لايف ستايل

"لاءات أربع" تزعزع التقاليد

ماذا لو قرّرت النساء الإضراب عن الجنس؟

ماذا يعني أن تقول النساء "لا"؟
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

أصرّت خوارزمية تيك توك، في الأشهر الماضية، وخلال تصفّحي لوجبات طبخ رائجة لن أجرّبها، على عرض مداخلات لمعلّقات نسويات من جنسيات مختلفة، يتحدّثن عن حراك في كوريا الجنوبية اسمه "اللاءات الأربع" أو 4B (فور بي - لفظة بي Bi باللغة الكورية تستخدم بمعنى لا أو ضد).

و"اللاءات الأربع" هي اختصار للامتناع عن ممارسة الجنس مع رجال، وعن المواعدة، وعن الزواج، وعن الإنجاب.

في البداية، ظننتُها موضة كورية أخرى، مثل موجة الكي - بوب التي فرضت سطوة ثقافية حول العالم، من الصعب تجاهلها. لكن بعد البحث والمتابعة، اكتشفتُ أن مسألة "فور بي" تلك، أبعد من حصرها في إطار مقاطعة العلاقات.

كوريا الجنوبية أمام خطر انخفاض السكان إلى النصف، ونساؤها لا يرغبن بالإنجاب#لا_عذر: كيف يبدو وضع المرأة العربية في اليوم العالمي للقضاء على العنف؟ ما هي حركة "فور بي"؟

تتبنّى النساء الفاعلات في هذه الحركة خيارات جذريّة للتعبير عن رفضهنّ للبنى الاجتماعية في كوريا الجنوبية، ولحماية أنفسهنّ من تبعات الأدوار الجندريّة التمييزيّة الراسخة.

تقول مُؤسِّسة مبادرة "ذا سكس توك بالعربي" والحائزة على دكتوراه في العلوم السياسية النسوية فاطمة إبراهيم إن "حركة "فور بي" ليست مجرد إضراب عن الجنس، إذ أن هدفها أوسع، وهو عزل الرجال اجتماعياً ورفض الأدوار غير العادلة التي تُلقى على كاهل النساء".

وتضيف: "عند ارتباط النساء بالرجال، غالباً ما يتحمّلن أدواراً منزلية ورعائية غير معترف بأهميتها وغير مدفوعة الأجر، تحت ذريعة شعارات مثل "نحن مرتبطان" أو "نحن متزوجان" أو "لدينا أطفال معاً". وتشمل هذه الأدوار أيضاً العمل والجهد العاطفي في العلاقة، إذ تتحوّل المرأة غالباً إلى معالِجة نفسية للشريك، أو حتى تلعب دور الأم".

وتضيف فاطمة: "النظام الأبوي يعتمد بشكل أساسي على الأدوار النسائية غير المدفوعة، وإذا توقفت النساء عن تأديتها، سيواجه الرجال والمؤسسات المستفيدة من هذا النظام ضغوطاً كبيرة".

Getty Images

اكتسبت "فور بي" زخماً في أواخر العقد الماضي، لكنّها جذبت الانتباه على مواقع التواصل حديثاً، مع تحميلها جزءاً من مسؤولية المساهمة في انخفاض معدّلات الولادة في كوريا الجنوبية &- التي تعدّ بالأساس الأدنى عالمياً، إذ بلغت في أوائل عام 2024 حوالي 0.72 طفلاً لكل امرأة.

وتتخذ الحكومة الكورية الجنوبية تدابير لمعالجة تلك الأزمة، منها تقديم دعم مالي للعائلات، واعتماد خطط وبرامج تساعد على تحقيق توازن أكبر بين المهنة والحياة الشخصية، وتحفيز النساء على الزواج والإنجاب من خلال سياسات توصف بأنها تشكّل ضغطاً إضافياً عليهنّ، بدلاً من معالجة جذر المشكلة، المتمثّل بهوّة التمييز الجندري الشاسعة.

ففي كوريا الجنوبية، تتقاضى النساء رواتب أقلّ بكثير من الرجال (فجوة أجور تبلغ 32 بالمئة)، ويُتوقّع منهنّ القيام بمعظم الأعمال المنزلية والرعائية، إضافة إلى تصاعد نسب العنف المنزلي. لهذه الأسباب كلّها، تختار نساء كثيرات البقاء عازبات هرباً من أعباء لا تناسبهنّ.

ما مناسبة الحديث عن حركة "فور بي" الآن؟

مناسبة الطفرة في الحديث عن حركة "فور بي" ظهور دعوات لتطبيقها في الولايات المتحدة بعد فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية.

وعُرِف عن ترامب منذ ولايته الأولى تبنيه أجندة لإسقاط مكتسبات في مجال حقوق النساء والمساواة الجندرية، وخصوصاً العدالة الإنجابية.

وبدأت الصحف الأمريكية تتساءل عن إمكانية تطبيق التجربة الكورية في الولايات المتحدة، في ظلّ الانقسام الحاد حول قضايا مثل الإجهاض، والهوية الجندرية، وغيرها.

تقول محامية حقوق الإنسان، ومديرة العمل الجماعي في منظمة "وومن دليفر" باولا سلوان ضاهر، إن هذه الدعوات تأتي "كردّ فعل على التراجع الكبير في الحقوق الجنسية والإنجابية، وللرد على تصاعد الخطابات الأبوية التي تُنكر على النساء حقهن في امتلاك أجسادهن. ففور انتخاب ترامب، ظهرت شعارات مقلقة مثل "جسدُك، خياري"، ما يعكس تراجعاً ملحوظاً في حقوق النساء، لا سيما في دول الشمال العالمي، على وقع صعود تيارات رجعية تسعى لتقييد الحقوق الإنجابية".

Getty Images

وكان بعض مناصري ترامب أطلقوا على منصة "أكس" (تويتر سابقاً)، بعد انتخابه، حملة بعنوان "جسدكِ، خياري"، ردّاً على شعار "جسدي، خياري" المرتبط بحقوق النساء الإنجابية ومنها الإجهاض.

كما انتشر شعار "عودي إلى المطبخ"، الذي يروّجه تيار يؤمن بتفوّق الذكور ويتأثر شخصيات مثل أندرو تيت.

وكانت مواقف ترامب في ما يتعلّق بحقوق النساء، ومنذ حملته الرئاسية الأولى عام 2016، قد مهدت لمسيرة النساء الضخمة في 21 يناير/كانون الثاني 2017.

واليوم، بعد فوزه مجدداً، عادت الدعوات للاحتجاج، مع حالة من التشاؤم بين النساء اللواتي لم يصوّتن لترامب، والتيارات الحقوقية النسوية، بعد انحسار زخم حراكات مثل "أنا أيضاً"، رغم ما حققته من مكتسبات.

"الشخصي سياسي"

تتبنّى الحركات والتيارات النسوية منذ عقود، شعار "الشخصي سياسي"، إذ يرفع في مسيرات المطالبة بحقوق النساء، كما يستخدم في حملات مناهضة العنف الأسري وغيرها من القضايا النسوية.

ومنذ بداية استخدامه في سبعينيات القرن الماضي، يُفسّر الشعار بطرق متعدّدة، أبرزها أن النساء وإن كنّ يختبرن، كأفراد، العنف والتمييز في حيواتهنّ الشخصية ومساحاتهنّ الخاصّة، إلا أن تلك المواقف هي في الواقع مشتركة متشابهة ومتقاطعة، نتيجة للتمييز السياسي والاجتماعي الممنهج والعام.

فهل يمكن اعتبار الإضراب عن الجنس وسيلة لنيل الحقوق، أم أنه تعزيز لمفاهيم أبويّة تحصر النساء بأدوار جنسيّة وإنجابية؟

تقول فاطمة إبراهيم: "لا أرى أن الإضراب عن الجنس يعزز المفاهيم الأبويّة، بل العكس. الجنس، سواء رضيت به النساء أم فُرض عليهن، كان ولا يزال يُستخدم كسلاح ضدهن، عبر التاريخ وحتى يومنا. فالنساء يواجهن الوصم الاجتماعي بغض النظر عن مواقفهن أو اختياراتهن المتعلّقة بالجنس، وسواء مارسنه أم لم يمارسنه".

قد يبدو الحديث عن دعوات للإضراب عن الجنس غريباً بالنسبة للبعض، لكن هذه الوسيلة أثبتت نجاحها في بعض السياقات، كما تخبرنا باولا سلوان ضاهر.

تقول: "قد تفسّر الإضرابات عن الجنس أنها تختزل النساء إلى مجرد أدوات جنسية، ولكن يمكن النظر إليها من زاوية أخرى باعتبارها وسيلة لاستعادة السيادة على أجسادهنّ".

وتتابع: "تاريخياً، شكّلت الإضرابات عن الجنس وسيلة استخدمتها النساء كأداة للعمل الجماعي لتحقيق مطالبهن، مثل ضمان توقيع معاهدات السلام أو الحدّ من موجات العنف السياسي. ولم تكن هذه الإضرابات هدفاً بحد ذاتها، بل وسيلة من الوسائل. لهذا، من الضروري التركيز على أهميّة الطابع الجماعي فيها، إذ أنها لم تكن خياراً فردياً بل تحركاً جماعياً يهدف لتحقيق تغيير أوسع".

تلفت باولا هنا إلى أن حركة "فور بي" في كوريا الجنوبية، "ليست حركة تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بالمعنى الشامل، وإنما تركز على تمكين النساء في مساحاتهن الفردية بدون تقديم رؤية متكاملة، ولا تقدّم آلية فعّالة لتحويل القوة الجماعية إلى تغيير جذري ومستدام".

Getty Images الليبيرية الحائزة على نوبل السلام ليما غبوي

وشهدت دول عدّة في التاريخ الحديث، تحرّكات جماعية تحت عناوين الإضراب عن الجنس، بهدف تحقيق مطالب سياسية أو اجتماعية:

- ليبيريا: في عام 2003، نظمت ليما غبوي ونساء "حركة العمل الجماعي من أجل السلام" في ليبيريا احتجاجات سلمية، تضمنت الدعوة لإضراب عن الجنس، مما ساهم في إنهاء الحرب الأهلية التي استمرت 14 عاماً. وحصلت غبوي على جائزة نوبل للسلام عام 2011 تقديراً لدورها.

- كينيا: في عام 2009، نظمت ناشطات كينيات إضراباً استمر سبعة أيام، بمشاركة زوجتي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، للضغط على القادة لحل خلافاتهم والتركيز على قضايا مثل الفساد والفقر. انتهى الإضراب بجلسة صلاة ودعاء مشتركة تعهّد خلالها السياسيون بالتوصل إلى تسوية.

- كولومبيا: في عام 2006، أطلقت نساء في مدينة بيرييرا الكولومبية إضراباً عن الجنس لمكافحة العنف بين العصابات. عام 2010، سجّلت البلاد انخفاضاً بمعدل جرائم القتل بنحو 26.5 بالمئة. وفي عام 2011، نظّمت نساء في بلدة بارباكواس إضراباً للمطالبة بإصلاح الطرق، وانتهى بعد 112 يوماً عندما التزمت الحكومة بالشروع في أعمال البناء.

من شهرزاد إلى أثينا

النقاش حول أجساد النساء كساحة لصراعات سياسية وإيديولجية، وكوسيلة للتفاوض على حقوق ومكتسبات، قديم ويتجدّد في كلّ مرّة، وقد شكّل محوراً لأعمال أدبيّة وفنيّة كثيرة، منها ما تطرّق للإضراب عن الجنس، أو لوسائل و"حِيَل" مماثلة، استخدمتها شخصيات نسائية لنيل غاياتهنّ.

شهرزاد، الحكواتية الأولى، استدرجت شهريار بالحكاية طيلة ألف ليلة وليلة، لتنقذ نفسها من القتل المحتّم. أنجب بطلا الملحمة الشعبية الشهيرة أولاداً كما يخبرنا الكتاب، ما يعني أن شهرزاد لم تُضرب عن الجنس، بل استخدمت حيلتها وذكاءها كأداة تطويع للبطش، وحوّلت موازين القوة لصالحها، عبر إحداث تغيير في عقل المتلقّي وهو زوجها الحاكم.

تتداخل في شخصية شهرزاد الحدود بين الحميم والمعلن، بين الخاص والعام، بين الشخصي والسياسي، وكلها حدود أُجبرت النساء على مرّ التاريخ على تطويعها لاكتساب حقوق أساسيّة، وزعزعة المنظومة، وإعادة تشكيل السلطة، وكسر دورات العنف، وحفر مساحة لهنّ في المجتمع.

تدور مجريات حيلة شهرزاد الشهيرة، في الحيّز الخاص، "مملكة النساء"، حيث "مكانهنّ الطبيعي"، لكن تأثيرها يطال الحيّز العام، حيث عالم القوّة والحكم والسياسة، مملكة زوجها أو مكان "الرجال الطبيعي". فمن خلال الصفح عن زوجته، يتصالح شهريار مع كلّ النساء في المملكة.

تيمة الإضراب عن الجنس، وثورة النساء على أدوارهنّ المرسومة في الحيّز الخاص، بهدف إحداث تغيير عام، نجدها أيضاً في مسرحية "إضراب النساء/ لِيسِسترَاتا" التي كتبها الكاتب الإغريقي أرسطفان وعُرضت لأول مرة عام 411 قبل الميلاد.

بطلة الكوميديا الساخرة امرأة أثينية اسمها لِيسِسترَاتا (يعني الاسم حرفياً المرأة التي تسرّح الجنود من الخدمة)، تحرّض النساء للإضراب عن الجنس، من أجل إيقاف الحرب بين أثينا وإسبرطة. وتحثّ البطلة رفيقاتها على التمرّد، لأنهنّ أكثر المتضرّرات من الحرب وإن لم يكن لهنّ خيار فيها، إذ يخسرن أزواجهنّ، وأولادهنّ، ويمضين شبابهنّ وحيدات بانتظار عودة المحاربين.

تنضمّ النساء لدعوتها، ويتجمعن في مبنى الأكروبوليس في أثينا، ويستولين على خزائن الدولة. تتضمن المسرحية حوارات تسخر من النظم الاجتماعية في أثينا القديمة، ومن الأدوار الموكلة للنساء والرجال، ومن تحييد النساء عن الشأن العام بالرغم من أنهنّ، كما يكتب أرسطفان، الأنفع لإدارته إن استلهمن طرقهنّ المبدعة في إدارة شؤون منازلهنّ.

صحيح أن تلك المسرحية عرضت قبل أكثر من 2400 عام، إلا أن مواضيعها، للمفارقة، بقيت راهنة على مرّ العصور وصولاً إلى يومنا. لذلك استعيدت بنسخ عدّة، منها فيلم "البنات" (1968) وفيه تعمل ثلاث ممثلات شهيرات على تحضير نسخة معاصرة من مسرحية أرسطفان. ومن أحدث التأويلات فيلم "شي راك" (2016) لسبايك لي ويدور على خلفية حروب العصابات في مدينة شيكاغو الأمريكية.

هناك أيضاً فيلم "عين النسا" (2011) الذي تدور أحداثه في قرية مغربية نائية، تضرب فيها النساء عن الجنس لأن الرجال لا يقومون بأي دور مفيد لمساعدتهنّ في الأعباء الحياتية اليومية.

في الفيلم كما في مسرحية أرسطفان، ينجح الإضراب، وتنال النساء مطالبهنّ. لكن، هل بإمكان إضراب مماثل أن ينجح في وقتنا وظرفنا الراهن؟

تقول باولا سلوان ضاهر إن من "أبرز الانتقادات الموجهة إلى الإضرابات عن الجنس أنها تعدّ "ترفاً" لا يمكن لجميع النساء ممارسته، خصوصاً اللواتي يعشن في بيئات عنف أو في علاقات مسيئة، ما يجعلها وسيلة لا يمكن أن تشمل كلّ النساء على اختلاف ظروفهنّ".

وذلك ما تشير إليه فاطمة إبراهيم، عند سؤالها حول إمكانية تطبيق تحرّك مماثل في منطقتنا العربية. تقول: "قد يكون ذلك أمراً معقداً بسبب العوائق الاجتماعية والدينية والاقتصادية. فالخطاب الديني في مجتمعاتنا يلعب دوراً مهيمناً في تأطير العلاقات الحميمية والأسرية، ويُنظر إلى امتناع الزوجة عن الجنس على أنه من الأمور المرفوضة. إضافة إلى ذلك، تعتمد العديد من النساء اقتصادياً على أزواجهن، ولا يكون لديهنّ مصادر أخرى لتأمين معيشتهنّ، مما يجعل خيار الإضراب غير واقعيّ بالنسبة لهنّ".

ما الذي يجعل بعض الدول أكثر استعدادا لفوز امرأة بمنصب الرئيس؟كيف يؤثر حظر الإجهاض على سلامة النساء؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف