عز الدين جلولي: الفقه الشيعي والمصالح
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الفقه في الدين، كغيره من ميادين المعرفة الانسانية، يخضع لظروف موضوعية تهز مفاهيمه وتوقعه في تناقضات، تسهم الى حد كبير في اعادة تشكيله وبنائه، وتحديد سيرورته واتجاهه، وان بقيت ثوابته قائمة لا تتبدل صونا لإلهية المصدر، وحفاظا على نبوة التطبيق.
عرف الفقه الاسلامي، بشتى مذاهبه، قديما، ازمة الوضع في الحديث، وعانى لزمن طويل من مأزق تهافت العقل على النقل في التشريع، كما عرف مقولة الانفلات عن المذهبية وولاية الفقيه في عصرنا الحديث. وكان لتلك المآزق كامل الفضل في تحريك القرائح الراكدة وتحريض العقول الجامدة على الابداع والتفكير، فتخطى الفقه الاسلامي كثيرا من معضلاته، وأخذ طريقه نحو الغاية التي من أجلها وجد، وإن كانت باتجاهات اخرى في اكثر الاحيان.
ولم يكن الجانب السياسي من هذا الفقه بمنأى عن هذه التغيرات، بل ظلت اختيارات فقهية، شب عليها العلماء، كوجوب طاعة ولي الامر وحرمة الخروج عليه، وان ضرب ظهرك وأخذ مالك، معضلة في الفقه السياسي السني، الذي توارث عقلية الولاء للحاكم، سواء أكان عربيدا ام عدلا، ظالما ام عادلا، حتى رُمي فقهاء السنة من إخوانهم الشيعة بالركون الى الظالمين، وممالأة الحاكمين في وجه القائلين بالثورة على الطغيان، الحاملين لشعار lt;lt;والله لن اعطيكم بيدي اعطاء الذليل، ولن أقر لكم اقرار العبيدgt;gt;، الكلمة التي اطلقها مدوية الامام الحسين رضي الله عنه وأرضاه.
ولم تحاب سنن في التاريخ انكفاء هذا المذهب او ذاك عن ولوج ساحة في الحياة وُجد الفقه لتنظيمها، او تقصير فقيه او مجتهد عن واجب الافتاء في هذا الباب او ذاك، بل جرّ هذا الفقه حامليه عنوة كي يؤدوا امانة الاجتهاد او يعتزلوا، فكانت محنة خلق القرآن امتحانا قاسيا لعلماء الامة، الى ان انبرى لها ابن حنبل فسوّاها. كما كادت نظرية ولاية الفقيه تصبح، على ما كانت عليه في الماضي، اجماعا لدى الشيعة لولا ان قيض الله الامام الخميني ليكسر القناعات ويبدل المعهود الذي ران على اهله فأوشكوا على الاستقالة من صناعة التاريخ، لولا أنهم عادوا فعادت معهم نصوص الدين حية من جديد، تنظم واقع الامة في السياسة والدين.
ولم يزل حبل هذه السنة على الجرار، فيما عرفه تاريخ الفقه الاسلامي وقرره العلماء، في وجوب النفير العام اذا دخلت اراضي المسلمين جيوش الاعادي، فيلزم الجميع القتال رجالا ونساء على حد سواء، لا تستأذن المرأة في ذلك زوجها، ولا الابن ابويه، ولا العبد سيده، حفاظا على كيان الامة من الزوال، واي زوال اعظم من الاستعمار الذي حل بالديار فاستباح الاعراض والاموال. ويبدو ان بعضا من مراجع الشيعة ضربت صفحا عن هز المعلوم من الدين بالضرورة، ولزمت الصمت امام احتلال بلاد الرافدين الا من بيانات توجيهية لا تجيز التعامل مع الغزاة، ولا تدفع ايضا بمقلديها الى واجب رفع السلاح ومنازلة الاعداء مهما كانت النتائج، ببيانات لا تخدم الاستقلال ولا تضر بالاستعمار. بل انها انعكست سلبا على مصداقية اصحابها في أحايين كثيرة، اعلنوا خلالها مناطق الشيعة، والشيعة فقط، خطوطا حمراء لا يجوز تعديها. ولما جاوزها المستعمرون الجدد وقابلتها الحوزة الناطقة بالحديد والنار، رأينا هذه المرجعية الدينية تساوي بين المعتدين والمجاهدين، وتطالب الجميع بالخروج من النجف وكربلاء على قدر المساواة.
ولم تسلم الحوزة في ايران ايضا من انتقادات رموز دينية بارزة، جراء صمتها واستكانتها للامر الواقع، وماذا عساها فاعلة لو استبيحت الاراضي الايرانية؟ فهل تراها تدعو الى المقاومة السلمية؟ وما يدعو للعجب حقا في هذا الفقه الحوزوي الجديد، مناهضة من حمل لواء الثورة على العدوان وراح يشق طريق النصر بالدماء!
ربما كان مقصد المرجعية الدينية الشيعية تعويم lt;lt;السلطة العراقيةgt;gt; الجديدة، التي عينها الاحتلال الاميركي للعراق، ودعم الموالين لها تحملا لأخف الضررين، وهو اجتهاد مدفوع شرعا وتاريخا، فآي الذكر الحكيم والسنة المطهرة وفعل الاخيار عبر التاريخ ما تجد فيها مطلقا ما تفعله هذه المرجعية، بل ان النصوص جميعها تدعو الى القتال وبذل النفس والنفيس من اجل درء الأعداء عن اراضي المسلمين. ولست متهما جهل هؤلاء بالفقه ابدا، بل يقيني انهم جعلوا منصوص الشرع من باب المصالح المرسلة، التي لا نص فيها فيعمل ساعتئذ حساب الفائدة والخسارة، كما انهم لم يخبروا طباع الاستعمار، او الاستدمار كما كان يسميه المؤرخ الجزائري المرحوم الدكتور مولود قاسم نايت بلقاسم، ولم يذوقوا طعم وعوده الكاذبة وقهره المذل. عرف ذلك الجزائريون في الخامس من ايار عام 1945م، عندما شاركوا فرنسا حربها على الألمان فانتصرت، آملين بتحقيق وعودها لهم بالاستقلال، وما ان طالبوها في احداث (قالمة سطيف خراطة) التاريخية، حتى راحت آلتها العسكرية تحصد خمسة واربعين الفا من الشهداء في غضون ايام قليلة، شكلت منعرجا لا تخطئه العين، جعل الجزائريين يوقنون بسراب وعود المستعمرين، واستيقنوا بأن للحرية الحمراء بابا، بكل يد مضرجة يدق.
قد نأسف لطول الزمان الذي ولى من دون ان تعي شريحة واسعة من العراقيين انهم في سكرة من التاريخ، تنيمهم قابلية للاستعمار بادية، وتعميهم عن طريق الجهاد ثارات مع البعث البائد. وهم مخطئون في ذلك أيما خطأ، لأنهم فضلوا الأسوأ عن السيء، فجرّهم ذلك الى الضلالة رغم المحجة البيضاء. وان تعجب فعجب المراهنة على الحاكم الجديد تسليما بأنه غلب واستولى، ومخاطبته كأنه الحكومة الشرعية للبلاد. ونسي هؤلاء، في تكييفهم الفقهي لهذا الوضع، ان الحاكم الشرعي هو الرئيس الأسير، رغم طغيانه وظلمه. وهو من أعلن النفير العام وحرّض العراقيين على القتال، ولعله في ذلك كان احسن تطبيقا لمقولة الحسين، السابقة الذكر، من اولئك السائرين على طريق الحسن والحسين، اللذين لا يرضيان بحكم بريمر ونيغروبتي وأتباعهما بالتأكيد.
ان العودة الى وحدة الاصول في الفقه الاسلامي، سنيّه وشيعيّه، وعدم الاستنكاف عن الآيات المحكمة في باب الجهاد والقتال وفعل الامة عبر تاريخها الطويل، فيما لو ديست اراضي المسلمين وانتهكت حرماتهم وقتلوا تقتيلا، كفيلة باعادة التوازن لمسيرة الفقه الاسلامي عامة والامامي خاصة، في زمن تعيش فيه الامة مأزقا تاريخيا لن يسجل فيه المؤرخون الا نكوصا عن المقاومة والتحرير، ومشاركة للغازين في الادارة والحكم، ورميا للمجاهدين بالارهاب، كبرت كلمة تخرج من افواههم.
وللشعوب وحدها دوما الحكمة وفصل الخطاب، ولن يسع العراقيين الا ما وسع الجزائريين في ثورة التحرير الوطني، التي استلهمت من جواز قتل الثلث لاصلاح الثلثين، كما يروى عن مالك الامام، قوة لا تلين، وعزما شديدا، قدم به المجاهدون على طريق الاستقلال مليونا ونصف المليون من الشهداء، هم ثلث الشعب الجزائري آنذاك تقريبا، ولا يذكر من ذلك التاريخ الا اخبار البطولة والفداء. أما العملاء، او (الحرْكى) كما كانوا ينادون، فقوامهم لا يعد ولا يحصى، وجزاؤهم معروف في حقب الزمان دائما.