احتدم الصراع بين الفقهاء والمتكلِّمين، باعتبارهم أصحاب العلوم الدينية (التي كان يرى المتحزِّبون لها بأن العلم بأكمله محفوظ في كتاب الله وأحاديث نبيِّه)، وبين الفلاسفة، أصحاب العلوم النقدية.
اللوغوس دخل إلى الفكر الإسلامي عن طريق المسيحيين السريان الذين ترجموا مؤلَّفات أرسطو وغيره من فلاسفة الإغريق إلى السريانية (لغة الشام والعراق قبل الإسلام)، ثم ترجموها من السريانية إلى العربية. ومن خلال هذه الترجمة كان لا بدَّ من تطوير "مَفْهَمَة" conceptualisation للظاهرة الدينية. لقد فصل النظر الفلسفي بين "المقدَّس" و"الحرام"، بما أبرز الفارق بينهما في الفكر الغربي لاحقًا.
ومع انحسار الفكر الأوروبي في العصر الوسيط، استمرت الفلسفة العربية تتطور وتطوِّر أدواتها المفاهيمية بقواها الذاتية الخاصة، بالافتراق عن التيار الغربي الذي ظلَّ يقتات على اللوغوس فيما بعد. لماذا؟ يجيب أركون بأن العرب لم يترجموا عن اللاتينية، مثلاً؛ عرفوا الفكر الإغريقي عبر ترجمات، لكنهم لم يعرفوه في مظانِّه الأصلية، مكتفين بالترجمة ومتفلسفين بالعربية. الإغريقية واللاتينية لغتان متوسطيتان، كالعربية؛ لكن هذه الأخيرة لم تتبع الطريق نفسها. وهذا، برأي أركون، أحد التعليلات الأساسية للقطيعة المفاهيمية والدلالية العربية عن الفكر الغربي الذي تواصل في أوروبا باللغات الأصلية نفسها التي نشأ فيها.
والأخطر من ذلك، كما يرى أركون، هو إفشال المشروع الفلسفي العربي الذي لم يعمِّر طويلاً. كان ابن رشد فيلسوفًا عظيمًا، شارحًا كبيرًا لأرسطو، ومدافعًا عن اللوغوس. فماذا حدث له؟ رماه الفقهاء بالزندقة، بوصفه يشتغل بعلوم "دخيلة"، ويقتحم مجالات لا يحق له الدخول فيها. وهكذا، ببساطة، نُبِذَتْ الفلسفة بعد وفاته من سياق الفكر الإسلامي، وحُرِّمَ الاشتغالُ بها، وأُحْرِقَ الكثير من كتبها ومعاجمها ومُنِع. والمؤسف اليوم أن مؤرِّخي العربية والفكر العربي، في المدن العربية جميعًا، وحتى في المغرب، قلما يتطرقون إلى هذه المأساة ويحاولون تقصِّي عواقبها على الفكر الإسلامي. في العام 1938، قال طه حسين - ذلك المدافع الكبير عن الثقافة - في كتابه مستقبل الثقافة في مصر، ما يقوله أركون اليوم. والواقع المؤلم هو أن وضع اللغة العربية، لجهة الاغتناء المفاهيمي، هو اليوم أسوأ مما كان عليه قبل حوالى 60 سنة، يوم وضع طه حسين كتابه، وذلك لأسباب سياسية وتربوية. والذنب في ذلك، بحسب أركون، ليس ذنب العربية، بل ذنب العرب المتكلِّمين بها وذنب سياساتهم اللغوية المتَّبَعة.
ونصح أركون للباحثين الشباب أن يخصِّصوا رسائل علمية لبحث اجتماعية إخفاق ابن رشد في العالم العربي-الإسلامي واجتماعية قبوله في الوسط الأوروبي. بعد ترجمة ابن رشد إلى اللاتينية صار الفيلسوفُ الكبير ناقلَ اللاهوت الإغريقي إلى أوروبا، وتتلمذ عليه توما الأكويني وغيره من اللاهوتيين الأوروبيين، ودُرِّس في كبريات الجامعات الأوروبية حتى القرن السادس عشر. لكن حتى ابن خلدون لا يجيء على ذكره في المقدمة الشهيرة، على غزارة الكتب الفلسفية في مكتبته قطعًا. وبعد وفاة ابن خلدون في العام 1406، باءت مغامرتُه الاجتماعية الأولى بالفشل هي الأخرى. كذلك هنا، نصح أركون للباحثين بتخصيص أبحاث لمعرفة اجتماعية أسباب إخفاق الفكر الخلدوني في العالم الإسلامي واجتماعية أسباب نجاحه المنقطع النظير عندما اكتشف الأوروبيون المقدمة مترجمةً، فطوَّروا، انطلاقًا من "علم العمران"، علم الاجتماع المعاصر وفلسفة التاريخ. وهذا جزء من تاريخ الفكر الإسلامي لا بدَّ من الوقوف عنده لتقصِّي أسباب الفشل.
فهذا الفشل يجب أن نكفَّ عن التذرع بالاستعمار لتسويغه؛ إذ هو إخفاق تكمن أسبابُه في دواخلنا. نحتاج اليوم، بحسب أركون، إلى نقد ذاتي عميق للكشف عن مكامن الضعف في بنياننا العقلي والفقر في أدواتنا المفاهيمية، بما يجعلنا بهذه الهشاشة حيال الفكر العالمي.
ثم توقف أركون، لكي يورد مثاله الثاني، عند مصطلحي "ميثوس" Mythos و"لوغوس" Logos. الميثوس هو خصوصية الفكر الأفلاطوني؛ فأفلاطون العظيم علَّم الفلسفة من خلال القصص، وبنية فلسفته بنية قصصية. وفي القرآن، سورة يوسف، على سبيل المثال، عبارة عن سرد قصصي؛ وقد جاء في الكتاب: "إنَّا نقصُّ عليك أحسن القصص". والقصص مكوِّن أساسي من مكوِّنات الدين، بما هو يتأسَّس على خطاب سردي. اللوغوس يمثِّل العقل: فكلُّ ما يأتي من فكر خطابي، استنباطي، نقدي، مستقى من اللوغوس؛ بينما يمثِّل الميثوس حاضن المضمون الفلسفي الروحي، مستعمِلاً بالقصة الأبعادَ السردية والأدبية والجمالية للُّغة. والفلسفة استندت إلى كليهما.
أغلب المفكِّرين العرب ترجموا كلمة "ميثوس" بـ"أسطورة" (وهي كلمة سلبية الدلالة في القرآن، الذي اتهمه مناوئوه بأنه "أساطير الأولين")، وليس بـ"قصة". وفي هذا برهان، كما يرى أركون، على أن المعجم العربي المعاصر مبتسَر، فقير، عاجز عن الاستفادة من الكمون العقلي في هذه المفردة، عاجز عن استنباط أساس للتفكُّر في القصة واستعمالها كآلة عقلية لا تنفصل عن اللوغوس. الميثوس، كهالة فكرية، لا ينتصر على اللوغوس منذ أفلاطون. وهذه الديالكتيكا، هذه الجدلية المستمرة بين الميثوس واللوغوس، هي التي تنتج الإبداع الثقافي. وهذان المفهومان الأساسان - الميثوس واللوغوس - مشتركان بين الشعوب والثقافات جمعاء؛ إذ هما جذرا الفكر الإنساني قاطبة.
وقد روى أركون، للطرافة، مشادة وقعت بينه وبين الشيخ محمد الغزالي في أثناء انعقاد دورة من دورات "ندوة الفكر الإسلامي" (1969-1991)، التي صارت في الجزائر مؤسَّسة رسمية. إذ كان الشيخ قد قرأ في أحد كتب أركون، بترجمة د. عادل العوا، عبارة استقطعها من سياقها، ومفادها أن "القرآن خطاب أسطوري البنية"، فرماه بالكفر لأنه يعتبر القرآن من قبيل الأساطير! فكان لا بدَّ، تبديدًا لسوء الفهم، من إيراد الترجمة الصحيحة للعبارة: "بنية الخطاب القرآني بنية قصصية" وملابساتها.
مثل هذه الالتباسات ناجمة، بحسب أركون، عن فقر مفاهيمي مدقع في الفكر الإسلامي المعاصر، يفضي إلى تحجُّر فكري وتطوير قراءة إيديولوجية للقرآن، هي أصل كلِّ المآسي التي نعاني منها. وهذا الفقر لا يمكن تداركُه إلا بالانفتاح على اللغات الأخرى. وهنا عاد أركون إلى التشديد على أهمية تعلُّم اللغات الغربية وغير الغربية، ساردًا رحلته الشخصية من لغته الأمازيغية الأم، إلى العربية، فالفرنسية، والإنكليزية - علمًا بأنه يحسد بعض زملائه الغربيين على إجادته سبع أو ثماني لغات!
ثم يعرج أركون على تحليل سريع لرسم بياني يوضح فيه، من خلال ثمانية عوامل أساسية، متقابلة مثنى مثنى، الآلية الاجتماعية والأنثروبولوجية المؤدية إلى تفكُّك المجتمعات النقلية في الدول الحديثة الاستقلال (1950-1960)، وذلك على ثلاث مراحل:
1. اجتثاث الجذور في المجتمعات القبلية والريفية والجبلية بعيد انتقالها إلى المدن.
2. صعود ثقافة شعبوية populiste يعزِّزها الانفجار الديموغرافي.
3. نشوء أغلبية منزوعة الذاكرة التاريخية، بما يحول بينها وبين الاندماج السوي في مجتمعاتها.
وهذا كلُّه يؤدي إلى ظهور الكَرَب والاغتراب، ولا سيما بين الشباب، كبيئة خصبة تترعرع فيها الأصولية.
*
ثم أجاب أركون على أسئلة الحضور - وأحدها عن دوره في إيجاد "لاهوت إسلامي" جديد. وقد لفت أركون النظر في إجابته إلى افتقار اللغة العربية إلى مصطلح مقابل لـTheacute;ologie الذي نحته فلاسفة الإغريق، واعتبره مثالاً آخر على اللبس المفاهيمي. ففي الإسلام يوجد "علم الكلام" فقط، بينما يصعب نحت مصطلح عربي يحتوي، في آنٍ معًا، على كلمتي "لوغوس" و"إله". كذلك الأمر فيما يتعلق بمحترِف هذا العلم theacute;ologien الذي لا يؤدي معناه مصطلحُ "متكلِّم" العربي. وقد أوضح أركون أن طموحه ليس أن يعد بصياغة "لاهوت" إسلامي جديد، بل أن يبحث في شروط بناء علم كلام إسلامي جديد قادر على التصدِّي لمشكلات العصر.
وهنا أشار إلى دور "العلماء" السلبي في فتاواهم العقيمة التي تسمِّم حياة المسلمين. فكلُّ فتوى يُفترَض أن تتأسَّس على علم كلام متماسك؛ لكن ما يحدث، في الغالب الأعم، ألا يكون للإفتاء أساس كلامي. ومع ذلك، يقبل المسلمون تلك الفتاوى ويسلِّمون بها، بما حوَّل الإسلام إلى دين شعائري خاوٍ، خلو من الجهد الكلامي العميق الذي يضفي المعنى الروحي على الشعائر.
وضرب أركون على ذلك مشكلة الحجاب. فالحجاب هو "إشارة" signe، تفعل سلبًا أو إيجابًا، بحسب الاتجاه الذي تتخذه. فالفاعلون الاجتماعيون يرسلون إشارة إلى المجتمع إعلانًا لانتمائهم، والمجتمع يستجيب لها. ومن هنا الأهمية القصوى التي يعلِّقها أركون على ضرورة تعميم تدريس علم الدلالة والأنثروبولوجيا، حتى في المدارس، بما يوجد أرضية لسياسة تربوية قوامها تحليل الكودات الثقافية. وقد عبَّر عن ألمه من غياب التحليل الدلالي لظاهرة الحجاب، بما يؤدي إلى تَوَهان النقاش في اعتبارات بائسة لا تغني عن جوع.
في نهاية المحاضرة دعا أركون إلى فهم جديد للعلمانية، بوصفها مكسبًا عظيمًا للمجتمع الإنساني، يسمح بتجاور سلمي حقيقي بين ثقافات متعددة، قوامه الحوار الخلاق؛ كما دعا إلى ضرورة فهم جديد للظاهرة الدينية بوصفها نشاطًا إنسانيًّا خلاقًا يعين الإنسان على تحقيق توازنه النفسي والروحي. وقد أشار إلى أن اليهودية تعاني، هي الأخرى، من مشكلة مشابهة لمشكلة الإسلام، وتدفع ثمنًا باهظًا لاستخدامها الإيديولوجي الفظ على النحو الذي نعرفه في الصهيونية، بما جعل صديقه اليهودي جان دانييل، المتألِّم مثله من هذه المشكلة، يضع كتابًا بعنوان السجن اليهودي.
***
لقد فتح الإصغاء إلى محاضرة أركون، على تشعب أفكاره في استطرادات طويلة أحيانًا، الباب على نظرة جديدة إلى التراث والحداثة والعلاقة مع الغرب، بغية إيجاد مخرج معاصر من دوامة الجدال الدائر حول القضايا ذاتها منذ بداية القرن الماضي. ورغم الألم الذي ينتابه من خيبات الواقع ومحدودية التواصُل، إلا أنه مستمر في كفاحه الفكري من أجل موقف تساؤلي للعقل أمام المعرفة و"معارك من أجل الأنْسَنَة"، عنوان أحد كتبه، المترجم إلى العربية.