بعد افتتاح أكاديميته للفنون في جدة القديمة
التشكيلي هشام أحمد بنجابي يعشق الحداثة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إيلاف من جدة: منذ طفولته، لامس اللون الأبيض بمساحاته الشاسعة شغف قلبه، وحاور أطراف أنامله الصغيرة حينما أمسك ألوانا لم يفهم منها سوى انعكاس يبعث الفرح في داخل عينه الصغيرة. فلم يكن حينها يتجاوز هشام بنجابي الفنان التشكيلي السعودي عمر السنتين.
حكايته قصة بذاتها، فيها كثير من المفاصل أوردها بسلاسة جميلة كاستقباله الودود داخل مكتبه الخاص في قلب جدة التاريخية.
خرابيش ملونة
في عمر السنتين، انتقل الطفل هشام أحمد بنجابي مع والدته للعيش في مصر العريقة، لتحمل جدران منزله قصص شقاوته مع أقلامه التي ما ينفك يراها إلا وجميعها تصبح حاملة توقيعه البريء، وتتحول من مساحة بيضاء إلى لوحة تشكيلية صنعها قدر فنان. عن هذه الفترة، تحدث الفنان التشكيلي: "لا أعلم لماذا كنت أعاقب، ولم أدرك أن والدتي كانت تنظف خطوطي التي كنت أسعد بها، كنت أراها جميلة وكانت تراها هي ووالدي مجرد خرابيش".
لم تكن والدته فقط من تعاني خربشاته، بل حتى مدرسته كانت دائمًا تشتكي من ذلك الطفل الذي لون دفاتره، وجميع أوراق واجباته، وما أن تغيب عنه وتعود إلا وتجده ممسكًا بالقلم، يحاول أن يخرج شيئًا ما من فكره ووجدانه، إلا أن صغر سنه لم يسمح له أن يعبر عمّا يريد.
ربط هشام بين عشقه للفن والسينما فوجد أنها السبب الجوهري لما هو عليه الآن. قال لـ"إيلاف": "في طفولتي، كانت والدتي تتعمد ذهبنا للسينما كل يوم أحد، وأصبح هذا اليوم مهمًا جدًا لي، وكنت أجهز نفسي من الساعة السابعة على الرغم من أن الموعد من التاسعة وحتى الحادية عشرة. كنا نتابع الأفلام الكرتونية، وكان عرضها على شاشة كبيرة مبهرًا جدًا وخياليًا ما جعل عقلي الصغير يتعلق بها".
توالت السنون، ولم يعرف هشام لماذا هذا العشق المتغلغل داخل نفسه فكان الأبيض والأسود يداعب خياله، والكون بسمائه وبحره وترابه وكل ما تمر عليه عينه يحاوره بصمته ويشعل تفكيره، فكثيرًا ما كان يبحر في انعكاسات الألوان وتدرجاتها.
الأستاذ عبد المتعال
يقول: "عندما كبرت واكتشفت أن لكل لون ظلالاً، لم أكن حينها مهتمًا بالدراسة والتعليم، لكن في ذلك الوقت اكتشف مدرسي الخاص الأستاذ عبد المتعال حبي للألوان، ولأنه كان عاشقًا للفن ولعلها من جميل الصدف التي مرت بي بدأ هذا المدرس إدراك شغفي وعلمني أساسيات الألوان، ومدى تأثير اللونين الأبيض والأسود عليها، ليس هذا فقط بل بدأ يخاطب هذا العشق بأن اشترى لي ما يسمى بالألوان المائية وتبنى حبي للرسم وبدأ معي أولى الخطوات".
هذه هي قصة الأستاذ عبد المتعال الذي اكتشف جوهر ما يريد هذا العنيد دراسيًا، لينتقل به من كونه تلميذًا كارهًا للمدرسة إلى طالب نجيب ومتفوق، فكلما زادت مساحة هشام لاستخدام الألوان والرسم كلما ذاكر واجباته بشكل أفضل.
والدتي ملهمتي
كبر الفنان الصغير، وكلما زاد يوم في عمره زاد انبهاره بالحياة، حتى أنه أولع بفن النحت خلال المرحلة المتوسطة فبدأ يتعلم أبجدياته، ليصنع منه حكايات من طين، وينقش بسنابل القش ذكرياته على كل تحفه يحاول صناعتها، كان يتأخر عن العودة للبيت باحثًا عن أعواد القش ليستخدمها في حصص الفن الطيني.
هذا التأخير تسبب في حالة من التوتر والخوف من قبل والدته، لأنها كانت من تولى زمام أموره وتربيته بسبب سفر الأب المستمر. ولأن الأم كانت حريصة دائمًا على مجاراة عقلية ولدها قررت أن تتعلم هي أيضا لتكون ملمة بكل شاردة وواردة، فتعاقدت مع معلمات خصوصيات كنّ يعلمنها داخل منزلها، ما جعلها تتقن اللغة الانجليزية، والفرنسية، وتتعلم النوتة الموسيقية وأمام هذه الشخصية الطموحة كان لا بد من الابن ان يتأثر بوالدته ليعيش طموحها، وتتنفس هي فنه.
مفصل جديد
إبان حرب العام 1967، قرر الأب الانتقال بالعائلة إلى السعودية ليكون أول لقاء في ما بين هشام الذي غادر المنطقة الحجازية وهو لايزال ابن عامين، ليعود لها شابًا في المرحلة المتوسطة. وهنا يروي الفنان هشام تفصيل انتقاله قائلًا: "كان قرار الانتقال من مصر إلى جدة بناء على الأحداث السياسية التي تمر بها المنطقة، كان أول لقاء لي بجدة عندما حطت رحالنا في منزل خالتي للراحة في تلك الليلة، ومنذ ساعات الفجر الأولى انتقل بي الوالد إلى مكة ودخل بي إلى الحرم الشريف، وأذكر جيدًا أنه غسلني بماء زمزم، ومن ثم ذهبنا إلى منزله هناك لأجد مجتمعًا مختلفًا تمامًا عن الحياة في مصر، وكنت حينها أتحدث باللهجة المصرية بحكم تأثري بأصدقائي ومدرستي وجيراني، هذه اللهجة كانت مختلفة المفردات عن أبناء عمومتي ما جعلهم يستغربون مني، بل وكنت أواجه في بعض الأحيان بنوع من الهجوم والاستنكار، هذا كان يؤثر عليّ نفسيًا، ما جعلني اتجنب تواجدي معهم وأفرغ كامل غضبي في الرسم والفن".
ومع كل المؤثرات التي تعرض لها الشاب هشام، كان فنه دائمًا منقذه، بل ونافذته الوحيدة على عالم فيه كثير من التفاؤل، والوجدانيات التي استوحاها بعد ذلك من رواشين مكة الجميلة، وبيوت جدة القديمة، وحياة المنطقة الحجازية بكل تفاصيلها.
غيّرت مجرى حياتي
لم تتوقف الأقدار في مفاجأة هشام عند هذا الحد، بل كان لديه الكثير ليختبره في حياته القادمة، وهنا وفي حديثه الشجي كلمات ليست كالكلمات، خصوصاً أننا على أعتاب حدث غيّر من حياة الشاب الذي أصبح في المرحلة الثانوية ليفتح قصة من داخل صندوق رواياته القديمة قائلًا: "في المرحلة الثانوية كان القدر يخبئ لي مفصلًا جديدًا غيّر مجرى حياتي بدأ بمدرس مادة الرسم وكان سوداني الجنسية ويدعى أبو القاسم سيد عوض، هذا المعلم بالفعل اكتشف حبي وولعي وتعلقي بالفن التشكيلي لأنه كان فنانًا بكل معنى الكلمة وكنت أنا وشخص آخر فقط من يهتم بنا لأنه اكتشف الفنان في داخلنا من مجموع 800 طالب، وأتذكر جيدًا أنه أعطاني مفتاح غرفته، ليس هذا فقط، بل هو من وضع قدمي على بداية الطريق، وكشف لي عن أسرار الفن وألوانه، وعلمني سر الفنان وكيف عليه أن يكون كريمًا في مزج الألوان وكمياتها، والتعامل مع الريشة، وأين مركز الثقل في يدي لأسحب الريشة بطريقة صحيحة، وكيف أسند نفسي ومعظم القواعد المهمة في التعامل مع اللوحة، وبعد فترة كانت المفاجأة".
هنا، توقف بنجابي في حديثة هنيهة ثم قال: "طلب مني الأستاذ أن أرسم ما أحبه، وكنت أحب الملك فيصل رحمه الله، وبالفعل رسمته وعندما انتهيت من رسم اللوحة لم أصدق نفسي، وكانت أول لوحة بمقاس كبير وبالألوان الزيتية".
صورة وإطار
لم تنتهِ فصول هذه الصورة التي كانت السبب في أول 25 ألف ريال يحصل عليها هشام أحمد بنجابي، طالب المرحلة الثانوية. المهم أن المبلغ كان ثمن اللوحة التي اشتراها الملك فيصل بن عبد العزيز بذات نفسه. ويكمل الفنان هشام تفاصيل اللقاء قائلاً: "بعد أن انتهيت من رسم الصورة قررت أن أضعها داخل برواز بمبلغ 600 ريال وبالطبع لم أكن أمتلك هذا المبلغ حينها، وللأمانة هذا المبلغ في ذلك الوقت كان جدًا مرتفعًا، فتوجهت لوالدتي التي اعارتني 300 ريال على أن ارد لها نصف المبلغ بعد فترة، وأكملت عليه بعضًا من مدخراتي ليكتمل المبلغ في حدود 480 ريالاً تقريبًا".
وكانت الصدفة أن التقى في طريقه لمحل البراويز وزير التربية والتعليم السيد حسن آل الشيخ رحمه الله خارجًا من مكتبه لتلفت نظره اللوحة وصاحبها، ويتوقف ويحادث ذلك الشاب اليافع متسائلًا عن الصورة ليرد عليه الطالب هشام قائلًا: "أنا صاحبها ومن قام برسمها وحاليًا متوجه لبروزتها" فما كان من وزير التعليم إلا أن طلب منه الصورة بعد الانتهاء من تركيب البرواز، ولكن من زهو هشام بلوحته ذهب إلى منزله معلقًا الصورة على جدار بيته لتصبح حديث الحي.
بعد فترة من الزمن تذكر أنه وعد وزير التعليم بالصورة وعندما طلب الوزير منه الصورة رفض هشام تسليمها له، ولكن الوزير قرر أمام رفضه أن يُعقد اتفاق في ما بينهما كانت تفاصيله أن يقابل هذا الطالب الملك فيصل بن عبد العزيز حاملًا معه الصورة، في مقابل أن يرسم له لوحة أخرى خلال اجازة العام الدراسي وكان له ذلك.
تفاصيل الزيارة
في نفس اللحظة مع سائق الوزير، انطلق هشام بن أحمد إلى قصر الحمرا، مقر الحكم آنذاك، وقابل السيد أحمد عبد الوهاب رئيس المراسم الملكية بعد محادثة هاتفية بين الوزير ورئيس المراسم يخطره بتوجه شاب يدعى هشام مع لوحة تحمل صورة الملك فيصل ليدخله ويقابل جلالته.
هنا، طلب ذلك اليافع مقابلة الملك، لكن رئيس المراسم حدد له موعدًا آخر وبالفعل كان الطالب ولوحته في الموعد بل وقبل الموعد بساعات كثيرة ينتظر لقاء جلالته. وهنا أكمل سرد قصته قائلاً: "كان اليوم الموعود، وذهبت قبل موعدي بساعات منتظرًا رئيس المراسم الملكية، وعندما حضر أدخلني على قاعة كبيرة جدًا كان يتوسط آخرها الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله وعرضت عليه الصورة، وطلبت أن ألتقط صورة تذكارية معه، ومع كل الارتباك الذي اعتراني كان جلالته في منتهى اللطف، وقد ادرك خوفي، واشترى مني الصورة بمبلغ 25 ألف ريال سعودي".
كان المبلغ مفاجأة كبيرة جدًا وهو الذي لم يتجاوز مصروفه 20 ريالاً فقط يصرف منها القليل ويدخر الباقي. وقد توجه بالمبلغ لوالدته سيرًا على الأقدام فرحًا بأول انجاز يحصده من خلال فنه.
يتوالى بعد ذلك كثير من الشخصيات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية على حياة الفنان هشام بنجابي كانت من أبرزها ملكة بريطانيا الملكة اليزابيث، الأميرة ديانا، الرئيس جاك شيراك، الرئيس الأميركي كلينتون، رئيس الوزراء التركي السابق، وشخصيات عربية وخليجية منهم ملك البحرين، وبالطبع ملوك وأمراء السعودية إضافة إلى الكثير من الشخصيات الاعتبارية والعديد منهم اقتنى لوحاته.
الحداثة عشقي
عن رسوماته ومدرسته الفنية، قال: "أنا فنان أرسم الواقعية ولكن في ثقافتي أحب الفنون الحديثة جدًا، وهذا الشيء يظهر في الأعمال التي أقتنيها، فأنا مولع بالحداثة عندما تكون على أصولها، وأكون في قمة السعادة والعشق عندما أحضر معرضًا تشكيليًا يعبر عن النضوج. فعادة ما تقاس حضارة المجتمع من خلال ثقافته وفنونه التي تعد مرآة تعكس مكنوناته".
وعن الحركة الفنية السعودية، قال: "المملكة مرت بكثير من النقلات المجتمعية، إضافة إلى أن خصوصيتها الدينية لوجود الحرمين الشريفين فيها انعكس على حركتها الفنية خصوصًا في فترة زمنية معينة، حيث كانت المعارض التشكيلية واقامتها تواجه بعضًا من المعارضة، وأنا أعد نفسي من الجيل الثاني الذي عانى كثيرًا، بل تعرض كثير من اللوحات للتمزيق، لكن أستطيع أن أؤكد لك أن السعودية اليوم تعيش قفزة فنية تشكيلية مختلفة وجميلة جدًا، ومن الممكن أن أقسم الحركة الفنية التشكيلية إلى قسمين أحدها يختص بجميع مدن المملكة، والثانية تختص بمدينة جدة، بمعنى أن مدينة جدة تحديدًا تمتلك حركة فنية عالية جدًا، ولديها من الفنانين التشكيليين من كلا الجنسين مواهب شابة رائعة ومتفوقة، لكن للأسف، وزارة الاعلام لا تعير الفن التشكيلي أي اهتمام، لذلك نحن متأخرون عن جميع دول الخليج فنيًا، على الرغم من أن أي معارض مشتركة عادة ما تكون اللوحات السعودية في المركز الأول بلا منازع"، موجهًا أن الفن رسالة وأساس الحراك المجتمعي الثقافي والاجتماعي وحتى السياسي.
جدة القديمة
حوّل الفنان هشام بنجابي أحد بيوت جدة القديمة إلى أكاديمية للفنون الجميلة وورشة عمل تتفتق بين رواشينها، وطابعها القديم لوحات حديثة تحمل بصمات جيل الغد من الصغار والكبار على حد سواء.
لم يكن اختيار جدة القديمة عشوائيًا، بل كان بسبب معلمة أبو القاسم الذي خرج بهم أثناء الدراسة لأحياء جدة يحاول أن يحفر داخلهم البيت القديم من خلال لوحات يرسمها طلابه، وهنا قال الفنان هشام: "لا أزال أحمل داخل عقلي تلك الأيام الماضية بكامل تفاصيلها عندما كان معلمي أبو القاسم يخرجنا بين بيوت جدة القديمة لرسمها، ونقل منمنمات أبوابها الخشبية، ورواشينها، وجدرانها، هذه التجربة أردت احياءها من خلال وجود الأكاديمية في مكانها الصحيح... جدة القديمة".