ارتبط بالثورات لكنه يتحول حاليًا إلى التوعية
الغرافيتي... الفن المختفي قسراً من شوارع مصر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لم يعرف المصريون فن "الغرافيتي" إلا في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، وازدهر الرسم على الجدران والأسوار في القاهرة وأغلبية مدن مصر؛ لكن هذا الفن لم يعد موجودًا الآن في الشوارع والميادين، بعد إزالة أغلبية الرسومات، خصوصًا أنها كانت ذات سمة احتجاجية.
إيلاف من القاهرة: في الفترة بين ثورتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، اكتست الشوارع والميادين في القاهرة ومختلف أرجاء مصر بالرسومات الجدارية. وشكلت الجدران العامة والخاصة لوحات ضخمة تحتج على الأوضاع السياسية السيئة لعهدي الرئيس الأسبق حسني مبارك وجماعة الإخوان المسلمين. لكن هذا الفن اختفى فجأة: هل الغرافيتي فن احتجاجي فحسب؟ أين اختفى فنانوه؟ هل تعرضوا للانزواء في الظل إجباريًا؟ هل يمكن استخدامه وتطويعه للخروج من عباءة الاحتجاج إلى عوالم أخرى؟
فن ثوري
تاريخيًا، عُرف فن الغرافيتي بأنه الرسم على الجدران العامة أو الخاصة بطريقة فنية بكلمات مقصودة وعبارات مستهدفة وبتعبير حر، ورسومات متداخلة وساخرة. يرى بعض المؤرخين أنه يرجع إلى آلاف السنين، بينما يرى آخرون أنه فن حديث ظهر في نيويورك في عام 1970، واستخدمه الفنانون للتعبير عن تردي الحالة الاقتصادية في المدينة، وطحن الطبقين المتوسطة والفقيرة.
واستخدموا الرسم على عربات القطارات ومترو الأنفاق والجدران للتعبير عن احتجاجهم على تلك الأوضاع، فملأت الرسومات شتى الأرجاء، وقابلتها السلطات الأميركية بالقمع، وألقت القبض على الرسامين، وفرضت العقوبات على تداول الأصباغ والألوان، وجرمت الرسم على الجدران. لكن، هذا الفن انتشر في أميركا كلها ودول أوروبا في القرن العشرين.
في بلاد العرب
عرف الوطن العربي فن الغرافيتي مع اندلاع ثورات الربيع العربي في عام 2011، وانتشر في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، إلا أن سلطات بعض هذه الدول ترفضه رسميًا، وتعتبره من مظاهر تخريب الممتلكات العامة والخاصة، وتفرض عقوبات على الرسامين تتراوح بين الغرامة والسجن.
في مصر، تحول ميدان التحرير وأسوار الجهات الرسمية والخاصة القريبة منه إلى متحف للفن الغرافيتي، تزامنًا مع ثورة 25 يناير 2011، التي أطاحت بنظام حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وتنوعت الرسومات بين الاحتجاج على الفقر، والسخرية من مبارك ورموز نظام حكمه، وصور ضحايا الثورة، وتجميد الثورة.
استمر ازدهار هذا الفن حتى منتصف عام 2013، تزامنًا مع ثورة 30 يونيو ضد الإخوان، وفي الفترة التي تلت إزاحة مبارك عن الحكم، وتولي محمد مرسي الرئاسة، اتخذت الرسومات طابعًا احتجاجيًا وساخرًا ضد جماعات الإسلام السياسي، وانتشرت رسومات تسخر من المرشد العام للإخوان، وتقارن بين الجماعة وبين نظام مبارك، وتشير إلى أنها وجهان لعملة واحدة.
تعقب واختفاء
أما الفترة التي تلت انهيار حكم الإخوان، وتولي الرئيس المؤقت عدلي منصور، ثم انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي، فشهدت اختفاء الرسومات عن الجدران، مع قيام الحكومة بحملة تنظيف، وتعرض الفنانين للمطاردة بتهمة إتلاف وتشويه الممتلكات العامة أو التحريض على التظاهر والاحتجاج.
على استحياء، يظهر بعض الرسومات في شوارع مصر، لكنها تحمل الطابع الاحتفائي وليس الاحتجاجي، ومنها رسومات للرئيس عبد الفتاح السيسي، وكلمة "تحيا مصر" أو العلم المصري، أو محاربة ظاهرة التحرش الجنسي.
ومع تحول لاعب كرة القدم محمد صلاح إلى رمز وطني وقدوة للأطفال والشباب، انتشرت رسومات تجسد شخصيته في العديد من الشوارع، ومنها جدارية ضخمة على مساحة 3.5 متر عرض 3.5 متر طول في مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية، وتحولت إلى ما يشبه المزار، يقصدها الطلاب والأطفال والأسرة لالتقاط الصور التذكارية إلى جوارها.
ليس تخريبيًا
محمد عمر، مهندس كمبيوتر ورسام غرافيتي، قال إن هذا الفن أحد أهم الظواهر الإيجابية التي تزامنت مع ثورة 25 يناير 2011، مشيرًا إلى أنه فن احتجاجي في الأساس، يزدهر مع اتساع مساحة حرية الرأي والتعبير.
أضاف لـ"إيلاف" أن الشوارع والميادين تحولت إلى لوحات فنية، "واستطاعت هذه الرسومات أن تلهب مشاعر الناس ضد نظام حكم مبارك ثم عهد جماعة الإخوان، لكن بعد ثورة 30 يونيو اعتبر هذا النوع من الفن تخريبًا، وألقي القبض على بعض الرسامين، وهرب بعض آخر للخارج. ووجهت إليهم تهم تتعلق بتخريب الممتلكات العامة أو التظاهر من دون تصريح أو تكدير السلم العام".
أشار إلى أن الفن لا يمكن أن يكون مخربًا، "فالفن يساهم في عمليات بناء الأوطان والرقي بالإنسان، وفن الغرافيتي مظلوم في مصر وأغلبية الدول العربية، لأنه ارتبط بثورات الربيع العربي، واعتبر أنه أحد مظاهر الفوضى والتخريب".
نبه عمر إلى أن هذا الفن يمكن تغيير مساره، ويمكن أن تقام له مسابقات ومهرجانات كبرى، لأنه أحد أنواع الفن التشكيلي، مشددًا على أهمية تنظيم معارض مفتوحة في الشوارع، تتجول في مختلف الشوارع والميادين لتشكيل لوحات فنية وتزيينها بشكل فني ومنظم.
ضد التحرش والذكورية
منى عمار، فنانة غرافيتي، تعمل مهندسة ديكور. قالت لـ"إيلاف" إن الغرافيتي فن ازدهر مع ثورة 25 يناير 2011، ويعتبر بمثابة تأريخ لها ولثورة 30 يونيو 2013، مشيرة إلى أن ما جرى من حملات تنظيف الجدران ومناهضة هذا الفن لم تكن إجراءات كلها إيجابية، وأظهرت أن الدولة ضد هذا الفن، "لذلك انزوى فنانوه، وتحولوا إلى أعمال أخرى، وبعضهم أصبح يخشى التعبير عن نفسه".
أضافت: "صار بعض الفنانين يستخدم فنه لمناهضة ظواهر سلبية في المجتمع، ومنها التحرش الجنسي، أو مناهضة ذكوريته، ومنها جدارية ’كفاية يا سي السيد‘، التي تظهر الرموز النسائية في مصر، إلى جانب صورة أمينة وسي السيد في فيلم ’بين القصرين‘ للروائي العالمي نجيب محفوظ".
وقال الفنان سامي عيد، عضو نقابة الفنانين التشكيليين، إن أغلبية الرسومات التي غطت الجدران في الشوارع والميادين العامة تستحق أن تمحى.
أوضح لـ"إيلاف" أن بعض الرسومات والكتابات كانت تحتوي على ألفاظ وعبارات نابية، "لم يكن من اللائق أن تستمر، وكان الأولى بعد تنظيف الجدران منها إطلاق حملة لتجميلها بالطريقة نفسها، من خلال فناني الغرافيتي، وبإشراف وزارة الثقافة، باختيار موضوعات اجتماعية أو وطنية للعمل عليها".
ونبه إلى أن هناك إمكانية لتجميل الشوارع والميادين بالغرافيتي من خلال رسومات محاكاة الطبيعة، أو رسومات للشهداء المدنيين والعسكريين وشهداء الشرطة في الحرب ضد الإرهاب، والرموز المصرية على مر التاريخ.
حملات توعوية
أحمد جابر الشهير بـ "نيمو"، طبيب أسنان وفنان غرافيتي من مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية، خرج بالفن من دائرة الاحتجاج إلى أفاق أخرى مجتمعية، وأطلق حملات تهدف إلى توعية المجتمع بالظواهر السلبية، أو تنمية الشعور بالوطنية أو الاحتفاء برموز المصرية، وقدم جدارية ضخمة للاعب نادي ليفربول الإنكليزي محمد صلاح.
كما أطلق حملة أخرى للتوعية بخطورة ظاهرة أطفال الشوارع، وقدم رسومات لأطفال ينامون في الشارع، كتب فوقها "اللي نامية وفيها ثروة من الفلوس تعمل جبال إساليني عن كباري نايمة تحتيها العيال"، إضافة إلى حملة "كن سعيدًا" لتحفيز المصريين، ورسم وجوه مبتسمة، وكتب أعلاها "كن سعيدًا".
وأطلق حملة أخرى تحت شعار "أوعاك"، للتوعية بأهمية المبادئ والخصال الطبية في المجتمع: "أوعاك تنسى الشهيد"، "أوعاك تكون بألف وش"، "أوعاك ترضى بالظلم"، "أوعاك تكون إنسان كمالة".