معرفة

الحب والخيانة في الفن الروائي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

*معراج الموت : حين يكون الموت رحمة من الحبّ

كتب نديم الوزه: في تفكير لا يكترث كثيراً في السياق القديم، أو بشكل أكثر دقة بالسياق الذي يمكن تجاوزه، يبدو التورط في ذاكرة جمعية و محاكمتها أمر على هذا القدر من التكرار و الإطالة، فكيف الحال و التفكير هنا جار فيما تمّ التفكير به و نقده مراراً و تكراراً؟
بمعنى آخر ما الذي يمكن أن يفكر به المرء بعد قراءته لرواية - هي سلّتني بالمعنى المعتاد للتسلية- طالما أنها لا تفعل شيئاً سوى التأكيد مرة أخرى على غياب الحرية الفردية، أو بمعنى أضيق على غياب حقوق الفرد في المجتمعات العربية، و لا سيما بالأحوال الشخصية للمرأة، بل و باعتبار علائقي يمكن الحديث أو التساؤل عن أحوال الرجل المحب أيضاً؟
أما الرواية فهي رواية "معراج الموت" للروائي السوري ممدوح عزام، و أما ما يهم في حكايتها فهو أن أحد شخصياتها، و هو سعيد، رجل لا يحب، و هو بهذا و باسمه يذكّر بسعيد بطل رواية الروائي السوداني الطيب صالح " موسم الهجرة إلى الشمال". لكن بينما يتباهى سعيد الطيب صالح بعقله، يتباهى سعيد ممدوح عزام بجسده، بل إن بعض نساء القرية و بعض بناتها عززن لديه هذا التباهي.
و بسرعة، أظنها مفيدة، يمكن القول أيضاً: إن ظروف سلمى أو أفكارها، لم تكن مثالية هي الأخرى، و إلا ما الذي يجعلها تقبل بسعيد زوجاً و كلاهما لا يحب الآخر، و كلاهما لم يكلم الآخر قبل الزواج؟.. أجل، إنها التقاليد. و الرواية تسائلها بشكل واضح، و هي لا تترك مجالاً واسعاً للتفكير، فهذه التقاليد ذاتها سوف تسير بالرواية إلى نهايتها. و ما على القارئ، في النهاية، سوى اتخاذ موقف ما، إما سلبياً أو إيجابياً، و هو موقف ينبغي اتخاذه على أية حال في الحياة الواقعية، بوجود الرواية أو من دونها...
فبعد أن يسافر سعيد، أو يهاجر نهائياً، بعيداً إلى إحدى دول أمريكا اللاتينية، سوف يترك زوجه سلمى وحيدة في سورية، بلا ابن أو طلاق. و يحصل أن تحب سلمى عبد الكريم، و يحب عبد الكريم سلمى، و يهربان معاً، معرضين نفسيهما للخطر.. و بالفعل هما لن يستطيعا مواجهة هذا الخطر طويلاً، و ليس ذلك إلا لقبولهما باسترضاء التقاليد، لعل أهل سعيد يقبلون بهذا الحب فيتركون سلمى تطلق سعيداً لتتمكن من الزواج من عبد الكريم. لكن الذي يحصل أن أهل سعيد يسترجعون سلمى، و يقتلونها و بطريقة تنجيهم من عقاب الشرطة!.

طبعاً بعد ذلك لا شيء يحصل سوى أن يحزن القارئ لمصير سلمى و عبد الكريم، أو يرتاح له، وفق ما تمليه عليه منظومته الفكرية أو الإيديولوجية طالما أن التفكير السليم قد يقود إلى معادلات أخرى، للأسف لا يتبناها هذا الواقع الذي لا يفهم أو لا يتفهم معنى الحب أو خياراته الإنسانية في أكثر تجلياتها بساطة، بما يفقد الرواية بعدها الإبداعي و يرجعها على أطروحات أكثر جمعية، ربما يلتمس المرء ما يفوقها إثارة فيما يشاهده من مسلسلات تلفازية و على وجه الخصوص ما هو بدويّ منها. و هذا سوف ينفي من الرواية طابعها المحلي أو البيئي على اعتبار أن ما تعالجه لا يخص مجتمعاً محدّداً بقدر ما يعالج أزمة حضارية هي على هذا النحو من الفجاجة في وضوحها أو فواتها الفكري على الأقل.
قد لا تخرج مسرحية "الأيام المخمورة" للكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس عن هذا الفوات إلا مؤقتاً، و هو خروج كافٍ ليمنحها حضوراً فيما أفكر فيه، و لاسيما أن مشروعي محدد بعنوان بسيط، تتفرع عنه عناوين منوعة لكسر الضجر. فأنا أعرف أن عنواناً مثل "الحب الروائي" قد لا يثير الانتباه دائماً، و هو عنوان قد يكون بسيطاً، و لكنه يتوخى أهدافاً معقدة، أو هي أهداف قد تثير التفكير بشكل من الأشكال، أو بشكل أظنه أو أتمناه أن يكون مثيراً إلى هذا الحد الذي يمكن فيه أن أتخلى مثلاً عن عقدة العنوان للعودة إلى الأصل.
ثم إن الأصل الذي هو حكائي، و كما هو معروف، ليس الرواية في تاريخ الأدب و إنما الملحمة أو المسرح. و على هذا الأساس من اختلاط الأجناسٍ الذي حصل متفاوتاً مع مرور الزمن، أعتقد، و ليس جازماً، أنه يمكن الانتقال في الكتابة الحديثة، و بسهولة، من جنس أدبي إلى آخر مادام الهدف واحداً ولاسيما أنه الحب.

لهذا كله قد لا أجد حرجاً في أن أورد مسرحية تحت عنوان روائي طالما أنها هي الأخرى تتضمن سرداً يكاد يقترب من الرواية و لايعترف بها، و خاصة أن سعد الله ونوس حاد المواقف، و لم يرتخ إلا حين فكّر جدياً بالخمر، أو بالأحرى بالأيام المخمورة بما يماثل عنوان مسرحيته-موضوع هذه الكلمات- تماماً.

أما موضوع هذه المسرحية فهو بدوره لا يعترف بالأجناس أو بالأطر المتعارف عليها بالتصنيف الأدبي أو الاجتماعي، طالما أن البطلة سناء تتخلى عن زوجها و أولادها لهدف سام برأي كاتب هذه السطور، و ربما يكون مشيناً برأي غيره من البشر، و من ضمنهم بالطبع الزوج و الأولاد، و تحديداً ابنها عدنان الذي عقّد المسائل و جعلني أستمتع بقراءة ما كتبه سعد الله في هذه المسرحية إلى نهايته، و تحديداً أكثر حين طرح عليّ التفكير به على
نحو مثل التساؤل عن إمكانية الوصول إلى حلول نظيفة عن طريق تفكير ملوث؟
التعقيد بحد ذاته ليس مهماً، و قد يكون أكثر إضجاراً من البساطة أو الأشياء المعتادة، على الرغم من أن ما أسعى له قد يتقاطع معهما أو يصل إليهما من خلال ما يمكن تحليله و بسطه بما يعني تناقضاً سوف يتمخض هو الآخر عن جدل ينتج عنه معرفة و من ثم ضجراً بالتأكيد. فمما لا شك فيه أن هذه المعرفة متوافرة، وربما في الطريق- اقصد في الكتب التي تباع على أرصفة الطرق، و ما على المرء سوى أن يشتريها و يقرؤها.. بعد ذلك قد لا تعجبه قصة حب على هذا النحو من البساطة و السذاجة، إذ ما يعني أن تتخلى أمّ عن أبنائها، و قد كبروا، لتعيش مع من تحب؟ أليس هذا أفضل لها و لهم من أن تعاشر أي رجل يخطر على بالها طالما أنها لا تحب زوجها؟

ربما نعم و ربما لا. و لكن مهما كان الرأي الأخلاقي في ذلك، ما المثير في حكاية مثل هذه؟ امرأة تترك زوجها و أولادها و تعيش مع من تحب وتموت.
في الحقيقة فعل الموت هذا هو ما أثارني، فما أراده حبيب لم يتحقق، فقط لأن حبيبته سناء أمّ، و الأمّ حرمة، و لا يجوز المساس بها أخلاقياً، أ, إذا ما تم تجاوز ذلك فالعلاقة بين الأم و أبنائها معقدة أو هي تفترض عُقداً ليست كل المجتمعات أو الأفراد قادرة على التخلص منها.
و المسألة هنا لا تتعلق بالتقدم و التحضر بقدر ما تتعلق بالمخزون المعرفي و ربما النفسي أيضاً. فعبد القادر -زوج سناء السابق- و أبناؤها و بناتها نسوا أمر هروبها من البيت أو تناسوه لمصالح و ارتباطات لا داعٍ لذكرها الآن: أولاً ليعود القارئ إلى مسرحية "الأيام المخمورة". و ثانياً لأنها لا تعني أكثر من الأشياء المتوارثة، و مهما كانت جارحة في النفس و الأنا، قد لا تكون مؤهلة للحياة مع مرور الزمن.
سناء توجعت من رحمها. و هذا دليل على عقدة الاحتواء أو موت الخصب أو بالأحرى قتل الأبناء. و ابنها الصغير يذكر بعقدة أوديب أو هاملت إلى آخره. و كلاهما، سناء و عدنان، سوف يموتان لأن علاقتهما مع الواقع غير قابلة بالمعنى الدارويني للبقاء.

و الواقع هو واقع "الأيام المخمورة" الذي لا يسمح فيه إلا للخيانة و الدعارة. لذلك حين أرادت سناء أن تنحاز لانزياح آخر يرفض هذا الواقع لم تستطع ذلك طويلاً، ليس بسبب الحب و إنما لسبب آخر ربما يكون هو البذار التي زرعها في رحمها عبد القادر.
و على ما يبدو أن عبد القادر قد استحوذ على كل قدرتها الإيروسية بما في ذلك تجلياتها العشقية. و إذا ما تمثل هذا التوصيف بالأبناء فلا يبدو غير الممثل الأكثر ضعفاً يميل إلى أمه، بل هو في محاولة أخيرة للبقاء يلجأ إلى أخيه الأكبر لعله يجد في الخمر و النساء ما يداري ضعفه المهيمن عليه: لحبه أمه من جهة، و لعدم مقدرته على قتلها من الجهة ذاتها. و كلا الشيئين كافيان برأي سعد الله ونوس لنخر نفسية عدنان شيئاً فشيئاً حتى تنهار تماماً، فيوجه إليها رصاصة الرحمة.

بهذا الانتحار أقف من جديد متسائلاً ماذا لو كان المجتمع الذي تعيش فيه سناء أكثر تحضراً؟ و الجواب ببساطة قد لا ينفي مشروعية الكتابة الأدبية لما قد تمّ طالما أنه قد تمّ فعلاً، و إنما -و هذا هو الأهم- قد يراوح الفكر في بلادته المعتادة على الرغم من أنه قد يتساءل: لماذا تزوجت سناء من عبد القادر أصلاً؟ و لماذا لم تتركه من قبل؟ من قبل أن يولد عدنان في هذه الحالة؟ أم أن الجواب بحاجة إلى عودة مجدّدة إلى محاكمة التقاليد؟ ربما، و لكن ما أفضله أن يكون ذلك في رواية أخرى!- اوغاريت.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف