أعلنت عليها مارغريت ثاتشر حربًا ضروسًا
أن تدير بي بي سي أي أن تصاب بمرض القلب!
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لندن: في 29 كانون الثاني (يناير) 1987، أُقصي مدير عام هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) السير ميلن بكل هدوء، بقرار من رئيس مجلس المحافظين مارماديوك هاسي، خلال فترة الاستراحة بين اجتماع المجلس وغداء اعضائه.&&"لقد طردوني"تتذكر روس سلوبودا، مساعدة ميلن الشخصية، أنه أبلغها بأن رئيس مجلس المحافظين استدعاه إلى مكتبه، وسيغادر بعد اللقاء لتناول الغداء ثم يعود لاصطحابها، إلى مبنى بي بي سي. لكن بعد دقيقة، بالمعنى الحرفي لكلمة دقيقة كما تتذكر سلوبودا، عاد ميلن ليقول: "لقد طردوني". وحين ردت قائلة: "لا تكن غبيا"، قال: "أنا لا أتغابى، لقد طردوني، وحملوني على توقيع قصاصة من الورق تقول إني قدمت استقالتي لأسباب شخصية، قالوا لي إذا لم أضع توقيعي على القصاصة فإن ذلك سيضر بمعاشي التقاعدي من بي بي سي، وأنا ذاهب إلى البيت الآن". وأخذ حقيبته وغادر.&وبعد مغادرة ميلن، دخلت سلوبودا مذهولة الى الغرفة حيث كان المدراء والمحافظون يستعدون لتناول الغداء. وتتذكر سلوبودا أن رئيس المجلس قرأ عليهم بيانًا مقتضبًا عن رحيل ميلن، لكن لا أحد من الحاضرين، مدراء ومحافظين، كلف نفسه أن يسأل عن الاستقالة وطبيعة الأسباب الشخصية التي ذُكرت عرضًا، بل كانوا جميعهم يتحدثون عن الأماكن التي سيقضون فيها اجازاتهم.&&الطريقة الانكليزيةتوقفت سلوبودا عن الحديث لصحيفة غارديان وكأنها تبحث عن الكلمة المناسبة في وصف الواقعة، ثم خلصت إلى القول بتهكم: "انها الطريقة الانكليزية". وتوفي ميلن، الذي كان المدير العام لبي بي سي من 1982 إلى 1987، العام الماضي، ولم يتمكن قط من التغلب على آثار الطريقة التي أُعدم بها مهنيًا.&كانت أسباب إعفاء ميلن أكبر بكثير من صراعاته مع مجلس المحافظين، كما كان يُسمى وقتذاك. فالتلفزيون والراديو كانا يمران بمرحلة ازدهار، وكانت خبرة الغالبية العظمى من مشاهدي بي بي سي ومستمعيها أغنى وأعمق من تلك الممارسات البغيضة التي روت سلوبودا وقائعها. ورغم ذلك، كانت تلك السنوات من أشد الفترات اضطرابًا في تاريخ بي بي سي. ففي تلك الفترة، رُفعت دعوى على بي بي سي بتهمة القذف والتشهير بسبب حلقة من برنامج بانوراما، ادَّعت أن حزب المحافظين مخترق بعناصر من اليمين المتطرف. وفي تلك السنوات دهم رجال الشعبة الخاصة في الشرطة البريطانية مقر بي بي سي في اسكتلندا، بعد التحقيق في منظومات "زيركون" للأقمار الاصطناعية التجسسية.&&عداوة وضغطكان هناك احساس متواصل بالعداوة والضغط على بي بي سي من جانب حكومة المحافظين، التي كان فيها وزراء يلحون على خصخصة هذه المؤسسة العريقة. وكانت هناك علاقة ميلن المسمومة مع مجلس المحافظين، وكان رئيس المجلس هاسي قد عُين في العام 1986، بموافقة من ثاتشر نفسها، للجم بي بي سي. وفي عهد هاسي خُير ميلن بين الاستقالة والاقالة.&كل هذا يشير إلى أن بي بي سي ساحة حرب، يمكن أن تكون دموية تتناثر فيها ما خربته من بيوت وأشلاء من دمرتهم مهنيًا من أشخاص. وعلى هذه الساحة، كان البريطانيون يحتشدون لخوض حروبهم الثقافية الضارية. وكانت علاقة بي بي سي الخاصة بالحكومات، من خلال كونها مؤسسة ممولة بتوافق سياسي ومستقلة أو تسعى إلى أن تكون في عملها الصحافي، تعني وقوعها أسيرة ديناميكيات السلطة العليا أكثر من أي محطة بث أخرى.وكانت بي بي سي مؤسسة دائمًا تتقاذفها المآزق، مؤسسة تسري الأزمات في نخاعها، منذ العام 1926 حين خرجت سالمة من معركة شرسة مع تشرشل حول تغطيتها الاضراب العام في تلك السنة. وقبل عشرة اعوام، استقال مديرها العام غريغ دايك ورئيس مجلس ادارتها غافين ديفيز، بعد المعركة التي اندلعت بشأن ما قيل في برنامج "توداي" الذي يتناول شؤون الساعة، من أن الحكومة تعمدت المبالغة في تهويل الخطر الذي تشكله أسلحة صدام حسين خلال الفترة التي سبقت حرب العام 2003. وكانت تلك أزمة سحقت مصدر هذا الاتهام وهو الخبير بالاسلحة البيولوجية الدكتور ديفيد كيلي الذي انتحر بسببها.&&حرب ثاتشروقبل ذلك، عرف صحافي من صاندي تايمز، أن قناة بي بي سي التلفزيونية ستبث فيلمًا وثائقيًا يظهر فيه القيادي في الحركة القومية الايرلندية مارتن ماكغنيز، فسأل الصحافي ثاتشر خلال مؤتمر صحفي كيف سيكون رد فعلها إذا بث تلفزيون بي بي سي مقابلة مع قيادي في منظمة الجيش الجمهوري الايرلندي. فجاء ردها عنيفًا بمثابة اعلان حرب على بي بي سي. وبعث وزير الداخلية ليون بريتن رسالة شديدة اللهجة إلى المؤسسة، يعلن أن المقابلة يجب ألا تبث، رغم انه بالطبع لم يعرف ما دار فيها. واتهم بريتن قناة بي بي سي التلفزيونية بتوفير منبر "لمن هم مستعدون وعازمون على قتل مشاهديها أنفسهم".وحين قرر اعضاء مجلس المحافظين أن البرنامج يجب ألا يُبث دفعوا بقرارهم صحافيي بي بي سي إلى اعلان تمرد سافر والدعوة إلى الاضراب.ويكتب مدير البرامج وقتذاك مايكل غرايد في مذكراته: "شعرنا بأن الأشخاص الذين عُينوا لحماية استقلالنا غدروا بنا، واستسلموا لمحاولة مفضوحة قامت بها حكومة ثاتشر لفرض الرقابة على بي بي سي".&&فضائح متراكمةرغم الحملة الشعواء على بي بي سي بقيادة ثاتشر نفسها، بُث الفيلم الوثائقي مع اجراء تغييرات طفيفة، ولم يُبث مرة اخرى. وما زالت بي بي سي ترى أن الفيلم مادة حساسة بحيث لم يُسمح لها بعرضه إلا بحضور مراقب في مكتب سياسة التحرير.&لكن ما مرت به بي بي سي في عهد أقرب أثار تساؤلات عما إذا كانت التحديات التي تواجه المؤسسة اليوم أخطر من الأزمات التي صمدت بوجهها في الأيام السوداء لمنتصف عقد الثمانينات. فإن فضيحتي نجم بي بي سي، الراحل جيمي سافيل المتهم بارتكاب اعتداءات جنسية ثم تسرع برنامج نيوز نايت إلى اتهام اللورد ماكلباين بالتحرش جنسيًا بأطفال وسقوط المدير العام للمؤسسة جورج انتويسل تحت وطأة الفضيحتين، ما زالتا تؤرقان المؤسسة، وما زالت تداعياتهما تتلاحق على أكثر من مستوى. ولا شك في أن معلومات جديدة ستُعلن حين تُنشر نتائج التحقيق المستقل في ثقافة بي بي سي وممارساتها خلال سنوات عمل سافيل فيها. وستكون هذه المعلومات مادة دسمة بيد اعداء بي بي سي، إذ كانت علاقات سافيل تشمل مفاصل حيوية في الدولة والحكومة، بما في ذلك صداقته مع الأميرة ديانا وتردده على المقر الريفي لرئيس الوزراء البريطاني وفتح ابواب المستشفيات على مصاريعها لزياراته.&لكن كثيرين سيتفقون مع مارك داميزر، النائب السابق لمدير الاخبار في بي بي سي، بأن على بي بي سي أن تتحمل قسطًا ثقيلًا من المسؤولية، لأنها كانت المصدر الرئيسي لشهرة سافيل.&إيقاع إخباريهناك من يخشون أن تكون تداعيات فضيحة سافيل أخطر من كل الأزمات التي مرت بها بي بي سي. فإن الفضيحة تؤثر تأثيرًا مباشرًا على العلاقة بين بي بي سي ومشاهديها ومستمعيها. ويبقى هناك احساس بأن هذا المنحرف تمكَّن من بلوغ مآربه واصطياد ضحاياه بمساعدة من بي بي سي، موضع ثقة البريطانيين.&وتغير الكثير منذ عقد الثمانينات، إذ تسارع ايقاع بث الاخبار وأصبحت تُنقل على مدار الساعة. واصبحت بيوت مسؤولين في بي بي سي لهم ضلع مباشر في فضيحتي سافيل واللورد ماكلباين، مطوقة بالصحافيين والكاميرات، يُطعمون وحشًا نهمًا تربى على أيديهم. وهناك تويتر الأشبه بالغرفة التي يتردد الصدى بين جدرانها. فمن كوارث فضيحة ماكلباين أن تغريدات بدأت تظهر حتى قبل بث التقرير الذي اتهمه بالتحرش بالأطفال، لتثير التكهنات بأن اللورد هو الشخصية العامة التي اتهمها ستيفن ميسهام خطأ بالتحرش به في طفولته.هذه المرة أُسقط انتسويل على يد الصحافي جون همفريز حين استضافه في برنامج "توداي" الذي يقدمه على بي بي سي. وحدث ذلك بعد يومين على تقرير في صحيفة غارديان أكد أن ميسهام اخطأ في الظن بأن اللورد ماكلباين هو من تحرش به جنسيًا في طفولته.&
تلعثم!استمرت المقابلة 15 دقيقة من العذاب، وانتهت حين فقد انتسويل السيطرة على لغته وبدأ يتلعثم ويكرر الكلمات نفسها، محاولًا ايجاد مفردات أخرى. لكن لسانه خانه، وقال: "إذا كانوا لا يشعرون بأني افعل ال، ال، ال، الشيء الصحيح فمن الواضح اني سا، سا، سألتزم بحكمهم" في اشارة إلى الاقالة التي كان يتوقعها من ادارة بي بي سي. &من طبيعة ازمات بي بي سي أن تتصاعد بسرعة لتضع اساس عملها ذاته موضع تساؤل. ويرى بعض اعداء المؤسسة أن إضعاف الأساس بهذه الأزمات يمكن أن يؤدي إلى انهيار الصرح بأكمله على نحو أسرع. ففي العام 2008، مر اسبوعان فقط على بث صوت الكوميدي راسل براند، مدعيًا أنه ضاجع حفيدة الممثل اندرو ساكس، حين انبرى ديفيد كاميرون زعيم المعارضة وقتذاك لتحويل الواقعة إلى سجال حول غياب الضوابط في بي بي سي، واتهام المؤسسة بـأنها تسحق المنافسة التجارية. واللافت انه كتب ذلك في صحيفة ذي صن التي يملكها روبرت مردوك.&وكانت ادارة بي بي سي تاريخيًا تعمل على النحو الآتي: "منذ العام 1927 عندما اصبحت مصلحة عامة كانت مؤسسة بي بي سي مسؤولة امام 12 عضوًا مستقلًا في مجلس ادارة أو مجلس محافظين، برئيس يمثل على ما يُفترض مصالح الجمهور، ويكون هو من يعين المدير العام ويقرر استراتيجية المؤسسة". لكن بعد تقرير هاتون عن انتحار العالم ديفيد كيلي في العام 2007، تقرر الاستعاضة عن مجلس المحافظين بالهيئة المؤلفة من مجلس امناء.&
شوكة في جنبهابحسب اللورد غرايد رئيس مجلس المحافظين الذي حدد شكل بي بي سي تراست، فإن "ما كان يجري قبل ذلك لم يكن مُرضيًا بالمرة، لأن كل المعلومات التي يحتاجها المحافظون لاتخاذ قراراتهم كانت تأتي من الادارة مُحررة ومُعدة ومحوَّرة. ولم تكن لديهم وسيلة للحصول على المعلومات بأنفسهم، ولهذا السبب كانت جميع القرارات الاستثمارية تسبب قدرًا كبيرًا من الشك بأن الادارة تحاول تضليلهم. وكانت الادارة تشعر أن المحافظين شوكة في جنبها، وكان هناك الكثير من الاحتكاك والنزاع، لذا شرعتُ في العمل من اجل الفصل بينهما".&لكن السؤال المطروح الآن هو ما إذا كانت المسافة الفاصلة بين التراست والادارة التنفيذية هي المسافة الصحيحة. وهل أن التراست التي تعمل من مبنى منفصل عن بي بي سي ولديها كادرها وميزانيتها، قريبة من بي بي سي وبعيدة عنها في آن واحد؟ وهل يجوز أن يكون شخص واحد هو الرئيس، راعيًا ورقيبًا على بي بي سي في وقت واحد؟&وكما هو متوقع، فإن للهيكل الجديد ايضا منتقديه. وفي هذا الشأن، قال السير كريستوفر بلاند، رئيس مجلس ادارة بي بي سي من 1996 إلى 2001 لصحيفة غارديان أن نموذج التراست الذي اعتمده اللورد غرايد "نموذج غير عملي لأن المطلوب من التراست أن تكون منفصلة ومتميزة عن بي بي سي نفسها وان الرئيس يُسمى رئيس بي بي سي ولكنه بالطبع ليس رئيسها. فهو رئيس التراست، يجلس في مبنى منفصل، ولديه موظفوه ولا يشارك في صنع القرارات اليومية إلا على اساس المراجعة بعد اتخاذها. هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى فانه عندما تحدث اخطاء تُلام التراست على افعال هي مسؤولية الادارة التنفيذية".&&ادارتها صعبةاللورد كريس باتن، الذي استقال من رئاسة مجلس امناء بي بي سي تراست لأسباب صحية، يقر بأن هناك مصاعب في فهم دور التراست ولكنه يدافع عن المبدأ. وقال باتن لصحيفة غارديان قبل استقالته: "ان احدى وظائفنا هي بالطبع أن نحمي استقلال بي بي سي وندافع عن حرمتها، وان نتوقع من بي بي سي أن تفاجئنا دائمًا بطريقتها في تنفيذ التزامها الوطني بوصفها جزءًا من مفهوم الانسانية المدنية لهذا البلد. وبقدر نجاح بي بي سي في ذلك علينا أن نحييها كما اظن، لكن عندما تقصِّر علينا أن نقول انها قصَّرت".&وحين سُئل باتن أن شعر ذات يوم بضغط مباشر من الحكومة أجاب انه لم يكن هناك أي ضغط تقريبا، "لكنني فوجئت بالعداء الكاسح في الصحافة، فحين تأتي جريدة وتقول إن نص الحلقة الأخيرة من مسلسل شرلوك هولمز تبين أن بي بي سي مؤامرة يسارية تشعر بالاختناق، وحين ترى صحفًا تغطي فضيحة بي بي سي تغطية تزيد خمس أو ست مرات على تغطيتها لما يفعله الرئيس الأسد في سوريا، فإن هذا يجعلك تصرخ".&وعن الصعوبة التي لاقاها في ادارة بي بي سي، قال اللورد باتن: "كانت ادارتها اصعب عشر مرات مما كنتُ أظن وأبديتُ موافقتي على تولي المهمة لأني اعتقد انها مؤسسة وطنية عظيمة، وجزء مهم من ثقافتنا، لأن علاقة رومانسية تشدني بالأشياء التي قدمتها بي بي سي في أحسن احوالها".&ولا يسع المرء إلا أن يتساءل بعد أن أصبحت اصابة اللورد باتن بمرض القلب شأنًا عامًا عن مسؤولية المصاعب التي واجهها في رئاسة بي بي سي تراست عن انهيار صحته. فهو نهض بالمهمة مدفوعًا بتعلق رومانسي بالفضائل المجتمعية لبي بي سي، وليس بدافع من أي رغبة للقتال في ساحة حرب ثقافية. وحين جرت مقابلة باتن في مكتبه بدا منهكًا وبائسًا ووحيدًا.&&
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف