ما حقيقة إصابتنا بالأمراض "الوهمية"؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ديفيد روبسون
كيف تخبر مريضا يعاني من شلل أو عمى أو نوبات صرع أن مرضه "محض وهم"؟ تقول الطبيبة سوزان أوسوليفان لبي بي سي إن أفكارنا ومشاعرنا يمكنها أن تحرك الجسد بطرق غامضة ومخيفة كأي مرض جسدي.
بعد تخرج أوسوليفان من كلية الطب في دبلن بفترة وجيزة، قابلت مريضة تدعى إيفون، وكان قد بدا أن مرضها الغامض لا يمت بصلة تذكر لأي من دراساتها السابقة.
وقيل لها إن إيفون كانت ترتب المواد في الثلاجات في مركز التسوق الذي كانت تعمل فيه عندما رش أحد زملائها عن طريق الخطأ رذاذا خفيفا من منظف النوافذ على وجهها. حاولت إيفون غسل عينيها ثم تركت العمل وذهبت إلى النوم في وقت مبكر على أمل أن يخف الالتهاب في اليوم التالي. ولكن عندما استيقظت، كانت رؤيتها قد ساءت وكان كل شيء تنظر إليه يبدو ضبابيا، لدرجة أنها بالكاد تمكنت من رؤية الساعة. وبعد أربع وعشرين ساعة، لم تتمكن من التمييز بين الليل والنهار.
وبعد ستة أشهر من الفحوصات، لم يجد الأطباء أي مشكلة بعيني إيفون، إلى أن دخلت في نهاية المطاف وحدة الأعصاب في المستشفى الذي كانت تعمل به أوسوليفان. وخلال عملية المراقبة، كانت عينا إيفون تومضان بين زوجها والأطباء، وعندما نقل الطبيب منظار العين بالقرب من عينيها، طرف بصرها. وبدا من المؤكد أن عينيها كانتا تستجيبان لمحيطها، ومع ذلك استمرت في القول إن ظلاما دامسا يحيط بها.
وافترض زملاء أوسوليفان أنها كانت تدعي المرض، ربما لرفع دعوى قضائية من نوع ما. وتمتم أحدهم لدى خروجه من جناح المستشفى قائلا:" لن تحصلي على جائزة أوسكار لهذا الأداء". إلا أن أوسوليفان نفسها لم تكن مقتنعة، وكتبت في كتاب لها بعنوان "كله في الرأس" الذي رشح مؤخرا لجائزة "ولكوم" للكتاب، تقول:" لقد أحببت إيفون. شعرت بالأسى من أجلها. ولكني لم أصدق أنها عمياء".
والآن أدركت أوسوليفان السبب، بعد أن أصبحت خبيرة في الأمراض النفسية في مستشفى لندن الملكي. وعالجت مصابين بالشلل النصفي أو مرضى كان يصيبهم تشنج حاد في أصابعهم لدرجة أن أيديهم أصبحت أشبه بالمخالب إلى حد ما؛ حتى أنه كانت هناك امرأة لا تستطيع إفراغ مثانتها دون قسطرة طبية. ومع ذلك، فحينما يفحصها الأطباء، لا يجدون سببا فسيولوجيا – مما يشير إلى أن المشكلة تنبع من العقل وليس الجسد.
وبناء على ذلك، ربما لم تكن إيفون تدرك ما كانت تراه - بشكل ما، كان اللاوعي لديها يتخلص من المعلومات قبل أن تصبح على معرفة بها.
كان لدي حماس كبير لمعرفة المزيد، لذا تحدثت إلى أوسوليفان عن حياتها المهنية وكتابها الأخير الذي يشرح بالتفصيل هذه الحالات المذهلة.
ورغم أن أوسوليفان تتعامل مع مرضى مثل إيفون منذ بداية حياتها المهنية، إلا أن اهتمامها بمثل هذه الحالات ازداد عندما بدأت تتخصص في مرض الصرع.
وغالبا ما كان المرضى يأتون إليها وهم يعانون من نوبات منهكة تجعلهم يصرخون من الألم، وتتشنج أطرافهم ويشعرون بالعجز. ومع ذلك فعندما كانوا يأتون إلى المستشفى لإجراء فحوصات عصبية لم يظهروا أيا من الإشارات على الصرع في نشاط المخ؛ إذ كانت النوبات ”نفسية في الأساس".
تقول أوسوليفان: "أصبح من الواضح أن لا أحد يتحدث عن هذه المشاكل الشائعة، والتي لا تحظ بالاهتمام اللازم في المجلات الطبية أو المؤتمرات الطبية. وهذا مجال مهمل تماما".
ذلك الصمت يجلب العار، بمعنى أن معظم المرضى في نهاية المطاف يشعرون بالإهانة من التشخيص. تقول أوسوليفان: "يكون رد فعلهم الأول على هذا النحو: أتعتقد أنني أفعل ذلك عن قصد؟ أو أتعتقد أن هذا ليس حقيقيا؟ أو أتعتقد أن بإمكاني التوقف لو أردت؟ هنالك ذلك التصور بأن هناك قدرا من التعمد".
إذا وجدتم صعوبة في تصديق تلك الأعراض، فكروا بالطرق العديدة التي تحرك فيها مشاعركم أجسادكم. تشير أوسوليفان إلى أن كل مرة نبكي فيها أو نضحك أو نهتز من الغضب، فإننا نختبر ظواهر نفسية بشكل مباشر؛ إذا كنا نشعر بالحزن الشديد فمن الصعب رفع أنفسنا من الفراش، أو أننا نشعر بالنفور مع الغثيان بعد سماع أن أحد الأصدقاء أصيب بتسمم غذائي.
في الحقيقة، فإن نحو 30 في المئة من الأشخاص الذين يزورون طبيب العائلة أو الطبيب العام (و50 في المئة من النساء اللاتي يزرن الطبيب) يعانون من أعراض لا يمكن أن تعزى إلى أسباب جسدية ـ مما يشير إلى أنها قد تكون أعراضا نفسية في الأصل. والفرق هو أن تلك الأعراض بالنسبة للأغلبية منا تمر ويمكننا العودة إلى حياتنا الطبيعية، ولكنها بالنسبة لمرضى أوسوليفان تكون مفرطة ومزمنة وقد تدوم لأشهر أو سنوات أو حتى مدى الحياة.
وتؤكد أن الأصل النفسي لا يجعل العمى أو التعب أو النوبات أو الشلل أقل إنهاكا. وتقول: "إنهم معاقون حقا. معاقون أكثر من معظم الأشخاص الذين يعانون من مرض جسدي".
انظروا إلى حالة كاميلا، محامية في العاصمة البريطانية لندن، التي تم تشخيص حالتها بالصرع قبل أن تتمكن أوسوليفان من إثبات أن المشكلة نفسية في الأساس. وصفت كاميلا نوبات الصرع التي تصيبها بأنها مهينة؛ مشيرة إلى أن البعض كان يحاول مساعدتها بالجلوس عليها لإيقاف التشنج في أطرافها، ويضعون أصابعهم في حلقها لوقف الاختناق. انحنى أحد الرجال بجانبها وسألها إن كانت بخير قبل أن يسرق هاتفها المحمول.
قالت كاميلا لأوسوليفان: "أتعلمين ما يحدث طوال الوقت؟ يصورني الناس بالفيديو على هواتفهم المحمولة ويغادرون ضاحكين".
وكلما عرفتم أكثر عن هؤلاء المرضى، يصبح من الصعب أكثر تصديق أن أي شخص سيعرض نفسه عمدا لهذا الذل. رغم ذلك فقد التقت أوسوليفان ببعض المخادعين مثل جوديث التي ادعت أنها تعاني من نوبات كآثار جانبية للعلاج الكيميائي لسرطان الدم الذي تلقته قبل سنوات.
وأملا في الوصول إلى صلب الموضوع، استدعتها أوسوليفان إلى جناح في المستشفى حيث توجد كاميرا فيديو بإمكانها تصوير نوبات الصرع عندما تحدث. وبالفعل، في الساعة 9.15 مساء، وجدت إحدى الممرضات جوديث ملقاة على الأرض فاقدة الوعي، وكانت قد سقطت سقطة قوية لدرجة أنها كسرت يدها على ما يبدو.
وعندما استعانت أوسوليفان بمقطع الفيديو، اكتشفت أنها لم تصب بنوبة على الإطلاق. ما فعلته جوديث كان ببساطة أنها رفعت يدها وضربتها بالجدار أربع مرات قبل أن تستلقي باسترخاء على الأرض وأسقطت معها لوحة جدارية لجلب انتباه الممرضة. وفي الواقع، وبعد النظر في سجلاتها الطبية، اتضح أنها لم تعاني أبدا من سرطان الدم أيضا.
ورغم أن مثل هؤلاء المرضى الذين يعانون من أمراض "مصطنعة" قد يزيدون الشعور بوصمة العار التي تلحق بأناس مثل كاميلا أو إيفون، إلا أن أوسوليفان لا تزال تشعر بالتعاطف مع هؤلاء الناس. ففي النهاية، أي نوع من العذاب النفسي من شأنه أن يجعل أحدا يتصرف بهذه الطريقة؟ وحتى لو لم تعاني جوديث من سرطان الدم، فلربما كانت قد شهدت حالة شخص آخر ـ وهي تجربة ربما وجدت صعوبة في تقبلها بأي شكل من الأشكال. تقول أوسوليفان: "المرض المصطنع هو أحد الاضطرابات الأكثر خطورة التي أعرفها".
هناك حاليا بعض الأبحاث القيمة حول أفضل السبل لعلاج الأمراض النفسية، بيد أن أوسوليفان تميل إلى تحويل مرضاها إلى أطباء نفسيين أو معالجي السلوك المعرفي الذين قد يكون بإمكانهم حل مشكلة المعاناة أو الصدمة التي تؤدي إلى المرض.
وهناك بعض قصص النجاح الحقيقية. لا يمكن ربط كل الحالات بحدث معين، إلا أن كاميلا أدركت أن النوبات التي كانت تصيبها ربما كانت مرتبطة بوفاة ابنها الصغير، مما وضعها على طريق الشفاء.
في الوقت ذاته، بدا أن إيفون كانت تكافح من أجل إحداث توازن بين ضغط العمل والأطفال وزوج متعجرف، وعندما تعلمت التعامل مع تلك الاضطرابات، عاد إليها بصرها تدريجيا.
ويمكن أيضا لمرضى الشلل أو التشنجات العضلية الاستجابة بشكل جيد للعلاج الطبيعي. تقول أوسوليفان: "إنهم بحاجة إلى تعلم كيفية استخدام أرجلهم من جديد، وهو ما يكون أمرا شاقا. وبالنسبة لنوبات الصرع بشكل خاص، فإن الانتكاسة أمر شائع، لذا يتعين علينا تقديم الدعم والطمأنينة بشكل مستمر".
تقول أوسوليفان إن معدل الخطأ في التشخيص يعد واحدا من أكبر هواجسها ـ لأن الأطباء يتغاضون عن الأصل النفسي لهذه الأمراض، وبدلا من ذلك يعمدون إلى وصف الأدوية للمرضى أو حتى إدخالهم المستشفى لإجراء عمليات جراحية ضارة. وتقول إن هذا قد ينبع من خوف الطبيب بشكل أو بآخر، إذ يبدو أن إغفال السبب الجسدي للمرض أكثر خطورة من إغفال السبب النفسي ـ ولكن مقدار الضرر قد يكون متساويا.
تقول أوسوليفان: "الأشخاص الذين قيل لهم إنهم يعانون من الصرع - توصف لهم أدوية سامة يتناولونها لمدة عامين على الأقل، قبل أن يقتنعوا بأنها لن تأتي بأي نتيجة".
ومع مرور الوقت، تتحول حالة الصرع إلى جزء من حياة المريض- فقد أبلغوا أصدقاءهم وعائلاتهم ورؤساءهم بإصابتهم بهذا المرض، مما يجعل أمر تقبل التشخيص الجديد أكثر صعوبة.
وتضيف أوسوليفان: "يصبح المريض أكثر تشبثا بتناول الأدوية من خلال اعتقاده واعتقاد الطبيب بأنها ستكون مفيدة. يحصل الشخص على علاج ليس بحاجة آليه ولمرض لا يعاني منه، ويحرم من العلاج الذي يحتاجه-إذ لا يتم تحويله إلى أخصائي في علاج السلوك المعرفي أو في العلاج الطبيعي أو طبيب نفسي".
وترغب أوسوليفان، ربما بإيحاء من لقائها بإيفون في بداية مسيرتها المهنية، في رفع مستوى الوعي بالأمراض النفسية في المراحل المبكرة من تدريب الأطباء.
وتقول: "أشعر بأنه يتعين البدء بهذا التدريب في وقت مبكر من دراسة الطب. فلا بد أنني التقيت بهؤلاء المرضى ألاف المرات ولكنني لا أذكر أنني أبلغت بكيفية مساعدتهم".
وفي الوقت الراهن، تأمل أوسوليفان في أن يثير كتابها ذلك النقاش على الأقل. وحتى الآن، وجدت بالفعل أن عددا قليلا من المرضى أصبح أكثر تقبلا للتشخيص وأقل خوفا من الوصمة المرتبطة به. وتقول: "أتطلع لأن يكون موضوع نقاش وأن يصبح الناس أقل خجلا إزاءه".
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future .