مرصد حرية الصحافة لمحاسبة منتهكي أخلاقيات المهنة
التسييس طغى على سجال "اللوائح السوداء" في تونس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لم تكن نوايا من لوّح بإصدار قائمات بأسماء الصحافيين الموالين للديكتاتورية في تونس وملاحقتهم قضائيا، طيّبة في مجملها. فالموضوع كان مُسيسًا ويهدف إلى الابتزاز وتركيع الصحافة حسب تقرير صدر اليوم.
إسماعيل دبارة من تونس: خلصت دراسة أعدها مركز تونس لحرية الصحافة (منظمة مستقلة تُعنى بحرية التعبير) إلى أنّ السجال الذي عاشت على وقعه تونس منذ رحيل نظام بن علي والمتعلّق بإصدار "لوائح سوداء" لصحافيين تعاونوا مع منظومة الفساد والاستبداد وانتهكوا أخلاقيات المهنة، اتخذ منحًى سياسيا في أغلب الأحيان واستعمل لغايات حزبية لاستهداف إعلاميين بعينهم.
لكنّ التقرير الذي أعدّته وحدة رصد الانتهاكات التي يديرها الإعلامي الفاهم بوكدوس، واطلعت "إيلاف" على نسخة منه، قال إنّ تلك الملاحظات والتحفظات لا يجب أن تكون حجة بأيّ حال من الأحوال لمنتهكي أخلاقيات المهنة للتنصل من تحمّل المسؤولية.
واستعرض التقرير السياق العام الذي ظهرت فيه فكرة (اللوائح السوداء) والمحاولات التي تم رصدها داخل نقابة الصحافيين لإصدار قائمة في الأسماء التي أخلّت بقواعد العمل الصحافي النزيه، كما تابع محاولات لمعاقبة صحافيين عرفوا بدعمهم للديكتاتورية. ورصد تعاطي الإعلام مع هذا الملفّ وموقف الأحزاب، والمنظمات التي تدافع عن حرية التعبير منه.
معالجة علمية
يقول الفاهم بوكدوس رئيس وحدة الرصد في مركز تونس لحرية الصحافة التي أعدت التقرير لـ"إيلاف": حاولنا طرح موضوع (اللوائح السوداء) ومعالجته بطريقة احترافية وعلمية، وركزنا في التقرير على أخلاقيات المهنة الصحافيّة وحريّة التعبير، عبر مساءلة الإطار التاريخي الذي ظهرت فيه فكرة اللوائح السوداء وتطورّت، والاستنجاد بالتجارب المقارنة ومواقف الخبراء في اتجاه النأي بالموضوع عن الجدالات السياسيّة الإنتقاميّة والإنتقائيّة، والتأسيس لممارسة أخلاقيّة حميدة لمهنة الصحافة دون المساس من الحقّ في إبداء الرأي والاختلاف اللذين تقوم عليهما".
حكاية اللوائح السوداء
مع هروب الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ارتفعت في تونس أصوات تنادي بنشر "لوائح سوداء" في قطاعات كثيرة من بينها الإعلام.
وطالب معارضون للنظام السابق، وشباب ثوري، وأحزاب، وجمعيات، بضرورة إصدار لوائح تكشف أسماء المتعاونين مع "البوليس السياسي" (جهاز الشرطة السرية) وأسماء القضاة المرتشين والصحافيين المهللين لنظام بن علي، والمحامين الفاسدين والفنانين الموالين للدكتاتورية...إلخ.
لكن قائمة الإعلاميين السوداء، حظيت بالاهتمام الأكبر في تونس، وعندما وصلت حركة النهضة الإسلامية إلى الحكم، ومع اشتداد الضغط الإعلامي والانتقاد تجاه أدائها، لوحت الحكومة في مناسبات كثيرة بنشر "قائمة سوداء" للصحافيين الموالين لبن علي وملاحقتهم قضائيا. لكنّ نشر القائمة تعطل وتأخر، قبل أن يُطوى الموضوع نهائيا.
وفي آخر العام 2013، فاجأت رئاسة الجمهورية في تونس الوسط الإعلامي بنشرها "كتابًا أسود" أعدته دائرة الإعلام والتواصل التابعة لرئاسة الجمهورية، تحت اسم "منظومة الدعاية لحكم بن علي" والذي تضمن قائمة اسمية في الصحافيين والإعلاميين المورَطين بالتعامل مع نظام بن علي.
وأبطل القضاء التونسي الشهر الحالي، إصدار الكتاب الأسود بعد سلسلة دعاوى رفعت ضد رئاسة الجمهورية.
وأثار "الكتاب الأسود" الذي أصدرته الرئاسة& وكشف تورط إعلاميين ورجال ثقافة ووسائل إعلام عربية، في التسويق لـ"نجاح الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنظام السابق وتلميع صورته في الداخل والخارج مقابل أموال تصرف بسخاء"، جدلا واسعا في الأوساط السياسية والحقوقية والمدنية.
وتباينت الآراء بخصوص نشر الأسماء، إذ اعتبر البعض الكتاب "غلطة سياسية كبرى"، و"تشويشا على مسار قانون العدالة الانتقالية"، و"اعتداء على القضاء التونسي" و"تصرفا فرديا في الأرشيف"، بينما رأى شق آخر "ضرورة إحالة ملفات الإعلاميين المتورطين على القضاء لكشف نفاق الإعلاميين والنخب".
المركز: الصحافيون ليسوا وحدهم مسؤولين
يخلص تقرير مركز تونس لحرية الصحافة إلى أنّ الصحافيين ليسوا وحدهم من يتحملون مسؤولية الانتهاكات التي حصلت في قطاع الاعلام، بل يجب تحميل النظام السياسي برمته المسؤولية.
وقال التقرير: "ظهور فكرة اللوائح السوداء للإعلاميين التونسيين كان أمرا طبيعيا في سياق الثورة التونسيّة ومتساوقا مع تطلعات التونسيين في بناء نموذج مجتمعي جديد يقطع مع كلّ الممارسات والآليات التي شرّعت للنظام السابق ودعّمته وأطالت من أنفاسه بما فيها تلك التي طغت على أغلب وسائل الإعلام ولعب فيها صحافيون ومؤسساتهم أدوارا متقدمة في تقوية شوكة الديكتاتورية والدفاع عنها وتزيين كلّ سياساتها الإجراميّة ومهاجمة مخالفيها في الرأي والتشنيع بهم& وتشويههم وتجريمهم ولو كان ذلك على حساب الولاء للمهنة الصحافيّة و أخلاقياتها".
يضيف التقرير: "طرح الموضوع خضع في أغلب الأحيان إلى الإكراهات السياسيّة واشتراطاتها، واستعمل لأهداف حينيّة و حزبيّة وبغرض استهداف إعلاميين بعينهم للتشفي منهم أو تحييدهم أو إستمالتهم في إطار الممارسات البائدة نفسها في استعمال الإعلام لغايات سلطويّة أو ماليّة".
كما تمّ الخلط فيه بين الملفات التي يمكن إخضاعها للقانون العادي أو لقانون العدالة الانتقالية، وبين تلك التي تتمّ فيها المساءلة الأخلاقيّة والسياسيّة.
وإن كان الموضوع لا يمكن أن يُطرح دون مساءلة النظام السياسي السابق برمّته وكذلك النموذج الإقتصادي للمؤسسات الإعلامية وأربابها ومديريها وطرق توزيع الإشهار العمومي بوصفها أركان إفساد الصحافة التونسيّة والحائل الرئيس دون قيام إعلام حرّ وتعددي وأخلاقي".
المذنبون يحاسبون
رغم التسييس الحاصل في موضوع (القائمات السوداء)، يؤكد مركز تونس لحرية الصحافة على وجوب تحمل المذنبين والمخلين بأخلاقيات المهنة لمسؤولياتهم.
يقول التقرير: "علمتنا التجربة أن السلطة السياسية أو الاقتصادية، مهما كانت عاتية أو مستبدّة لا تستطيع إكراه الصحافي على عمل لا يؤمن به و أقصى ما يمكن أن تكرهه عليه هو عدم الفعل. فإذا لم يتمكن الصحافي النّزيه من قول الحقيقة فإنه لا يشوهها أو يحرّفها".
مقترحات وتوصيات
ويقترح التقرير "مساءلة المخلين بالمهنة وإجراء عقوبات داخليّة في حقّهم وفق معايير شفافة وموضوعيّة". كما اقترح إنشاء موقع إلكتروني يوثّق المواد الإعلاميّة التي عرفت إخلالات جسيمة للمهنة طيلة الحقبة الديكتاتوريّة، والقيام بالدراسات الضروريّة في الصدد حتّى لا يترك الموضوع للمزايدة السياسيّة.
ويقول التقرير: "هذه الإجراءات الثلاثة التي يُرجى منها سدّ الباب أمام تواصل نفس الممارسات أو عودة ما إندثر منها، لا يجب أن تكون منفصلة عن مجال حماية أخلاقيات المهنة بوصفها مسارا يتحقّق بالتجربة ومع الزمن بما يتطلّبه من مراجعة مناهج التدريس في معهد الصحافة وعلوم الإخبار، وتأسيس مراصد مراقبة الأداء الإعلامي، ومنح الهيئة المستقلة للإتصال السمعي البصري كل صلاحياتها في المراقبة والتعديل والمعاقبة، والسهر على التدريب المستمر والإستراتيجي في أخلاقيات المهنة الصحفيّة، والتنويه بكلّ الممارسات الصحافيّة الحميدة، ومنح جوائز لكلّ المؤسسات الإعلاميّة والصحافيين الذين يتميزون بالنزاهة والموضوعيّة في منتوجاتهم الصحافيّة.