أخبار

"إيلاف" تنشر مذكرات الرئيس السنغالي "السنغال في القلب" (6-13)

ماكي صال: ما أجمل النصر بعد معارضةٍ دامت 11 عامًا

الرئيس السنغالي ماكي صال
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

إيلاف: في هذه الحلقة من "السنغال في القلب"، يتطرق الرئيس السنغالي ماكي صال إلى قصته مع الوزير الاول السابق ادريسا سيك، واختلاف وجهة نظره معه بشأن محاجر الرمال في تياس، مشيرا إلى كيف وصف ذات يوم بأنه "صاحب جلد غليظ في ثوب إنسان هادىء ويسيطر على أحاسيسه"، وكيف وجد نفسه بين مطرقة الوزير الاول سيك والرئيس عبد الله واد، وكيف أصبح وزيرا للداخلية فوزيرا أول خلفا لسيك، معتبرا ان كل سنة على رأس الحكومة تساوي ثلاثة اضعافها، خاصة أن سيك لم ينعزل من الوزارة بهدوء ليترك الامور تسير سيرها الطبيعي. وفي ما يلي الحلقة السادسة.

يا سيادةَ الوزير!

ما أجملَ النَّصرَ بعد 11 سنة مِن النِّضال في المعارضة!!!.

كما سبق أن ذكرت، فإنَّني لم أدخل لمقرِّ الحزب الدِّيموقراطيِّ السِّنِغاليِّ، وأنا أحلم بالمشاركة في الحكومة. إنَّ مشاركتي فيها جاءت في ظروف طبيعيَّة. خصومي الَّذين لهم الحقُّ في الاختلافِ معي في الرَّأي، أشاعوا بعضَ الوشايات في حقِّي خلالَ هذه الحقبة.

وإن كنتُ ديموقراطيًا باختياري وبقناعتي، فإنِّي مع ذلك لا أرضى اختلاقَ الأكاذيب وتشويه سُمعتي.

أشاع خصومي بأنَّني في سنة 2000،عندَ وصول عبد الله واد إلى سُدَّة الحُكم، كنتُ في ضائقة ماليَّة خانقة، وأنَّ هذه الحالة دفعتني إلى العيشِ مع أُسرتي في شقَّة ضيِّقة. ولأجلِ هذا، كنتُ أطلب منصبًا سياسيًا. هذا كلُّه مُجرَّد إشاعة كاذبة، بكلِّ تأكيد.عكس هذه الإشاعة هو الصَّحيح تمامًا، ذلك لأنِّي بصفتي رئيسَ قسمٍ في شركة "بتروسين"، كنتُ أكسب ما أعيش به على نحوٍ أحسن من كبار موظَّفي الدَّولة.

في سنة 1995، طلب منِّي السَّيِّد إدريسا سيك أن أنضمَّ إليه لأكونَ رئيسَ قِسم التَّصنيع، وذلك بعد أن عُيِّنَ وزيرًا للتِّجارة والتَّصنيع في حكومة أغلبيَّة موسَّعة، دعا إلى تشكيلها الرَّئيس عبدو ضيوف. و أبديت موافقتي على طلب سيك، ولكن بشرطِ أن تكون شركة بتروسين هي الَّتي تقوم بإجراءات تحويلي إلى وزارتِه، وذلك لأنَّ راتبي كان أكبرَ مِن الَّذي اقترح عليَّ.

لقد بذلت قصارى جهدي للحصولِ على هذا الرَّاتب، نظرا لكوني ربَّ أُسرة ومسؤولًا عن إخوتي.

سيك، الَّذي كان مُغرمًا باللُّغة الإنكليزيَّة إلى أقصى حدٍّ، خاطبني بهذه اللُّغة ليقولَ لي: أريدك في مكتبي الوزاريِّ. لكنَّ شركة بتروسين رفضَت تحويلي، وهكذا توقَّفَ هذا الأمر بصفة مؤقَّتة، وأصبحتُ وزيرًا بعد ستِّ سنوات أي في الحادي عشر من مايو 2001.

في سنة 2002، عُيِّنَ سيك وزيرا أول، وكنتُ أنا الثَّاني في التَّرتيب البروتوكوليِّ لِلحكومة.

الوزارة ليست مجرد لقب

الوزارة ليسَت مجرَّد لقب، بل لا بُدَّ أن يعرف الوزير كيف يوصل رأيَه ويُسمِع صوته، وليس أن يكون إسمه في عناوينَ الصُّحف البارزة، بل ليدافعَ عن قناعاته. والتَّجربة أثبتَت لي أنَّه من الصَّعب القول لا لرجل يُشاركك الحزب السَّياسيَّ نفسَه، وأن تقومَ بالمعارضة داخل حزبِك الَّذي يتمتَّع بالأغلبيَّة.

من المعلوم عن السَّيِّد سيك، أنَّه كان رجلا ذو نزعة سُلطويَّة.هناك وزراء أول عنيدون وبعضهم أكثر مرونةً وألينُ عريكةً، أمَّا سيك فقد كان يجعل من رأيه سيفًا صارمًا بتَّارًا، ويُملي الأوامر ولا يستشير.

محاجر مدينة تياس

أوَّلُ ملفٍّ ضمنَ اختصاصاتي، والَّذي تدخَّلَ فيه سيك , كان يتعلَّق بمحاجر مدينة تياس.

في سنة 2003، بينما كنتُ في جولة إلى مدينة فاتيك، حيث كنتُ العُمدة منذ 2002، دعا الوزير الأوَّل إلى عقدِ اجتماعٍ حول مستقبل محاجر مدينة تياس، وهي مدينةٌ مشهورة، تطوَّرت بسبب نشاطات السِّكَّة الحديديَّة ابتداءً من سنة 1930.

من أسباب شُهرة هذه المدينة وتطوُّرها أيضًا، وجودُ محاجر رمليَّة فيها،بالإضافة إلى اكتشاف الفوسفات فيها بعدَ الحرب العالميَّة الثَّانية.

انعقدَ الاجتماع حولَ موضوع مُستقبل محاجر مدينة تياس، في أحد أيَّام الجمعة، وكان مديرُ مكتبي يُمثِّلُني في هذا الاجتماع. وبعد نهاية الاجتماع، اتَّصلَ بي هاتفيًا على الفور ليقولَ لي: "الوزير الأوَّل يطلب مِنَّا إعدادَ مشروع مرسومٍ وزاريٍّ لإغلاق محاجر مدينة تياس، خلال مدَّة أقصاها السَّاعة السَّادسة من مساء هذا اليوم!".

كنتُ مُندهشًا للغاية، لأنَّ مدينة تياس، وإن كانت قلعةً سياسيَّةً لإدريسا سيك، إلَّا أنَّ قرارًا كهذا لا يمكن أن يؤخَذ بهذا الشَّكل. طلبتُ صيغةً مكتوبةً لهذا الأمر الصَّادر، وذلك لأنِّي أريده أن يكتسي صبغةً رسميَّة. وقبل السَّاعة السَّادسة، تلقَّى مدير مكتبي الأوراقَ المطلوبة، واتَّصل بي لإبلاغي بالخبر.

الوزير الأول السنغالي السابق إدريسا سيك

عندَ ذلك، أصدرتُ لمدير مكتبي تعليماتٍ واضحة أقول له فيها: "ضَعْ هذا الملفَّ في الرُّفوف،وأوقِف العملَ المتعلِّق به إلى يوم الإثنين".

كنت قد وضعت في حسباني استغلالَ الإجازة الأسبوعيَّة للانتقال إلى مدينة تياس ومقابلةِ الوزير الأوَّل فيها.

كانَ استقبالُه لي لطيفًا للغاية، وتناولنا الغداء معًا. أمَّا خلال الاجتماع، فكانت وجهات نظرِ كلٍّ مِنَّا مختلفةً تمامًا حولَ مسألة محاجر تياس.

رجعتُ إلى دكار، وقضيت ما بقي مِن إجازتي الأسبوعيَّة لإعداد ملفٍّ تقنيٍّ صلب حولَ هذه القضيَّة. وكنت أعارض بكلِّ حسم إغلاقَ هذه المحاجر، كما كنتُ مُصمِّمًا على القيام بكلِّ ما يلزم للحيلولة دونَ هذا الإغلاق.

مجلس وزراء صاخب

كان مجلس الوزراء التَّالي صاخبًا وساخنًا جدًا، ذلك لأنَّ الوزير الأوَّل جعل محاجر تياس في صدارة جدول الأعمال، وكان يدعم وجهةَ نظره وهو يقول: "لا بُدَّ مِن إغلاق هذه المحاجر، وخاصَّةً لاعتبارات راجعة إلى المحافظة على البيئة".

بعدَه، أخذتُ الكلمةَ لأُبدي عدمَ موافقتي قائلًا إنَّ المضاعفات المترتِّبة على هذا الإغلاق ستكون وخيمةً،لا سيَّما في مجال فقدان العمل. من جهة أُخرى، لا بُدَّ مِن إلغاء جميع العقود بين الدَّولة السِّنِغاليَّة والشَّركات الَّتي تستغلُّ هذا الموقع. وهذا سيؤدِّي إلى بلبلة كبيرة في الجانب القضائيِّ، إضافة إلى دفعِ أموالٍ طائلة كتأمينات ضدَّ الخسائر الفادحة الَّتي ستتكبَّدها هذه الشَّركات.

كان الرَّئيس عبد الله واد يُصغي باهتمامٍ كبير إلى هذا النِّقاش، ثمَّ طلب في النِّهاية، وفقَ ما يقتضيه المنطق، بإيقاف العمل بهذا القرار، ريثما يتمُّ القيام بدراسة مُعمَّقة، تقوم بها لجنة من الخبراء، ثمَّ تُقدِّم إلى الحكومة توصياتِها الفنِّيَّة.

كنتُ أنظر إلى وجه الوزير الأوَّل، الَّذي كان عاجزًا عن أخفاء غضبِه، رغم محاولاته الفاشلة لتمرير القرار. وكنتُ أرى أنَّني كسبت القضيَّة. ولم يكن يُخامرني أدنى شك في أنَّ هذه اللَّجنة لن توافق على الإغلاق، وفي أسوء الافتراضات، سأكون قد فتحت الطَّريق لإجراء تفكير أكثرَ عقلانيَّةً ورصانةً حول هذا الملفِّ.

شخصية إدريسا سيك

منذ الأشهر الأولى مِن تعيينه وزيرًا أوَّل، كان إدريسا سيك يُبدي سماتٍ شخصيَّة تجعل العملَ معه أمرًا صعبًا للغاية، ومِن هذه السِّمات: الغطرسة، ورأيي صوابٌ ورأيُ غيري خطأ. بالإضافة إلى النَّزعة السُّلطويَّة الحادَّة.
أعتقدُ بأنَّ الحُكم لا يقتصر على قبضِ الأيدي والضَّرب بها على الطَّاولة مع القولِ بصوت حادٍّ: "هكذا يجب أن تكون الأمور وفقَ رؤيتي وقراري".

أنا إنسان أحرص، وفقَ أصولي في التَّربية ومسيرتي، على التَّوصُّل إلى خلاصة الآراء والعمل بها.

هذا الموقف أمرٌ مهمٌّ جدًا في بلد كالسِّنِغال. إنِّي أرتاح أكثر عندما أجدُ نفسي مع جميع الأجناس المكوِّنة للشَّعب السِّنِغاليِّ، سواءٌ كانوا من السيرير أو من التِّكرور أو غيرهم، وهكذا يجب أن يعيشَ المواطن سنغاليَّتَهُ. أنا محظوظ بكوني أتكلَّم الولوفيَّة والفلانيَّة، مع الإتقان نفسِه لِلُّغة الفرنسيَّة، وأعترف بأنَّني أتكلَّم السِّيريريَّة بدرجةٍ أقلَّ.

صاحبُ جلدٍ غليظ في ثوب إنسان هادئ

هذا الطَّابع في شخصيَّتي، يجعلني أكره الشِّقاقَ العلنيَّ والخصومة، الَّتي لا تنتهي، ولكن هذا لا يعني إضعافَ الرُّوح القتاليَّة عندي. وُصِفْتُ يومًا بأنَّني "صاحبُ جلدٍ غليظ في ثوب إنسان هادئ ومُسيطِر على أحاسيسِه".

أعتقد بأنَّني إنسان يحرص على الدِّفاع عن مبادئه وقناعاته، وأعتقد أنَّ هذا أمرٌ طبيعيٌّ ومُنصِف. إنَّ الحقيقة المؤكَّدة هي أنَّ الإنسان لا يخسر شيئًا بسبب انتهاجِه طريق الاستقامة.

بما أنَّ هنالك، دائمًا، أُناسٌ يسعون لإضرام نارِ الفتنة، فإنَّهم لمَّا وقفوا على بعض ما جرى بيني وبين الوزير الأوَّل، رفعوا الأمرَ إلى الصَّحافة كالمعتاد.

وبدأت الصُّحف تكتب في عناوينها البارزة: "طلاقٌ وفراقٌ في قمَّة هرم السُّلطة". على إثر هذا، قام باب جوب، رئيسُ الجمعيَّة الوطنيَّة وقتَها وعُمدة دكار، بدور رجلِ إطفاءِ الحرائق ضمنَ طاقم الحكومة، ودعا إلى مأدبة غداءٍ في بيته للإصلاح بيننا.

لم أكن يوما عدوا للوزير الاول

لم أكن يومًا عدوًا للوزير الأوَّل، بل كانت العلاقات بينَنا حميميَّة للغاية، ولكن مأدبة الغداء هذه أظهرَت الخلافَ الحادَّ بينَنا،ذلك لأنَّني لم أتزحزح، قيد أُنملة عن موقفي حولَ محاجر تياس، وإدريسا أيضًا لم يكن يُعير للأدلَّة الَّتي أقدِّمُها أدنى اعتبار أو إصغاء.

لقد كنتُ أوَّل مَن قام من الطَّاولة، بمجرَّد أن سمحَت لي حدود اللَّياقة والأدب بذلك. وفهمتُ في ما بعد أنَّ الوزير الأوَّل كان يريد كسبَ قضيَّته، وأنَّه مُستعدٌّ، ليس لمجابهتي أنا فقط، بل مجابهة رئيس الجمهوريَّة أيضًا.

ومثل هذا الموقف، يُعتبر انتحاريًَّا في جمهوريَّة مثل جمهوريَّتنا، حيث أن وزنَ شخصيَّة الرَّئيس يجعله يتدخَّل في سير المؤسَّسات.

كان عبد الله واد قد أدركَ كلَّ ما يلوح في الأفق، ويُروَّجُ في الصَّحافة كذلك. وبدأت المقالات تَتَتَابَعُ في وصف: "دولة ذات رأسين، أو صراع مفتوح بين واد وسيك".

كلُّ واحدٍ اختارَ مُعسكرَه، فالأغلبيَّة الَّتي كانت للحزب الحاكِم، انقسمَت بدورها إلى مؤيِّدين لرئيس الجمهوريَّة وداعمين لرئيس الحكومة، وتوقَّفَت، طبعًا، الإصلاحات، وغرقت الأعمال الحكوميَّة في وحلٍ مِن الرُّكود، وكان الوضع يُنذر حقًا بالخطر.

الرئيس السنغالي السابق عبدالله واد

وزارة الداخلية والطريق إلى الوزارة الاولى

خلالَ التَّعديل الوزاريِّ الَّذي تمَّ في أغسطس 2003، قال الرَّئيس واد ما يلي: "أريدكَ أن تكونَ على رأس وزارة الدَّاخليَّة". وإلى حدِّ هذا الوقت كنتُ في وزارة تقنيَّة، ولكن الآن أقتربُ مِن وزارة سياديَّة بالدَّرجة الأولى، وفي قلبِ الدَّولة. لم أكن أرغب في مثل هذه الوزارة، لكنَّ الرَّئيس دفعني نحوها، وأجبتُه بقولي:"إذا كان هذا اختيارُكم، وأنَّكم ستدعمونني، فإنِّي أقبل".

في هذا المنصب الصَّعب والحسَّاس للغاية، كنتُ أعمل وسط التَّوتُّرات الحادَّة بين واد وسيك، أو كنتُ بالأحرى بين المِطرَقة والسِّندان.

إنَّ دور وزير الدَّاخليَّة ليس سهلًا، ولكنِّي قمتُ به بكلِّ وفاء والتزام، وكانت الضُّغوط والضَّربات الخسيسة أمورًا مألوفة لأصحاب هذا المنصب.

وكثيرًا ما كان يُقال لي بأنَّ رئيس الجمهوريَّة يريد عملَ هذا أو ذاك، ولكن عندما أتَّصل به لأسألَه، يُجيبني مُندهشًا: "لم أقُلْ يومًا هذا".

إنَّ رجال الدَّولة مُحاطون دائمًا بأُناس بارعين وأذكياء. ومنهم مَن يلبس بذلة القاتل، وجُلُّ عملِهم هو توقُّع رغبة الرَّئيس, وتأويل كلِّ ما يصدر منه حتَّى صمته، ليرفعوا الهاتفَ وليُصدروا الأوامرَ ويُنفِّذوها قائلين: "لا بُدَّ مِن عزلِ فُلان أو علان فلان، لأنَّ الرَّئيس لا يرغب فيه". وبمجرَّد أن يُجابهَهم شخصٌ بكلمة لا، يُدرك في الحال بأنَّ هؤلاء المُتنفِّذين لا سُلطة لهم إلَّا الَّتي يؤمن بعضُ النَّاسِ بأنَّهم يتمتَّعون بها!.

كثيرًا ما وُجِّهَ إليَّ سؤالٌ كهذا: لماذا أخذتَ هذا القرارَ أو ذاك؟ ولماذا عزلتَ فلانًا أو علانًا فلانًا؟ بينما لم أكن على أدنى عِلم بأيٍّ مِن هذه الأمور. إنَّها سياسة الأروقة والدَّسائس الَّتي تغتال الأصدقاءَ أو تسقيهم جرعات ذات نكهة فاسدة.

بعد ثمانية أشهر، أي في 21 أبريل 2004، عيَّنَني واد وزيرًا أوَّل خَلَفًا للسَّيِّد سيك. وبقيتُ مُحافظا ًعلى هذا المنصب حتى سنة 2007. إنها لَسنوات مليئة بالعملِ المشترك والتَّنسيق الحكوميِّ والإدارة السِّياسيَّة للحزب الدِّيموقراطيِّ السِّنِغاليِّ.

كنت أقوم بكلِّ هذا بوصفي المسؤول الثَّاني في الحزب.

ثلاث سنوات تساوي تِسعًا!

كان جليًّا أنَّ القطيعة بين الرَّئيس عبد الله واد وإدريسا سيك، أصبحَت أمرًا لا مفرَّ منه.

تعثَّرت علاقة الرَّئيس واد وتأزَّمَت مع ثلاثة وزراء هم: مصطفى نياس، ومام ما جور بوي، وإدريسا سيك.

عُيِّنتُ خَلَفًا للأخير، الَّذي كان عبد الله واد قد كال له مدحًا وافرًا، وقال عنه إنَّه يستطيع أن يُدرك، بصفة استباقيَّة، جميعَ رغباته ويعمل لتحقيقها.

إنَّ السُّلطة في عالَم الدِّيموقراطيَّة، شيءٌ يمرُّ مرَّ السَّحاب، مع تقلُّب شديد. ومع كلِّ هذا، فقد كنتُ الوزير الأوَّل الوحيد الَّذي قضى أطولَ مُدَّةٍ مع السَّيِّد عبد الله واد.

كلُّ سنة على رأس الحكومة، تساوي ثلاثة أضعافها. هناك نشوة السُّلطة، ولكن هناك أيضًا نَزوتها! ولَمَّا شغلتُ منصبَ الوزير الأوَّل، كان لي من العمر 42 سنة، ولم أكن في مثل تألُّق السَّيِّد إدريسا سيك، ولكنَّ الرَّئيس واد قد هيَّأني لهذا المنصب عندما جعلني، ليس فقط، المتحدِّثَ الرَّسميَّ باسم الحكومة، ولكن وزيرًا للدَّاخليَّة أيضًا.

كان جمهورُ الشَّعب يعرفُني، والانطباع الَّذي أخذَه عنِّي هو أنَّني رجلٌ مُتستِّر لا يعمل للفتِ الأنظار إلى نفسِه، ووفيٌّ ومثابر. كان مِمَّا تناقلته الصَّحافة عن السِّنِغاليِّين في هذا الوقت، أنَّهم سئموا من أيِّ خطابٍ سياسيٍّ عامٍّ من الوزير الأوَّل بعد تعيينه، وأنَّهم يعتبرون مثل هذا الخطاب المُكرَّر تلاعبًا لفظيًّا مِن السَّاسة والمسؤولين.

أدركتُ في هذه الحالة، أنَّه يجب عليَّ أن أهتمَّ كثيرًا بإعداد أيِّ خطابٍ رسميٍّ، وأن أحرص على أن تكونَ لي مسيرة حافلة بالإنجاز، وكنتُ أرى بأنَّني إن لم أهتمَّ بهذين الأمرين، سأسقط سريعًا في هوَّةِ النِّسيان، وربَّما سأكون الوزير الأوَّل الَّذي ينساه الجميع فورَ تعيينه.

في 20 أكتوبر 2004 ، وقفتُ في منصَّة البرلمان، وكان في يدي نصُّ الخطاب، وكنتُ مُتأثِّرًا جدًَّا، لكن مُسيطرًا على أحاسيسي، وكُنَّا خلال شهر رمضان، وبدأت الخطابَ بحمدِ الله، ثمَّ دعوت بالوئام والسَّلام بين جميع المواطنين.

كنتُ أريد أن يكون خطابي كلمةً مُقتضبة، وموجَّهة نحوَ معركة العملِ والإنجاز، لا نحوَ معركة الكلام.

خلال هذه الكلمة كلِّها، كنتُ أُنوِّهُ بالمكانة السَّامية لرئيس الدَّولة، مُذكِّرًا بأنَّه وحدَه، الَّذي يحظى بثقة السِّنِغاليِّين، وعندما أحسستُ أنَّ الجمهور مُنتبه إلى كلماتي، بصفة ملحوظة، بدأت أُعلن عن طموحي في قيادة الشَّعب نحو"سنغالٍ سِمَتُه الفوز والانتصار"، وبيَّنتُ سياستي على أنَّها مبنيَّة على: "فلسفة جديدة قائمة على العمل"، وكرَّرتُ هذه العبارة كثيرًا.

وكنتُ قد تحدَّثت في هذا الخطاب أيضًا عن ديناميكيَّة جديدة، وأكَّدتُ على أنَّ هذه الحكومة سيكون مِن واجبها تنفيذُ ما يلي: "إعطاء الأولويَّة للنَّتائج الملموسة، والبحث عن أفضل توازن بين مَطالِب الشَّعب والجودة في أداء الأعمال العموميَّة".

وبعد أن أنهيتُ كلمتي، كنت أحسُّ أنِّي كسبتُ النُّوَّاب إلى جانب قضيَّتي، وكنت أيضًا أُميِّز بين التَّصفيق الَّذي تمَّ عن تكلُّف، والتَّصفيق المؤيِّد لي حقًّا، والَّذي تمَّ عن إعجاب.

كنتُ أعتقد كما سبق أن قُلت، بأنَّني كسبتُ النُّوَّاب إلى جانبي، ولكنَّ الكلمات فقط لا تكفي، وأنَّه لا بُدَّ مِن الدُّخول في حلبة العمل والإنجاز.

لما عُيِّنتُ خَلَفًا لإدريسا سيك، وجدت ملفَّات كثيرة في حالة توقُّف تامٍّ. لقد وقعَ العمل الحكوميُّ ضحيةَ الصِّراع بين الرَّئيس عبد الله واد ووزيره الأوَّل.

الرَّئيس واد، تمَّ التَّصويت له على أساس وعود انتخابيَّة، يتعيَّن تحقيقُها عمليًّا، وخاصَّةً المنشآت الكُبرى مثل الطَّريق السَّريع، الَّذي كان سلفي يراه نزعةً طوباويَّة غير قابلة للإنجاز!.

هكذا، حَرَّكتُ، من جديد، هذه الملفَّات كلَّها، ودفعتُها نحوَ الأمام على أساس فلسفتي في العمل، بيد أنَّ دورَ الوزير الأوَّل، يشمل أيضًا، إدارة أمور الحزب، بصفته الأولويَّة السِّياسيَّة في البلد.

كان العِراك قاسيًا جدًّا، فالسَّيِّد سيك، لم ينعزِل بهدوء، ليتركَ لي الأمور تسير سيرها العاديَّة، وهذا أيضًا أمرٌ طبيعيٌّ مِن جهته.

استقالة 14 نائبا من "الديمقراطي السنغالي"

بعد سنة مِن عزلِه، استقال أربعة عشر نائبًا برلمانيًّا من الحزب الدِّيموقراطيِّ السِّنِغاليِّ، وشكلوا مجموعةً برلمانيَّة خاصَّة بهم.وهؤلاء كلُّهم، كانوا من المقرَّبين من الوزير الأوَّل السَّابق.

كان هدفُ سيك من هذه المناورات واضحًا هو إحداث شرخٍ في الأغلبيَّة البرلمانيَّة الَّتي كان يتمتَّع بها التَّحالف الحاكم، وحرمان رئيس الجمهوريَّة من القاعدة السِّياسيَّة العريضة الَّتي كانت تدعمه.

كنت أيضًا النَّائبَ الأوَّل للأمين العامِّ للحزب الحاكِم، كما كنتُ أُنفِّذ الأوامر الَّتي أتلقَّاها من الرَّئيس واد.

هذا الأخير كان يُعيد هيكلةَ الحزب، وكان يأمرني بعزلِ فلان أو علان في هذه التَّنسيقيَّة أو ذلك الإقليم. ولم أكنْ موافقًا على كلِّ هذه المقترحات، ولكنِّي كنتُ مُجبرًا على تنفيذ الأوامر، وكنتُ أُدرك تمامًا أنَّ البعض سينظر إليَّ كمُنفِّذ إعدام، باسمِ الرَّئيس، بل الأسوأ، فإنَّ البعض كان يتَّهمني بأنَّني أقوم بعزل المسؤولين لتعيين موالين لي محلَّهم.

الدرع الواقي للرئيس واد

وكان المُقرَّبون منِّي يقرأون ما يُنشر في الصَّحافة, ويطلبون منِّي الرَّدَّ عليه تفنيدًا لتلك المزاعم، ولكنِّي كنتُ أجيب الجميع: "إنَّ واجبي هو أن أكون درعًا واقيًا للرَّئيس واد، وأن أتحمَّل الضَّربات في سبيل ذلك، وأن أكون مُستعدّا، عند الضَّرورة، أن أكون صمَّام الأمان من أجل الرَّئيس، إنَّها مسألة واجبٍ مهنيٍّ".

مُشكلة أُخرى كانَت تعترضني مع بعض الأصدقاء المقرَّبين جدًّا من الرَّئيس عبد الله واد، هي أنَّهم لا يتلقَّون الأوامر إلَّا مِن طرفه، ويرون أنَّه لا يمكن لأيِّ شخصٍ أن يوجِّهَ إليهم أدنى مُساءلة إلَّا الرَّئيس. فهم لا يُعيرون أدنى اهتمام للصِّفة الرَّسمية لرئيس الحكومة ولا لآرائه.

إنَّ عملَ الوزير الأوَّل يتوزَّع بين شعوره بالرِّضا المهنيِّ بتقدُّم الملفَّات الَّتي يُنجزها، وبين حالات الإحباط أمام حجمِ العمل المطلوب للوصول إلى مُبتغاه.

أمَّا الَّذين يدفعون أفدحَ الثَّمن في هذه الحالة، هم الأشخاص القريبون منِّي، وخاصَّةً زوجتي، الَّتي كانت بروحانيَّتها الإيمانيَّة ووفائِها الأخلاقيِّ تتَّصل أحيانًا ببعضِ مُساعديَّ لتسألهم: "هل لديكم أخبار عن زوجي؟".

خلالَ هذه السَّنوات الثَّلاث، لم أكن أرى زوجتي وأبنائي إلَّا نادرًا. إنَّ هذا هو الثَّمن الَّذي يؤدِّيه كلُّ مَن يتقلَّد مثل هذه المسؤوليَّات.

نجحتُ في دفع الإصلاحات إلى الأمام، وتحقيق المنشآت الضَّخمة، الَّتي كان الرَّئيس واد يريد إنجازها، ولكن يبدو وكأنَّ مَا قمتُ به، إمَّا لم يكن في المستوى المطلوب، أو كان مُثيرًا للغيرة! على كلِّ حال، سنفهم ذلك لاحقًا.

قبلَ انتخابات 2006 بعدَّة أشهر، دعا عبد الله واد إلى عقدِ اجتماعٍ ضمَّ كافَّة مبعوثي الحزب، وأتوا بالآلاف من جميع مناطق السِّنِغال، تلبيةً لهذه الدَّعوة. لم أحضر هذا الاجتماع بسبب الأشغال الكثيرة، ولكن نُقِلَ إليَّ جوابُ الرئيس واد، حينما سُئِلَ عن تقييمه لعملي، حيث قال:"رأيي في الوزير الأوَّل، إنَّه إنسان مُتواضع، يعمل كثيرًا دون أدنى ضجيج، وهو فعَّالٌ جدّا".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف