لبنان

تشرد المسنين في لبنان مشكلة جذورها اقتصادية واجتماعية.

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تنتشر ظاهرة تشرد وتسول نساء ورجال بعمر فاطمة في شوارع المدن اللبنانية أو قرب مستشفياتها صيفا وشتاء حيث يستعطون المارة او يبيعون العلكة، وربما بات الكثيرون من المارة وسكان هذه الأحياء بعرفون بعضهم

جلست فاطمة في زاوية على ناصية من الطريق ظللها فيء مبنى تضع طفلة صغيرة على حضنها، فيما تدل ثيابها وثياب الصغيرة على حال أقرب إلى البؤس، بينما تدل قسماتها على ندوب عميقة تتربع بين ثنايا عمرها الستيني. فاطمة التي جاءت إلى العاصمة اللبنانية بيروت من طرابلس، ثاني مدن لبنان من حيث عدد السكان، تستعطي المارة بكلمات تقرع آذانهم كل يوم،وما أن لمعت في يدي آلة التصوير حتى ظهر صبي سائلاً ومستغرباً ومستنكراً..لماذا تصورين جدتي؟ فتكتشف أن نوعاً من التسول العائلي يلوح أمامك.

لم ينطوِ إقناع فاطمة العلي على الحديث على كبير مشقة حيث سردت لوكالة الانباء الالمانية ( د.ب.أ) مدعاة تسولها قائلة "بعد مقتل زوجي ،لم أجد معيلاً لي ولبناتي الأربع وابنيّ المريضين سوى سؤال الناس الإحسان..ولله يا محسنين". وأضافت العلي "فرّ ابني المريض عقلياً من البيت ولا أعرف له أثراً، والثاني مريض بالمرض الذي لا يسمّى(السرطان) وها أنا أبيع العلكة بمنطقة عائشة بكار لتأمين إجار البيت الذي أسكن فيه في منطقة الاوزاعي جنوب بيروت". وقالت" انتظر مرور المحسنين الذين لا تزيد عطاءاتهم عن الالف او الالفي ليرة لبنانية، فاجمع ما تيسر منها عند المساء وأعود إلى المنزل". وعند اطمئنان الطفل سمير العلي ( 9 سنوات ) قال " أبيع العلكة هنا لاساعد جدتي ،والحمد لله.. ماشي الحال".

وترتفع أعداد المشردين في لبنان من كل الفئات (أطفال، شيوخ، نساء) باطراد، متأثرة بتزايد المشاكل الاجتماعية الناجمة عن التفكك الأسري مثل الطلاق أو فقدان المعيل، وانتشار تعاطي المخدرات والجرائم وارتفاع نسب البطالة والفقر . وربما يرجع سبب تشرد المسنيين في لبنان الى غلاء المعيشة بشكل عام، وانعدام اسباب الحياة الكريمة أحياناً.

وأوردت تقارير للامم المتحدة وبعض الهيئات المحلية أن حدود الفقر في لبنان احتسب اعتمادًا على المصاريف المتوسطة للعائلة الواحدة، التي ترتفع في العاصمة بيروت بنسبة مرة ونصف عن المناطق الاخرى. وتشير التقارير إلى أن 8% من سكان لبنان يعيشون بفقر مدقع، ونحو 300الف شخص عاجزون عن تأمين الغذاء الاساسي الكافي لهم، ولا يتعدى دخلهم اليومي 2 و4 دولار. وتضيف التقارير أن حوالي مليون لبناني، أي ما نسبته 28،5% من السكان، يقعون ضمن فئة " الفقراء العاديين" وهي الفئة التي تقبض ما نسبته 4 دولارات يوميًا.

وقال عبد الهادي الشولي وهو فلسطيني مسن يجوب شارع الحمرا قرب مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت مستعطياً "لا تستطيع بناتي الخمس المتزوجات والساكنات في منطقة طرابلس شمال لبنان مساعدتي بسبب أوضاعهن الاقتصادية المتردية وليس لدي أي معيل غيرهن لهذا السبب أنا هنا". وأضاف الشولي "أحصل على المساعدة من الناس هنا ولا اطلب سوى رحمة الله..افترش الأرض في النهار وفي الليل آوي إلى بيوت الاصدقاء".

وتشهد الأسرة اللبنانية بعض الاهتزازات جراء التحولات والتغيرات الاجتماعية التي يفرضها خروج المرأة إلى العمل خارج المنزل، ،الأمر الذي حرم كبار السن من الرعاية والاهتمام.

وقالت الصحافية منى سكرية " رافقت ظاهرة التشرد تاريخ البشرية وهي موجودة في كافة المجتمعات ولدى كل الفئات والطبقات الاجتماعية: الأغنياء والفقراء والريفيون وسكان المدن ..لكن وجود الأطفال والعجائز والنساء على قارعة الطريق في أيام ملتهبة الحرارة أو في زمهرير الشتاء، يرجع لمسألتين: عدم توفر مؤسسات حكومية تحضن المشردين وتهتم بهم وتوفر الأمن الاجتماعي لهم وغياب الوعي لدى هؤلاء بضرورة انتسابهم الى المؤسسات التي توفر الدعم لهم ".

وتابعت سكرية "يلاحظ وجود ازدواجية في لبنان إزاء هذه الظاهرة ،فالترابط الأسري ورعاية المسن من قبل أسرته لا يزال موجوداً، رغم التغير الذي أصاب ظروف الحياة وبخاصةً خروج المرأة الى العمل. لكن خصائص العصر تفرض نفسها بقوة، من هنا ينبغي إيجاد مراكز إيواء للمشردين لأي فئة عمرية انتموا". وأضافت " بعض هؤلاء يمتهن التشرد ،ومن مسؤولية الدولة كشف ذلك ومنعه ،ولا بد من تضافر جهود الدولة والمجتمع المدني لايجاد الحلول الناجعة لهذه المشكلة. ويمكن القول ان ظاهرة التشرد وان كانت موجودة في لبنان الا انها تبقى تحت السيطرة".

وتقوم الدولة اللبنانية بتغطية القسم الاكبر من تكاليف الايواء والطبابة والرعاية للعجزة عبر تسديد مبالغ مالية عن كل عاجز تحتضنه مؤسسة راعية بعد ان تقوم هذه الاخيرة بتقديم طلب بذلك الى الوزارات المختصة.

وقالت رئيسة مستشفى دار الرحمة للمسنين والمعوقين عقلياً وجسدياً الأخت هدى حنا الحداد " تتبع الدولة اللبنانية سياسة عامة للاهتمام بالمسنين تقضي بدفع وزارة الشؤون الاجتماعية القسم الاكبر من تكاليف الايواء للمؤسسات الراعية للعجزة. كما تقوم وزارة الصحة بتغطية القسم الاكبر من تكاليف الرعاية الصحية لهؤلاء المشردين .ويمكن القول ان الدولة اللبنانية تقوم بواجباتها تجاه هذه الفئة الاجتماعية وان كانت مراكز ايواء المسنين بمجملها تابعة للمجتمع المدني".

وتابعت الحداد "نمت هذه الظاهرة بشكل كبير بعد الحرب الاهلية اللبنانية (1975 -1990)،وبعد كل حرب تذوق مرارتها لبنان، كما ان نزوح العديد من الاسر اللبنانية من الارياف باتجاه المدن طلباً للعمل، دفع ببعض المسنين الى الشارع، حيث سكن هؤلاء النازحون في مساكن ضيقة بالضواحي، واحياناً كان المسكن يتألف من غرفة واحدة تضم اكثر من سبعة اشخاص".

والجدير بالذكر ان سلخ المسنين من أسرهم ووضعهم في مؤسسات الرعاية، يترافق في معظم الاحيان مع انقطاع الاولاد عن زيارتهم مراكز الإيواء، وإهمالهم لهم. وهو كأس لا يقوى معظم كبار السن على تجرعها، فيفضلون التشرد. وأضافت الحداد "بعض المسنين يرفضون الانضمام الى دور العجزة ويفضلون التشرد في الشوارع، وعلى القوى الامنية ملاحقتهم ومنعهم من التسول. كما تقع مسؤولية اقناعهم بضرورة الانضمام الى دور العجزة على أولادهم".

وتطالب الأمم المتحدة بضرورة تأمين حياة كريمة للمسنين، جراء ارتفاع منسوب التفكك في الغرب، أما في لبنان فلا تزال الاسرة تحافظ على تماسكها إلى حد كبير.

وقالت نعمت مكي استاذة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية"إن قيمة رعاية المسن والاهتمام به لا تزال تميز الحياة الاجتماعية في لبنان. فالأسرة لا تزال تشعر بالحاجة لوجود المسن من اجل الافادة من تجربته. وإذا قارنا بين تحول المجتمع اللبناني من مجتمع زراعي ريفي الى مجتمع مديني ، والازمات الاقتصادية التي يشهدها لبنان، وبين عدد المسنين المشردين نجد ان ظاهرة تشرد المسنين ،محدودة جداً". وتابعت مكي " لا توجد أية أسس بنيوية لرعاية المسنين في لبنان، فالمؤسسات الراعية للعجزة هي مؤسسات تابعة لأصحاب المصالح الخاصة، الفئوية والسياسية والمذهبية ، ولا يقتصر هدفها على مجرد المساعدة".

وأضافت "إذا أردنا المحافظة على قيمة رعاية المسنين ،وحمايتها من الاندثار، على الدولة اللبنانية استحداث مؤسسات تابعة لها والامتناع عن تلزيم هذا الأمر إلى مؤسسات الرعاية التابعة لأصحاب المصالح الخاصة، التي تعيد إنتاج ثقافة الإذعان والخضوع والتمييز الطائفي والمذهبي".

وفيما يسعى البعض للإضاءة على هذه الظاهرة التي بدأت تظهر للعيان فإن الدولة تغط في نومها الإجتماعي بينما تستفيق فاطمة وسمير والشولي والمئات من المسنين صباحاً ليفترشوا الأرصفة ويتابعوا الإستجداء ..لله يا محسنين.

.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف