ترفيه

مشاهد من حياة فرق الإسعاف

غزة 101: مسعفون على خط النار

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تحذير: يحتوي هذا التقرير على أوصاف دقيقة لقتلى وجرحى.

كانت الساعة تقترب من الثانية ظهراً، عندما كان المسعف محمود المصري وزملاؤه في الفريق يجلسون في مستشفى العودة شمالي غزة، في انتظار أن يصلهم استدعاء النجدة التالي.

لكن الرسالة هذه المرة كان مفادها أن سيارة الإسعاف التي تحمل رقم 5-15 قد أصيبت، وهي السيارة التي يعمل فيها والد محمود وزملاؤه كمسعفين أيضا.

أسرع محمود وزملاؤه ليروا ما حدث، لكن عندما وصلوا، رأوا سيارة الإسعاف وقد باتت قطعة من المعدن الملتوي على جانب الطريق، أسرع محمود نحو الحطام، لكنه وجد كل من بداخلها "محترقين بالكامل وممزقين".

تتبعت بي بي سي نيوزعربي المسعفين في غزة خلال الشهر الأول من الحرب، ورصدت ردّ فعل محمود عندما علم بمقتل والده يسري واثنين آخرين من أفراد طاقم الإسعاف.

كان ذلك في اليوم الخامس من الحرب، وتحديداً في الحادي عشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. يصف محمود والده عندما تمكن من الوصول إليه. يقول وهو يبكي " لم يبقَ في وجهه أي ملامح".

لُف يسري المصري بكفن أبيض مع خوذته الملطخة بالدماء، وفي الجنازة، ركع محمود بجانبه يمسح دموعه بحرقة، بينما تجمع زملاؤه بالقرب منه.

وثّق الصحافي فراس العجرمي قصة محمود ووالده في الفيلم الوثائقي "غزة 101: مسعفون على خط النار".

محمود، 29 عاماً، أب لثلاثة أطفال. بعد وفاة والده، أعطي إجازة لأسبوعين لكنه أراد، رغم حزنه العميق، أن يعود إلى العمل. يقول إنه شعر بدافع داخلي "لخدمة الشعب الفلسطيني"، بحسب تعبيره.

على خلفية هاتف محمود، صورة لوالده مبتسماً، وضعها ليراه طوال الوقت.

قبل ساعتين فقط من مقتل يسري طلب من ابنه محمود أن يعدّ له فنجاناً من القهوة، كي يشربه قبل صلاة الظهر، ثم غادر في سيارة الإسعاف.

وقبلها بيومين، نُقل محمود إلى المستشفى مصابًا بشظايا في رقبته وظهره. يتذكر الابن بالتفصيل بكاء والده بجانبه وقلقه عليه.

"في كل مرة أجلس فيها بمفردي، أعيش لحظة عثوري على والدي من جديد. أسرعت نحو سيارة الإسعاف، وصدمت عندما وجدته ممزقاً، أشلاء. كنت على وشك الإغماء".

ما مصير الطفلة "هند رجب" التي حوصرت وسط إطلاق النار في غزة؟

جروح وجوع ووحدة، هذا ما يعانيه أطفال غزة الذين تيتموا بسبب الحرب

عمل محمود مسعفا لسبع سنوات في منطقة جباليا شمالي غزة، ضمن فريق جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.

يتابع الفيلم الوثائقي عمل طواقم الإسعاف في هذه الوحدة على مدار شهر، منذ شنّت حماس هجوماً على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ما نتج عنه مقتل 1200 شخص واحتجاز حوالي 250 آخرين لدى حماس في غزة. بدأت بعدها إسرائيل عملية عسكرية مكثفة، قُتل فيها أكثر من 10 آلاف شخص من سكان غزة في الشهر الأول فقط، وفقاً لوزارة الصحة في غزة، التي تقول إن العدد ارتفع منذ ذلك الوقت إلى أكثر من 28 ألفاً.

خلال مرافقة المسعفين عن قرب، وثّقت الكاميرا عملهم، وهم يقودون سياراتهم في الأزقة المظلمة ويحتضنون أجساد الأطفال الجرحى. آثار الصدمة التي يتعرضون لها تظهر على وجوههم، لا سيما عندما يضطرون للتعامل مع جثث الأطفال، فيتذكرون أولادهم.

خلال الأيام الأولى من الحرب، إنهار مسعف آخر، وهو رامي خميس، باكيا أثناء قيادة سيارة الإسعاف.

يقول المسعف إنه استدعي إلى منزل تدمّر على رؤوس ساكنيه، وعندما دخل إلى إحدى الغرف، وجد ثلاث فتيات مقتولات، فتذكر بناته الثلاث، "لم أستطع السيطرة على نفسي، انفجرت باكيا عندما رأيت المشهد". لحظة البكاء هذه انتشرت يومها بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي.

روايات لسكان غزة عن قصف منازلهم بعد تدمير عشرات الآلاف من الوحدات السكنية بشكل كلي

بي بي سي تكشف استمرار استهداف إسرائيل لأماكن نصحت المدنيين باللجوء إليها

في نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تلقى المسعف علاء الحلبي، وهو عضو آخر في الفريق، مكالمة هاتفية من أحد أقاربه علم خلالها أن بعض أفراد عائلة عمه لا يزالون تحت الأنقاض بعد إصابة منزلهم بغارة إسرائيلية قبل يومين.

حين دخل علاء زقاقاً ضيقاً، كانت مجموعة من الناس تحاول نقل كومة من البناء المنهار، قال له أحد أقاربه: "هناك فتاة ربما بقي نصف جسدها ويحاولون إخراجها".

توقف علاء وأخذ نفسًا عميقًا، وقد غطى قناعه الطبي نصف وجهه: "هناك أشلاء فتاة، ضعها مع ما لديك".

بعد أسبوع على بداية الحرب، طلبت إسرائيل من المدنيين في شمالي غزة الانتقال إلى الجنوب حفاظًا على سلامتهم. بقي المسعفون فيما غادرت معظم عائلاتهم. زادت صعوبة التواصل واقتصر على محادثات خاطفة عبر الهاتف أو شبكة راديو جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.

عمل رامي مسعفا لعقدين، وقال إنه كلما اندلعت موجة جديدة من العنف في غزة، تعلقت بناته به وتوسلن إليه ألا يعمل. أطفال علاء أيضاً أجهشوا بالبكاء عندما غادر. كان يدعو خلال قيادته سيارة الإسعاف "أن يرده الله لعائلته سالما".

مأساة مسعف فلسطيني فقد 29 فردا من عائلته منذ أسبوعين ولم يتمكن من دفنهم بعد

صدمات يعيشها مسعفو غزّة: أحدهم استقبل جثة زوجته، وآخر جثة ابنه

يواجه المسعفون في غزة خطر الموت في أي لحظة. في إحدى المرات، كان عدد من المسعفين ينتظر في سيارة الاسعاف خارج مستشفى العودة حين دوى انفجار قريب جداً. تضررت سيارتا إسعاف على الأقل حينها.

يقول أحد المسعفين إن غارة جوية إسرائيلية استهدفت منزلاً مجاوراً للمستشفى، فيما تقول إسرائيل إنها لم تستهدف الموقع لكنها "قصفت هدفا عسكريا على بعد بضع مئات من الأمتار".

منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول قُتل 14 فرداً من فرق جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني وفقا لتصريح المنظمة.

"في كل مهمة هناك خطر ومخاطرة بحياة فرقنا"، تقول نبال فرسخ، المتحدثة باسم المنظمة، وهي تعدد الحوادث التي قُتل فيها موظفو ومتطوعو جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.

وتضيف: "طواقمنا تُستهدف أثناء قيامها بالواجب، إننا نعمل في ظروف غادرة ومرعبة".

الهلال الأحمر الفلسطيني منظمة إنسانية غير حكومية ولها عضوية في الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر (IFRC)، كما أن شارتي الصليب الأحمر والهلال الأحمر معترف بهما، بموجب القانون الدولي، لتمييز العاملين في المجال الطبي والإنساني، المحميين بموجب اتفاقيات جنيف.

تقول فرسخ إن هذه الشارة موجودة على جوانب وأعلى سيارات الإسعاف التابعة للمنظمة، بما في ذلك سيارة الإسعاف رقم 5-15، التي قُتل فيها والد محمود.

تعتقد جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني أنها "استُهدفت بشكل مباشر" من قبل القوات الإسرائيلية، وتقول فرسخ "لا يمكن القول، في ظل كل التكنولوجيا التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي، إنهم لم يروا شارة الإسعاف".

لكن الجيش الإسرائيلي يؤكد أنه "لا يستهدف العاملين في المجال الطبي عمداً، بما في ذلك طاقم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني".

في حالة سيارة الإسعاف رقم 5-15، يقول الجيش إنه "ضرب هدفًا عسكريًا على بعد بضع مئات من الأمتار" وإن موقع سيارة الإسعاف "لم يكن مستهدفاً"، ويضيف أن "الضربات الجوية لا تتسبب عادة في وقوع إصابات بالقدر الموصوف".

تقول إسرائيل إن عمليتها تستهدف مقاتلي حماس، كما أن جيشها "يتخذ الاحتياطات الممكنة للتخفيف من الأضرار التي تلحق بالمدنيين".

يتهم الجيش الإسرائيلي حماس باستخدام المدنيين دروعا بشرية وبالاختباء في المنشآت الطبية، كما نشر لقطات لأنفاق يقول إنه عثر عليها قرب المستشفيات وتحتها، بالإضافة إلى أسلحة يقول إنها كانت في المنشآت الطبية.

كيف كان رد الفعل الفلسطيني والتبرير الإسرائيلي لعملية قتل ثلاثة شبان في أحد مستشفيات جنين؟

كما اتهم الجيش الإسرائيلي حماس باستخدام سيارات الإسعاف - ولكن ليس سيارات الإسعاف التابعة لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني على وجه التحديد - لنقل المقاتلين والأسلحة.

فيما تقول جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني إن 16 مركبة من مركباتها قد خرجت عن الخدمة بسبب القتال منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، وإن 59 سيارة إسعاف في أنحاء غزة قد دمرت بالكامل.

تضيف فرسخ أن جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني لم تكن "أبداً" عُرضة لأن يتدخل المقاتلون الفلسطينيون في عملها، وتقول: "عملنا على الأرض هو تقديم الخدمات الصحية والإنسانية، ومبادؤنا هي نفس مبادئ الصليب الأحمر الدولي والهلال الأحمر الدولي، وأهمها الموضوعية والاستقلالية ... لا يوجد أي تدخل من أي جهة أو أي طرف".

في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، قلصت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني عملياتها شمالي غزة بعد أن هاجمت القوات الإسرائيلية قاعدتها في جباليا وفق قولها.

ينفي الجيش الإسرائيلي إطلاق النار داخل أيّ من العيادات، قائلاً إنه "عثر على خلية تضم العديد من إرهابيي حماس في عيادة الهلال الأحمر، وعُثر على بعضهم يرتدون زي الهلال الأحمر وستراته".

تؤكد فرسخ أنه"لا صحة على الإطلاق" لهذا الادعاء، وتقول إن العيادة كانت تضم فقط أطقم الإسعاف والمتطوعين والجرحى من الأسر النازحة.

انتقل علاء ورامي ومحمود إلى الجنوب، واستمروا في العمل كمسعفين في منطقة خان يونس. رامي عاد في الآونة الأخيرة إلى الشمال.

في أواخر يناير/كانون الثاني، ومع اشتداد القتال حول خان يونس، نقل محمود زوجته وأطفاله الثلاثة: محمد 6 سنوات، ليلى 5 سنوات، وليان 3 سنوات، للعيش في خيمة في المواصي، وهي منطقة صحراوية ساحلية حددتها إسرائيل سابقاً منطقة آمنة.

وبعد مرور أربعة أشهر على وفاة والده، يقول إن التزامه بمساعدة المرضى والجرحى مستمر: "كانت هذه رسالة والدي ويجب أن أواصل القيام بذلك".

حرب غزة: لماذا تمعن إسرائيل في قصف المستشفيات رغم أنها دُمرت بالفعل؟ماذا نعرف عن مدينة رفح التي تهدد إسرائيل باجتياحها عسكرياً؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف