جريدة الجرائد

عبدالمعطي حجازي:لسنا أشرارا

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

نحن لسنا أشرارا بطبعنا كما يتصورنا بعض الغربيين‏,‏ لأن أفرادا منا أو جماعات حاصرتها المظالم والنكبات فلجأت إلي الدين تقحمه في السياسة‏,‏ وتعلن باسمه الحرب علي من تعتبرهم أعداءها‏,‏ فتغتالهم‏,‏ وتخطف طائراتهم‏,‏ وتفجر أجساد المنتمين إليها في حافلاتهم وقطاراتهم‏,‏ لا تفرق بين محارب ومسالم‏,‏ أو بين قاتل محترف مثل أرييل شارون ويهود مغلوبين علي أمرهم من النساء والأطفال والشيوخ‏.‏

وليس الغربيون أو اليهود أشرارا بطبيعتهم كما زعم بعضنا‏,‏ لأن أفرادا منهم أو جماعات لم تكف عن اعلان الحرب علينا طوال القرنين الأخيرين‏,‏ تحتل أرضنا‏,‏ وتمزق بلادنا‏,‏ وتسرق ثرواتنا باسم الحضارة مرة‏,‏ وباسم المجتمع الدولي مرة‏,‏ وباسم الديموقراطية وحقوق الإنسان‏,‏ كما يفعل المستوطنون اليهود في فلسطين‏,‏ والغزاة الأمريكيون في العراق‏.‏

والمقام الذي أجد نفسي فيه الآن لا يسمح لي بزهو أو طرب أو حماسة‏,‏ بل أنا آسف مكتئب‏.‏ ولكني مع ذلك مضطر لأن أدفع عن نفسي وعن المصريين والعرب والمسلمين جميعا هذا الشر الذي نتهم به‏,‏ ويزعم من يتهموننا أنه طبيعة متأصلة فينا‏,‏ كأننا من طينة غير الطينة التي خلقت منها بقية الأمم‏.‏

لا‏,‏ وإنما نحن وبقية البشر طينة واحدة‏.‏ وربما سبقنا غيرنا إلي التحضر والتمدن والتقدم‏,‏ فإن كنا قد تخلفنا بعد ذلك فكما جري علي أمم كثيرة أخري ذلت بعد عز‏,‏ وتراجعت بعد تقدم‏,‏ وانحطت بعد علو وارتفاع‏.‏

والتاريخ البشري في أي عصر من العصور لا تصنعه أمة وحدها حتي وإن احتلت فيه المكان الأول‏,‏ وحتي لو كان هذا التاريخ تاريخها هي بالذات‏.‏ لأن أي أمة لا تستطيع أن تعيش بمعزل عن غيرها من الأمم‏,‏ كما لا يستطيع الإنسان الفرد أن يعيش بمعزل عن غيره من الناس‏,‏ وإنما تعيش الأمة في السلم والحرب‏,‏ وفي القوة والضعف مع الأمم الأخري‏,‏ تؤثر فيها وتتأثر بها‏.‏

ولقد تعلم اليونانيون القدماء من المصريين القدماء‏,‏ كما تعلموا من الفينيقيين والبابليين‏,‏ فكان من نتيجة ذلك أن خرج اليونانيون من بلادهم‏,‏ وبنوا مستوطناتهم في البلاد التي تعلموا منها‏,‏ وتحولوا من ثم إلي أساتذة ومعلمين للشعوب التي تتلمذوا عليها في الماضي‏.‏

والعرب تعلموا من اليهود والمسيحيين‏,‏ ومن الفرس واليونان قبل أن يوحدوا العالم القديم تحت لواء حضارتهم الجامعة من شواطيءالأطلسي‏,‏ إلي شواطيء الصين‏.‏

والحروب الصليبية التي شنها علينا الأوروبيون في العصور الوسطي انتهت بانتصارنا عليهم‏,‏ لكنها خوفتنا من أوروبا‏,‏ ودفعت بنا إلي العزلة‏.‏ وعلي العكس كان مصير الأوروبيين الذين انهزموا في هذه الحروب‏,‏ وعادوا إلي بلادهم‏.‏ فقد خرجوا من عزلتهم التي ضربت عليهم في بداية العصور الوسطي‏,‏ حين اجتاحت القبائل الشمالية المتبربرة أقاليم أوروبا المتحضرة‏,‏ ومزقت وحدتها‏,‏ وحرمتها من التقدم والتطور‏,‏ فكانت الحروب الصليبية فرصة اتصل فيها الأوروبيون المتخلفون بالعرب المسلمين الذين كانوا في القرن العاشر الميلادي والقرنين التاليين قد بلغوا قمة تحضرهم‏,‏ ثم تسرب إليهم الوهن‏,‏ وأحاط بهم الأعداء‏,‏ وانتقلوا من طور الاندفاع‏,‏ والفتح‏,‏ والاكتشاف‏,‏ والمغامرة إلي طور التردد‏,‏ والتحصن بالثوابت‏,‏ والدفاع عن النفس‏,‏ والانغلاق علي الذات الذي تحول إلي انحطاط لم نخرج منه إلا بالحملة الفرنسية التي استخدم فيها بونابرت من أدوات الحضارة الحديثة ومنجزاتها المادية والعقلية‏,‏ اقتبسنا منه ونهضنا بعد نوم طويل‏.‏

هذا هو تاريخنا‏.‏ حركة متصلة من التقدم والتقهقر‏,‏ والاندفاع والأرتداد بين عصور مضيئة وعصور منطفئة لم نصنعها وحدنا‏,‏ بل صنعها معنا الذين اتصلنا بهم واتصلوا بنا‏.‏
وكذلك تاريخ الغربيين الحافل بالبطولات والمخازي‏.‏

فالذين بنوا روما كانوا أوروبيين‏,‏ والذين هدموها كانوا أوروبيين‏.‏ الذين أقاموا المحارق لأحرار الفكر كانوا أوروبيين‏,‏ والذين دافعوا عن حرية الفكر واستشهدوا في سبيلها كانوا أوروبيين‏.‏ زعماء الثورة الفرنسية أوروبيون‏,‏ وأعداؤها أوروبيون أيضا‏.‏ فلاسفة النازية والفاشية وزعماؤها كانوا أوروبيين‏,‏ وفلاسفة الاشتراكية والديموقراطية كانوا أوروبيين كذلك‏.‏ والأوربيون هم الذين اغتصبوا أمريكا‏,‏ وأبادوا ملايين الهنود الحمر‏,‏ واستعبدوا الأفارقة‏,‏ واحتلوا بلادهم‏,‏ ودمروا حضارتهم‏.‏ وهم الذين حاربوا الرق في أنحاء العالم‏,‏ وحرروا العبيد‏,‏ وأعلنوا حقوق الإنسان‏.‏

نحن لسنا أشرارا بطبيعتنا‏.‏ والغربيون ليسوا أشرارا بطبيعتهم‏.‏ والأشرار الحقيقيون هم الذين يميزون بين جنس وجنس‏,‏ ويفضلون لونا علي لون‏,‏ ودينا علي دين‏.‏

لكن تسليمنا بأننا جميعا لآدم‏,‏ وآدم من تراب فهو إذن بشر يعرف الخير ويعرف الشر‏,‏ ويجوز عليه الصواب والخطأ ـ تسليمنا بأن طبيعة البشر واحدة‏,‏ وتاريخهم متداخل متفاعل متصل‏,‏ وحضارتهم مشتركة لا يعني التسوية بين المخطيء والمصيب‏,‏ أو بين القتيل والقاتل‏.‏

التسوية هنا ظلم‏,‏ لأن الفعل الإنساني لا يصدر عن الطبيعة وحدها‏,‏ وإنما يصدر عن العقل أيضا‏,‏ فهو إدراك واختيار‏.‏ وإذن فالإنسان مسئول عن أفعاله‏.‏

وأشد ظلما من التسوية بين المعتدي والمعتدي عليه‏,‏ أو بين من يبدأ بالعدوان ومن يرد علي الشر بشر مثله أن نتستر علي المجرم ونمسك بتلابيب الضحية أو نمسكها له كما يفعل بعض الغربيين الذين يرون عنفنا‏,‏ وتعصبنا‏,‏ وعداءنا للديموقراطية وحقوق الإنسان‏,‏ ولا يرون الذين بدأوا بالعنف والتعصب‏,‏ وتنكروا للديمقراطية وحقوق الإنسان من الأوروبيين والصهيونيين والأمريكيين‏.‏

نعم‏,‏ نحن لا ننكر أن في بلادنا جماعات متخلفة تفرض علينا تشددها وتعصبها وانغلاقها‏,‏ وفيها منظمات ارهابية تزلزل أمننا‏,‏ وتصادر حرياتنا‏,‏ وتهدم كل ما بنيناه في نهضتنا الحديثة‏,‏ وتعزلنا عن العالم‏,‏ وتزعم لنفسها كل فضيلة‏,‏ وترمي الآخرين بكل منقصة‏.‏

والمؤسف‏,‏ والمخيف أن تنفرد هذه الجماعات بالساحة العامة التي غاب عنها صوت العقل والضمير الحي‏,‏ وعربد صوت الجهل والخرافة والتعصب المقيت حتي أصبحنا نجد صداه في دوائر العمل‏,‏ وأماكن العبادة‏,‏ وأجهزة الاعلام‏,‏ بل نحن نفاجأ به حتي فيما يتعلمه أبناؤنا في مدارس الحكومة‏,‏ كأن نجد مثلا في كتاب التربية الإسلامية المقرر علي تلاميذ الثانوية العامة كلاما عن اليهود يصفهم بالغدر‏,‏ والخيانة‏,‏ والعنصرية‏,‏ وكراهية الأجناس الأخري‏,‏ وعدم الولاء للبلاد التي يعيشون فيها‏.‏ وهي صفات يطلقها الكتاب علي اليهود جميعا لا يستثني منهم أحدا‏,‏ ويؤكد أنهم يولدون بها ويموتون‏,‏ ويرثها الأخلاف منهم عن الأسلاف‏,‏ ولهذا تظل صفاتهم باقية فيهم لا تزول ولا تحول لأن يهود الأمس ـ كما يقول الكتاب المقرر ـ هم يهود اليوم والغد طينة واحدة‏!‏

هذا الكلام هو الكلام العنصري الكريه الذي يجب علينا جميعا أن نستنكره‏,‏ ونتصدي له‏,‏ ونطارده في كل مكان‏,‏ ونستأصله من فكرنا وسلوكنا لأنه وهم خرافي لا يستند إلي علم أو واقع‏,‏ ولأنه يسيء إلينا قبل أن يسيء لليهود‏,‏ ولأنه يخدعنا ويضللنا إذ يوهمنا بأننا أفضل من سوانا‏,‏ فنلوذ بهذا الكذب المريح‏,‏ ونجعله بديلا عن أن نجاهد أنفسنا‏,‏ ونغير واقعنا‏,‏ ونتخلص من عيوبنا‏,‏ ونستنهض قوانا‏,‏ ونسترد حقوقنا‏,‏ ونبلغ أمانينا‏.‏

لكن هذه النزعات المقيتة التي انتشرت في أوساط كثيرة عندنا ليست مقصورة علينا أو محصورة فينا‏.‏ ولو تأملنا الصورة التي ترسمها الأفلام وأجهزة الاعلام الأمريكية لنا ولغيرنا من شعوب العالم الثالث لأدركنا سر هذه الكراهية التي يصبها الأمريكان أو معظمهم علينا وعلي غيرنا‏.‏ القنابل الذرية التي جربها الأمريكان في أجساد المدنيين اليابانيين كانت قنابل عنصرية‏.‏ وحرب فيتنام كانت حربا عنصرية‏.‏ وحرب العراق حرب عنصرية وصليبية أيضا باعتراف المتهم الأول‏!‏

ولو تتبعنا ما يقوله عنا ويفعله بنا النازيون الجدد في أوروبا‏,‏ والأصوليون اليهود في إسرائيل لعرفنا أن العنصرية في هذه البلاد ليست أقل خطرا من العنصرية في بلادنا‏,‏ وأن تعصب اليمين الصهيوني‏,‏ وامتثاله لسلطان الخرافة‏,‏ واستهانته بالعرب وبثقافتهم وتراثهم وحقوقهم الوطنية والشخصية‏,‏ ودمائهم لا يختلف في شيء عن تعصب الطالبان والقاعدة‏,‏ بل هو أفظع وأشنع لأن الطالبان لم يحتلوا بلاد الآخرين ولم يحكموا شعوبها بالنار والحديد كما يفعل الإسرائيليون الآن‏.‏

ونحن نقرأ فيما يكتبه الروائيون الإسرائيليون أن العرب جبناء مرتشون‏.‏ وأنهم لم ينتجوا شيئا يستحق المشاهدة خلال الأعوام الألف الأخيرة إلا كباريهات‏,‏ وكارتات بوستال حقيرة‏,‏ من طنجة إلي طهران‏,‏ وأن الضباط البريطانيين العاملين في فلسطين أيام الانتداب كانوا يفشلون في استدراج أي فتاة يهودية لمخادعهم‏.‏ ولما كان من المتعذر عليهم أن يعثروا علي فتيات أنجليزيات‏,‏ فقد اضطروا لمعاشرة نساء العرب‏!‏

أليست هذه عنصرية؟ أليس هذا تعصبا؟ أليس هذا عنفا دمويا؟ أليس الجدار العازل تمييزا عرقيا‏,‏ وعدوانا دائما علي أراضي الفلسطينيين وحقهم في الحياة والكرامة والحرية؟‏!‏ فإذا كانت عنصرية الآخرين لا تبرر لنا العنصرية‏,‏ فمن حقنا علي الأقل أن ندفع عن أنفسنا تهمة البدء بها‏.‏

نحن لم نبدأ اليهود بالعدوان لأنهم لم يكونوا هنا من قبل‏,‏ وإنما هم الذين بدأونا به وفرضوه علينا‏,‏ حين أغتصبوا فلسطين اغتصابا وطردوا أهلها منها‏.‏ نعم‏,‏ لسنا نحن الذين خلقنا الارهابي مناحم بيجين والارهابي آرييل شارون‏,‏ الصهيونية هي التي خلقت أسامة بن لادن‏,‏ وأيمن الظواهري‏,‏ وعمر عبد الرحمن‏!‏

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف