حين تغرق سفينة نوح… وتَغمِس معها أساطيرَ حزب الله
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
في الدول الطبيعية، يُعدّ اعتقال مجرمًا مُلاحقًا بأكثر من ألف مذكرة توقيف خبراً أمنياً عابراً. أمّا في لبنان، تحوّل المشهد إلى عرضٍ هوليوودي كامل: سيارات تُبدَّل، وهويات تُخفى، ولقطات مصوّرة تُبَثُ عبر شبكات التواصل كأننا أمام مشهد من مسلسل "الهيبة". لكن خلف هذه الفانتازيا المضحكة، هناك حدث أشد خطورة وأكثر عمقًا: فسقوط نوح زعيتر ليس سقوط تاجر مخدرات وحسب، بل انهيار جزء من الوهم الذي حاولت إيران وحزب الله صناعتَه لعقود.
من يتابع سير الأحداث يكتشف أن "العملية الأمنية" التي تحدّثت عنها الأجهزة ليست سوى الفصل الأخير من مسرحية طويلة. فنوح، بكل ما مُنِح من حصانات وحمايات، لم يكن يوماً خارج متناول الدولة لو أرادت فعلاً القبض عليه آنذاك. أما المُستَجِد اليوم فهو رَفع الغطاء السياسي &- الميليشيوي الذي حماه طوال سنوات دون سابق إنذار، بعد أن تآكل دوره وانتهت الحاجة إليه لا سيما عِقب سقوط نظام الأسد شريك نوح والحزب في صناعة وتهريب الكبتاغون التي كانت تُغدِق عليهم أكثر من 5 مليار دولار سنوياً.
وهنا تتجسد الهزيمة الكبرى: هزيمة محور بأكمله كان يُنفق المال والسلاح والدعاية لصناعة أبطال وهميين، فإذا بهم يتهاوون عند أول اختبار جدّي.
أكثر ما أثار الهزل، ولربما الشفقة، كان حجم الخيبة التي عبّر عنها بعض أبناء بيئة نوح زعيتر. إذ كان هناك من ينتظر منه أن "يصمد" و"يقاتل"، وأن يَظهر بمشهد أخيل الإغريقي الذي يموت وهو يقاتل، لا أن يسلّم نفسه مثل أي تاجر مخدرات وضيع.
لكن الحقيقة صادمة: لم يكن نوح يوماً مقاتلاً ولا بطلاً. نوح زعيتر، كان مجرماً جباناً، فارّاً من المواجهة حين تقتضي الحاجة، يتسلح فقط بغطاء ميليشيوي يمنحه حصانة بوجه القانون. عندما سقط الغطاء، سقط هو أيضاً.. لا بالرصاص، بل بالاستسلام الطوعي، المُصوَّر والمُوَثّق بعناية، كي يبدو وكأنه "عملية معقّدة" لا مجرّد نهاية مهينة.
هناك فئة من الناس، متأثرة بفانتازيا "الهيبة" و"الرجولة"، أرادت أن ترى فيه أسطورة. لكن النهاية جاءت كما يجب أن تكون: فضيحة مكشوفة، لا بطولة.
البيئة التي لطالما تَشرّبت أفكارًا خُرافية عن "التصدي للتكفيريين" و"الحماية" و"الكرامة"، وجدت نفسها فجأة أمام حقيقة مرة: الرجل الذي صُوّر لها كأنه مقاوم يخوض معارك الأمة، سلّم نفسه طَوعًا حين أدرك أن لا أحد سيغطيه بعد الآن.
هذه الخيبة ليست فردية، إنها خيبة سياسية واجتماعية تكشف هشاشة السردية التي بناها حزب الله حول "الحماية" و"الهيبة" و"الرجولة"؛ سردية سقطت لحظة سقط نوح.
من أخطر ما يقوم به حزب الله اليوم هو إعادة صياغة مفهوم العدو في ذهن بيئته. لم تعد إسرائيل، التي يرفع في وجهها راية "المقاومة"، العدو المركزي. العدو الحقيقي، كما يحاول الحزب إقناع جمهوره، هو الدولة اللبنانية نفسها.
يصرّ الحزب على تثبيت رواية مفادها أن كل محاولة لبناء دولة أو جيش أو قضاء مستقل هي محاولة "لنزع سلاح المقاومة"، وبالتالي حرمان الحزب من "المعركة الكبرى" المرتقبة مع إسرائيل، وتحديداً معركة الالتحام البري التي يراها الحزب حاسمة في موازين الصراع. إنه يحاول إقناع جمهوره بأن معركته ليست مع إسرائيل.. بل مع الدولة.
هذه الرواية تُصاغ بخطاب دقيق، مع تَعَمُد تشويه الحقائق والواقع:
"الدولة تريد نزع سلاحنا الآن لأنها تعلم أن الحرب الحقيقية آتية، وأننا وحدنا من نملك القدرة على صدّ الإسرائيلي".
بهذه الطريقة، يحوّل الحزب كل نقاش حول مستقبل السلاح إلى تهديد وجودي، وكل دعوة للسيادة إلى مؤامرة، وكل خطوة باتجاه بناء الدولة إلى "تآمر على الطائفة."
لكن وراء هذا الخطاب حقيقة أكثر بساطة: الحزب يدرك أنه فقد الكثير من مشروعية سلاحه، وأن بيئته لم تعد تبتلع الأكاذيب السابقة، وأن كلفة مشروعه الإيراني باتت أكبر من أن تُحتمَل.
ولذلك إنه يعيد استحداث صراع جديد: صراع داخلي، مع الجيش والقضاء والدولة، بدل الصراع مع إسرائيل.
ومع أن الحزب يعتقد أن هذه الإستراتيجية ستضمن ولاء جمهوره، إلا أنها تتضمن بذور انهياره؛ لأن أي بيئة، مهما كانت ملتزمة، لن تقبل أن يُحوَّل بلدها إلى ساحة صراع إيرانية، أو أن يتحوّل مستقبل أولادها إلى رهينة "معركة برية" لن تحدث أصلاً.
لا يمكن فصل هذا الحدث عن السياق الإقليمي. إيران اليوم في موقع دفاعي على أكثر من جبهة: نفوذها يتراجع في العراق، وحلفاؤها في اليمن يرزحون تحت ضغط غير مسبوق، وحضورها الشعبي يتآكل في لبنان حتى داخل أكثر البيئات التصاقاً بها.
سقوط نوح، بهذا الشكل الكاريكاتوري، هو تفصيل صغير في مشهدية الهزيمة الكبرى التي يتلقّاها المحور الإيراني. فهذا المحور الذي كان يتباهى "بإدارة ساحات المقاومة" صار عاجزاً حتى عن حماية أدواته الصغيرة، بعدما أصبح وجودها عبئاً عليه لا رصيداً من أرصدته.
إن "تسليم" نوح هو إشارة واضحة، بأن الحزب مجبر على التخلي عن بعض أدواته القديمة، كي يقدّمها قرباناً للدولة أو للتوازنات الإقليمية.
معركة السلاح أو الدولة التي نشهدها اليوم هي بداية فصل جديد في الصراع الداخلي. لن يقبل الحزب بسهولة أن تتحول حملة اعتقال تجار المخدرات إلى نقاش بشأن سلاحه. ولهذا سيستمر في تصوير الدولة كأنها العدو الأول، والجيش كأنه منحاز، والقضاء كأنه أداة تستهدف "المقاومة."
إلا أنه لا يمكن إخفاء الحقيقة، لبنان لن يستعيد عافيته ما دام هناك سلاح خارج الدولة، وما دامت الطوائف تُدار كإقطاعيات، وما دام اقتصاد الظل أقوى من الدولة نفسها.
نوح زعيتر ليس جوهر المشكلة. إنه مجرد عَرَض. والمرض الحقيقي هو سلاح خارج الشرعية، وقرار خارج الحدود، ومنظومة تستغل الطوائف لتحقيق مكاسب سياسية.
قد يفرح البعض اليوم بمشهد تسليم نوح، لكن الفرحة الحقيقية ستكتمل يوم تُسلّم الميليشيا سلاحها إلى الدولة، لا يوم يُسَلّم تاجر مخدرات نفسه إلى الكاميرا.
يحتاج لبنان إلى أمر واحد فقط: دولة تتخذ قرارها بنفسها، وجيشٌ منيعٌ مُحَصّن من التدخلات، وقضاءٌ لا يهاب أحداً.
لكن سقوط نوح، بكل ما يحمله من دلالات سياسية وأخلاقية، لا يجب أن يتحوّل إلى عملية انتقال "فندقي" من قريته النائية إلى مرتفعات روميه. الخشية الحقيقية اليوم ليست من هروبه من السجن، بل في بقائه؛ خِشية من احتمال تحويل سجنه إلى جناح خاص، وغرفة محروسة، ومَنحِه الامتيازات التي مُنحت لغيره، فيواصل من داخل أسواره إدارة شبكته، وتوزيع سمومه، واستثمار نفوذه، وربما توسيع نطاق أنشطته تحت حماية من تبقّى من حُماته. العدالة التي لا تُطبق على المجرم داخل السجن ليست عدالة، بل إعادة إنتاج للجريمة نفسها في مكان آخر وبأدوات أكثر أماناً.
لبنان لم يعد يحتمل مسرحيات جديدة، ولا وجود ميليشيات صغيرة داخل سجون كبيرة، ولا قضاء يوزّع العدالة على قياس الطوائف. يجب أن يكون سقوط نوح بمثابة بداية نهاية، لا بداية مسرحية جديدة.