لبنان

لبنان والسياسات الدولية: أثمان الحرب والسلام

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

بيروت: في لبنان، الذي يفضل البعض أن يسميه بلد التناقضات، يكثر اللاعبون على الساحة السياسية، فبالإضافة إلى أن البلد منقسم إلى 18 طائفة، فهو يضج بأحزاب من كل حدب وصوب، وبعض هذه الأحزاب على علاقة واضحة مع دول وجهات خارجية، بينما يبدو البعض الآخر وكأن ديدن حركته هو الساحة الداخلية فقط.

ومن جهة أخرى، يضع الواقع الإقليمي والدولي لبنان دائماً في مهب الأعاصير، فالموقع الذي دائماً ما تتغنى به برامج التربية الوطنية اللبنانية هو في الحقيقة واحد من أسباب "اللعنة" التي تطارد "بلد الأرز" الذي يقف دائماً "في ممر الفيلة."

لبنان وسوريا: "الأخ الأكبر" و"الخاصرة الرخوة"

تعتبر العلاقة بين لبنان وجارته الكبيرة سوريا واحدة من أبرز محاور الخلاف المحلي والدولي، خصوصا وأن الأخيرة ترسل دائما إشارات ملتبسة حول درجة قبولها بوجود لبنان كدولة مستقلة بحد ذاتها، وهو ما تجلى عندما لم تفتتح الدولة السورية، على اختلاف حكامها وأنظمتها، سفارة لها في لبنان حتى أواخر ديسمبر/ كانون الأول من عام 2008، رغم أن الكيان اللبناني كان قد استقل سنة 1943. ولم تأت هذه الخطوة إلا بعد ضغوط دولية وشد وجذب بين مختلف الأطراف في لبنان وسوريا والمجتمع الدولي، وهو الأمر الذي يدل على درجة الالتباس في العلاقات بين البلدين.

فالغموض في علاقة البلدين ليس وليد اليوم، فمنذ إعلان قيام دولة لبنان الكبير عام 1920 تحت الانتداب الفرنسي، حيث ضم إلى جبل لبنان الذي كان يعد كيانا ذو حكم ذاتي، أربعة أقضية هي بيروت وطرابلس، وبعلبك ـ الهرمل والجنوب، وهو الأمر الذي رفضته القيادات السورية بالإضافة إلى معظم مسلمي لبنان.

واستمرت العلاقة المتوترة بين البلدين، حيث بقيت قوى لبنانية ترى أن لبنان، مهما كبر أو صغر هو قطعة من سوريا، وعارض ذلك آخرون، جلهم من المسيحيين الموارنة، الذي عدوا لبنان كيانا مستقلا قائما بذاته. وتجلت هذه الانقسامات في محاولات عديدة لتدخل دمشق بالشأن اللبناني، عبر دعم تحركات مسلحة "انقلابية" نفذتها بعض التنظيمات، مثل حركة الحزب السوري السوري القومي الاجتماعي، بقيادة أنطون سعادة، والتي باءت بالفشل وأدت إلى إعدام الأخير رميا بالرصاص عام 1949.

وبالمقابل لم يكن هذا التورط في الشؤون اللبنانية حالة سورية خالصة، فكان لبنان بدوره يوفر ملاذا للاجئين السياسيين السوريين المعارضين، الأمر الذي كان يثير حفيظة دمشق القلقة من تحول بيروت إلى قاعدة للانقلابات أو التأثير في شؤونها.

وفي فترة لاحقة، ظهرت نظرية "الخاصرة الرخوة" التي تعتبر أن لبنان نقطة ضعف في الدفاع الاستراتيجي السوري، حيث يمكن للجيش الإسرائيلي اختراقه بسهولة والالتفاف على القوات السورية في حال وقوع مواجهة، ما يوجب تواجد دفاعي سوري في لبنان، وقد سخر البعض من هذه النظرية بقوله إن سوريا هي "الخاصرة الرخوة" حيث لم تتدخل في المواجهات العسكرية المتكررة بين لبنان وإسرائيل طوال السنوات الماضية.

وبالمقابل كان لبنان قد نشأ أصلا ضمن الحماية الفرنسية، وعليه فهو بلد يعتمد على الاقتصاد المفتوح وتحديدا على قطاع الخدمات والمصارف، والتي تستوجب منه الاعتماد اقتصاديا على الخارج ومستورداته وسياحه، وبالتالي لطالما كان لبنان مدفوعاً نحو الصراعات الدولية.

وأكثر من هذا، يرى الصحفي الفلسطيني سعيد أبو ريش والذي قضى سنوات كمراسل للصحف الأجنبية في لبنان بكتابه A Brutal Friendship، أن لبنان كان، في العقد الخامس من القرن الماضي، وقت الصعود الناصري مسرحا لعملاء مخابرات مختلف الدول الأجنبية وتحديدا وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA).

لبنان بين "الاعتدال" و"الممانعة"

يبرز اليوم في الانتخابات الحالية بلبنان الصراع حول موقع البلاد من المحاور الموجودة حاليا، والمتمثلة في ما يعرف بـ"دول الممانعة،" وعلى رأسها سوريا وإيران، ودول "الاعتدال" وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ومصر.

ولكل من هذه المحاور قوى تميل إليها وتناصرها علناً أو مواربة، وهو ما ينعكس في الشعارات المرفوعة بين المتنافسين، حيث يحذر عدد من قادة قوى الغالبية النيابية، التي يهيمن عليها تحالف "14 آذار" من عودة النفوذ السوري في حالة فوز المعارضة، بينما تقول الأخيرة إن انتصارها سيعيد لبنان إلى "الخط العروبي الممانع."

والخطير في لعبة التوازنات بين المحاور الإقليمية في لبنان هو الامتدادات المذهبية التي ترتديها الأمور، حيث أن معظم السنة والدروز يؤيدون قوى "14 آذار" مع علاقاتها بمحور "الاعتدال" بينما يصطف الشيعة خلف "حزب الله" و"حركة أمل" وارتباطاتهما بمحور "الممانعة،" في حين ينقسم المسيحيون بين هذا وذاك.

الحراك اللبناني على إيقاع غربي

أما على المستوى الدولي، فيبدو لبنان أيضاً بين نارين، بحيث تتقاذقه رياح التوافق حيناً وأعاصير الخلاف أحياناً، وخاصة على صعيد المواقف في العواصم الغربية المعنية بالشأن اللبناني، وفي مقدمتها باريس وواشنطن.

فبالنسبة لفرنسا، التي لها "إرث" كبير في لبنان وعلاقات مع الكثير من قواه السياسية، كانت ولاية الرئيس السابق، جاك شيراك، بمثابة الفترة الذهبية لقوى الغالبية النيابية "14 آذار" وذلك باعتبار أن شيراك كان صديقاً شخصياً للحريري، وقد قام بزيارة ضريحه بعد أيام من اغتياله للتعبير عن تقديره له. كما قاد في المحافل الدولية الجهود الرامية إلى تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بقضيته، وعلى الصعيد الإقليمي، استخدم شيراك قدرات الدبلوماسية الفرنسية في المنطقة لعزل دمشق.

وشكل الملف اللبناني همزة وصل بين باريس وواشنطن بعد سنوات من "الجفاء" بسبب رفض فرنسا المشاركة عسكرياً بغزو العراق، فدخلت واشنطن بقوة على الملف اللبناني من باب مشروع "نشر الديمقراطية" وأيدت حركة "14 آذار" التي أطلقت على تحركاتها اسم "ثورة الأرز" وخفضت تمثيلها الدبلوماسي في دمشق. وقدم الرئيس الأميركي جورج بوش، دعماً شبه يومي لمطالب الغالبية النيابية، كما استقبل معظم قادتها في البيت الأبيض، وقدم دعماً مالياً وسياسياً للمحكمة الدولية.

لكن آفاق التبدل في الموقف الدولي بدأت تظهر مع انتخاب الرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي، الذي رغب في خطوات دبلوماسية تظهر تميزه عن إرث شيراك من جهة، إلى جانب عمله على مشروع "الاتحاد من أجل المتوسط" الذي يعتبره مشروعاً شخصياً.

وكانت النتيجة مساهمة ساركوزي في فك العزلة عن دمشق عبر زيارات عالية المستوى، كانت مقدمة لزيارات أوروبية أخرى إلى العاصمة السورية، إلى جانب دخول قطر، الحليف المستجد لسوريا، على خط مساعدتها بإيجاد منافذ عمل إقليمية. وجاءت معارك يوليو/تموز بين حزب الله وإسرائيل، وبعدها معارك حركة حماس وإسرائيل في غزة لتزيد من الإقبال الدولي على سوريا التي عادت لتلعب دورها في الملفات الإقليمية، ما انعكس تحسناً في موقف المعارضة اللبنانية وإحراجاً لقوى الأغلبية.

ومع وصول إدارة الرئيس الأميركي الجديد، باراك أوباما، إلى البيت الأبيض، وإعلانه عن "مقاربة جديدة" للعلاقات مع سوريا وإيران، تزايد الارتياح السوري حيال التبدلات الدولية، وكثر الحديث عن "نهاية العزلة" بالنسبة لدمشق التي حاولت تقديم نفسها على أنها دولة قادرة على لعب دور "الوسيط" بين إيران والغرب.

ويبدو أن عواصم القرار الغربي تنتظر ما ستسفر عنه الانتخابات النيابية اللبنانية لتحديد موقفها من تطور الأحداث في هذا البلد، وليس أدل على ذلك من المواقف التي اتخذها نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، في بيروت، والتي ربط من خلالها مساعدات بلاده المستقبلية للبنان بتوجهات حكومته الجديدة، وإن كان قد أكد أن بلاده لن ترتب حلولاً إقليمية على حساب لبنان.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف