معرفة

«السلام، تاريخ العالم»

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


كتب أديب سلامة: في كتابه الجديد "السلام، تاريخ العالم"، يقوم الباحث والأستاذ الجامعي الأميركي انتوني ادولف، المختص بمسائل السلام في العالم، بتقديم براهينه على أن السلام قد شارك أيضا بفعالية في صنع تاريخ العالم، وليس الحروب هي وحدها التي صنعت هذا التاريخ. ولعل هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تقديم عمل يتم فيه التأريخ للعالم انطلاقا من فترات السلام التي عرفها منذ فترة ما قبل التاريخ حتى الأزمنة الراهنة، والتي كانت حاسمة في التاريخ الإنساني رغم أنها قصيرة نسبيا، بالقياس إلى فترات النزاعات.

إن المؤلف، ومن خلال التعرّض للوقائع والأحداث والأشخاص والأفكار والنصوص المختلفة، يستعرض كيف أن إمكانيات إحلال السلام كانت مرهونة باستمرار في السياقات الثقافية التي أنتجتها، لكنها ساهمت بدورها في صياغة التاريخ البشري العام كما في صياغة التاريخ المحلّي للمجموعات المعنية بها مباشرة.

ويؤكد المؤلف أن الحركات التي تبنّت عدم العنف في التاريخ وأكّدت على أن نضالاتها تقوم على أساس السلام وليس الحرب قد وجدت مكانها في التاريخ منذ حقب قديمة. كذلك برزت في التاريخ الحديث حيث يمثل النموذج الأكثر منها النضال الذي قاده المهاتما غاندي في الهند بعيدا عن العنف والذي انتهى باستقلال بلاده عن الإمبراطورية البريطانية بعد استعمار استمر زمنا طويلا.

ومنذ البداية يؤكد المؤلف أيضا أن تاريخ العالم حافل بالحروب والنزاعات الطويلة إلى جانب فترات "قصيرة" من السلام. هكذا نقرأ أنه "ما بين عام 1496 قبل ميلاد السيد المسيح وحتى عام 1861 ميلادي، أي خلال فترة تمتد 3357 سنة كانت هناك 227 سنة عمّ فيها السلام مقابل 3140 سنة من الحروب والنزاعات". وعلى أساس "الكم" يبدو أن هناك هشاشة واضحة لدور السلام في تاريخ العالم بالقياس إلى فترات الحروب.

وبالتالي تبدو صحيحة النظرية القائلة أن تاريخ العالم هو قبل كل شيء تاريخ حروب وليس تاريخ سلام. وهذا ما يردّ عليه المؤلف بالقول إنه "دون انتصار الذين يميلون إلى المصالحة ودون الميل إلى التهدئة ما كان هناك أي تاريخ لكتابته.

ويرى المؤلف أن السلام شكّل في بدايات الإنسانية نوعا من "الحاجة البيولوجية" لدى البشر كي يحافظوا على بقائهم. ذلك أن "غياب أشكال المحاكمة المنطقية وعدم وجود أشكال التخاطب والتفاهم التي توفرها اللغة المتطورة اليوم طوّر أبناء المجتمعات البدائية ؟ الذين نتقاسم معهم الكثير من المورّثات- ميلا نحو التعايش بسلام. وهذا بدت آثاره في أقلمة البيئة المحيطة وفي الوصول إلى نوع من التبادل ؟الثقافي- الضروري من أجل انتقال غرائز السلام من جيل إلى آخر".

ويقيم انتوني ادولف نوعا من المقارنة، بل ويؤكد على التزامن، بين التطور المادي البدني الذي عرفته المجتمعات الإنسانية وبين تطور عاداتها وتطلعاتها الإنسانية. يكتب المؤلف: "كان أبناء المجتمعات البدائية من الرحّل في أغلب الأحيان وكانوا يستخدمون أسنانهم الكبيرة الحادة لتأمين حمايتهم ومن أجل مضغ الأغذية".

لكن الأمر اختلف مع ظهور الحضارات "الزراعية" وما رافقها من بروز قوى كبيرة في منطقة ما بين النهرين في العراق في فجر الحضارة الإنسانية الراهنة ثم صعود مصر وجيرانها الغربيين من يونانيين ورومان في مرحلة لاحقة.

ويشرح المؤلف، من خلال العرض التاريخي الذي يقدمه لتطور الحضارات الإنسانية الأكثر شهرة، أن البشر بمقدار ما بلغوا درجة أعلى من التطور الحضاري، بلغوا أيضا قدرا أكبر من مستوى قدرتهم على "صنع السلام". ويتم التأكيد في هذا السياق على الدور الإيجابي الذي لعبته الأديان التوحيدية ومختلف حركات عدم العنف من تلك التي نادى بها بوذا وحتى المهاتما غاندي.

هذه كلها أكدت على "إمكانية الفتح بالكلمة وليس بالسيف". ويشير المؤلف في هذا السياق أن رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل، رغم أنه قد أثبت كفاءته القيادية أثناء الحرب العالمية الثانية، قد قال ذات مرة: "إن إمبراطوريات المستقبل سوف تكون إمبراطوريات العقل".

وإذا كان ثمن الحروب هو القتل والتدمير فإن ثمن السلام هو إمكانية أن يعمّ الخير على المعنيين فيه. هذا ما تقوله دروس التاريخ كما يشرح المؤلف ويكتب: "إن دعاة الحوار في أثينا القديمة عرفوا أن يعطوا مدينتهم ذهنية المصالحة وسرّعوا من الوصول إلى مصالحات من خلال التوافق. ومن خلال النقاش المفتوح والنقدي أثبت الفيلسوف بروتاغوراس القيمة التي لا تقدّر بثمن للسلام ولحل النزاعات عبر التاريخ".

وعبر العودة إلى دور السلام في حياة الأمم وفي تاريخ العالم يعود المؤلف إلى البحث في فتراته منذ حقبة الحضارات القديمة في منطقة الهلال الخصيب وحتى "السلام الروماني" وفترات السلام التي عرفتها الصين في ظل مختلف سلالاتها القديمة. يحاول المؤلف أن "يعدّل الموازنة" للتأكيد أن تاريخ العالم هو تاريخ سلام بمقدار ما هو تاريخ حرب ولحقب السلام فيه يعود بقاء الإنسانية.

ويصل المؤلف إلى نتيجة مفادها أنه يمكن للتمعّن في فترات السلام التي عرفها الماضي أن يكون مفيدا من أجل السعي لتحقيقه في الزمن الحاضر والذي يمكن لفتراته أن تكون بدورها مفيدة في الصياغات المستقبلية ل"سلامها".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف