كان يسبح عكس التيار في الحياة السياسية الفرنسية
من هو جاك ديلور رجل البناء الأوروبي؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
باريس: سار السياسي الفرنسي جاك ديلور الذي توفي الأربعاء عن 98 عاما، في أغلب الأحيان عكس التيار في الحياة السياسية الفرنسية وسيبقى قبل كل شيء رجل البناء الأوروبي الذي كان حريصا عليه بصدق.
انتهت مسيرة ديلور المهنية عندما غادر رئاسة المفوضية الأوروبية في كانون الثاني/يناير 1995.
قبل شهر من ذلك، كان ديلور الذي يعدّ بمثابة الأب الروحي للسوق الموحدة واليورو، قد خيّب آمال اليسار برفضه الترشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية، على الرغم من أرقام ايجابية في استطلاعات الرأي، لاقتناعه بأنه لن ينال أغلبية لتنفيذ الإصلاحات التي كان يعتبرها ضرورية.
وأكد في مذكراته "لم أنظّم حياتي يوما وفقا لمسيرة مهنية أريد تحقيقها".
هذا النقابي المؤمن بعمق بالمبادئ الاجتماعية الكاثوليكية، عهد إليه الاشتراكي فرانسوا ميتران الذي انتخب رئيسا للجمهورية الفرنسية في 1981، بمنصب وزير الاقتصاد الذي بقي فيه حتى 1984. خلال هذه الأعوام، فرض تحولا جذريا في السياسة الاقتصادية المحلية، ودافع بنجاح عن بقاء باريس في النظام النقدي الأوروبي الذي مهّد لاعتماد اليورو كعملة أوروبية موحدة.
نجح ديلور في مهتمه على رأس المالية العامة، في إصلاح حسابات الدولة وفي منع فرنسا من الغرق في التضخم، بفضل خطة تقشف غير مسبوقة.
في 1984، طرح اسمه لرئاسة الحكومة واشترط الاحتفاظ بصلاحياته كوزير للاقتصاد. لكن ميتران رفض ذلك وفضّل شخصية أخرى. بعد سنوات قال ميتران "سيبقى لدوره على رأس المفوضية الأوروبية، لكنه في السياسة: صفر".
اكتسب ديلور في بروكسل مكانته التاريخية.
في 1985، عيّن ديلور الذي عرف بإدمانه على العمل وكان نائبا في البرلمان الأوروبي بين 1979 و1981، رئيساً للمفوضية الأوروبية بموافقة ميتران والمستشار الألماني هلموت كول.
في منصبه الجديد، اعتبِرَ المنقذ.
وبعمله ورؤيته للقارة التي كان يعتبرها "اتحادا لدول قومية"، اكتسب مكانة موازية للآباء المؤسسين لأوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية.
منح في 2015 لقب "المواطن الفخري لأوروبا" الذي لم ينل شرف حمله سوى هلموت كول وجان مونيه أحد الآباء المؤسسين لأوروبا.
أثناء رئاسته للمفوضية وبدفع من الثنائي ميتران-كول، أطلق الرجل الذي كان عاملا مطمئنا للأسواق، مشروع الاتحاد الاقتصادي والنقدي الذي سيؤدي إلى العملة الواحدة.
ولشغفه بقضايا التعليم، قام بتصميم برنامج "إيراسموس" للطلاب.
كسب ديلور بفضل شخصيته الصارمة ومهارته، احترام كل القادة بما في ذلك البريطانيان مارغريت تاتشر وجون ميجور على الرغم من العلاقات السيئة معهما لأنه كان يجسّد في نظرهما "بيروقراطية" بروكسل التي تتجاوز السيادة الوطنية للدول الأعضاء.
هل فكّر ديلور يوماً بخلافة ميتران في رئاسة الجمهورية الفرنسية؟
في خريف 1994، رجحت استطلاعات الرأي فوزه في انتخابات الرئاسة المقررة في الربيع التالي. لكن تخليه عن خوض السباق، بشكل مفاجئ ومباشر على شاشة التلفزيون أمام نحو 13 مليون مشاهد، طوى صفحة مسؤولياته السياسية القيادية بعد خمسين عاما على بدئها.
وُلِد ديلور في باريس في 20 تموز/تموز 1925 لعائلة متواضعة، إذ كان والده الذي أصيب بإعاقة بالغة في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، موظفا في المصرف المركزي الفرنسي.
بعد تحرير باريس من النازيين في نهاية الحرب العالمية الثانية، كان ديلور العاشق لموسيقى الجاز والسينما، يحلم بالصحافة والفن السابع. لكن طاعة الأب دفعته نحو بنك فرنسا الذي التحق به مزوّدا بإجازة جامعية في الاقتصاد.
سريعا، انضم إلى الاتحاد الفرنسي للعمال المسيحيين، وشارك في نزع الصفة الطائفية عن هذه النقابة، ما مهّد لإنشاء "الكونفدرالية الديموقراطية الفرنسية للعمل" (سي اف دي تي).
انتظر حتى 1974 لينضم وهو في التاسعة والأربعين، إلى الحزب الاشتراكي على أمل أن "يكون مفيدًا"، وذلك بعد عامين من عمله مستشارا لرئيس الوزراء الديغولي جاك شابان ديلماس.
في 1948، تزوج الرجل ذو المظهر المتواضع والعينين الزرقاوين من زميلته ماري ليفاي التي كانت تشاركه قناعته النقابية والدينية، وتوفيت عام 2020.
أوضح ديلور أن "ملاحظتي للظلم وإيماني المسيحي دفعاني إلى النضال"، مشددا في الوقت نفسه على أنه "لا يركز على كاثوليكيتي في مواقفي".
منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، واصل ديلور خوض معاركه كناشط.
في مراكز الأبحاث التي أسسها، دعا حتى النهاية إلى تعزيز الفدرالية الأوروبية وإلى "جرأة" أكبر عند خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والهجمات من "الشعبويين من جميع الأنواع".
عرف الرجل الشديد التواضع كيف يحمي حياته الخاصة التي هزتها في 1982 وفاة ابنه جان بول.
قدّم دعمه الكامل لابنته مارتين أوبري (الوزيرة السابقة ورئيسة بلدية مدينة ليل حاليا) خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي قبل الانتخابات الرئاسية في 2012.
وقال عنها "لديها شيء أكثر مني (...) كرمها لا حدود له".
وأشاد قادة الاتحاد الأوروبي ومسؤولون بديلور بصفته "باني" أوروبا.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين على منصة "إكس" إنه كان "صاحب رؤية جعل أوروبا أقوى" و"عمله (...) صنع أجيالاً كاملة من الأوروبيين". واضافت أن "إنجاز حياته هو اتحاد أوروبي موحد وديناميكي ومزدهر"، داعية إلى "تكريم إرثه عبر تجديد أوروبا باستمرار".
وأشاد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بديلور الذي كان "ذا رؤية"، معتبرا أنه "غيّر أوروبا من خلال خدمة فكرة أوروبا الموحدة والحرة بلا كلل".
ووصفه رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال ديلور بأنه "رجل فرنسي عظيم وأوروبي عظيم"، معتبرا أنه "دخل التاريخ بصفته أحد بناة أوروبا".