عزمي بشارة: الامبريالية والشباب المعجبون
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الخميس: 06. 10. 2005
فيما عدا استنتاجات اضطرارية تحتمها وحول التجربة المباشرة ودمويتها لم تتعرض السياسة الأميركية في المنطقة لإعادة نظر. فالديموقراطية لم تكن أصلاً غايتها. ولا كانت الديموقراطية غاية الانتخابات العراقية النيابية والفلسطينية الرئاسية والانتخابات البلدية السعودية التي تساق إلى النقاش كأول غيث الديموقراطية. فبعدها استمر العنف الدموي في العراق متخذاً أبعاداً غير مسبوقة، وبعدها تم تثبيت العلاقة الأميركية مع أنظمة بدت هدفاً لسياسة «زعزعة الاستقرار البناءة» كسياسة أميركية مقصودة.
والولايات المتحدة لا تزال تتصرف كأنها في بداية لحظتها التاريخية في المنطقة كما بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى. وقد بدأت لتوها بتوزيع وعود لشارون شبيهة بوعد بلفور والتخطيط لتقسيم المنطقة على أساس طائفي.
حتى خراب العراق يُنظر اليه من زاوية الضرر الذي تتعرض له الولايات المتحدة جراء هذا الخراب وليس من زاوية ما يتعرض له العراق. ولغرض رفع المعنويات في أميركا تفتق ذهن الرئيس الأميركي اخيراً بعد اجتماعه بقياداته العسكرية (يوم 28 سبتمبر) عن «خطة للانتصار في العراق» تتمثل في دفع العراقيين إلى الدفاع عن الحرية التي اكتسبوها عبر بناء جيش عراقي قادر على ذلك، مؤكداً أن أميركا ستترجل عندما ينهض الجيش العراقي ويدافع بنفسه عن الحرية.
الولايات المتحدة نفسها التي بدأت بحل الجيش بمرسوم من القيصر بريمر الأول الكبير في أيار عام 2003 هي التي تدفع إلى الكونفيديرالية الطائفية، وهي نفسها التي تؤدي بسياستها أن تزداد قوة وهيبة المليشيات الكردية والشيعية الحزبية على قوة الجيش، مما يزيد من عنف الرفض في المناطق التي باتت تسمى سنية. وهذه التسميات غريبة على العراق حتى الحرب العراقية - الإيرانية، والأخيرة من مصائب صدام حسين بدعم من كل حلفاء أميركا الحاليين وبمعارضة أعداء أميركا الحاليين. لكن تسييس الطائفية بهذا الشكل الذي فاق كل تصور هو انجاز أميركي.
ويتساءل الصحافيون والمعلقون الأميركيون عن السبب من وراء ارتباك البيانات الأميركية بين التفاؤل والتشاؤم بخصوص إعادة بناء الجيش العراقي وقدرته على مواجهة «المتمردين». وبعد لف ودوران يهرّب الصحافي الأميركي استنتاجاته من خلال مقالة انطباعية مفادها أن المسؤول هو ثقافة الخوف والكسل وانعدام المبادرة التي نشأت في ظل الديكتاتورية، وأن بناء الجيش يتطلب تغيير هذه الثقافة. (توماس فريدمان، نيويورك تايمز 29 سبتمبر 2005). واللطيف أن الصحافي المذكور الذي يمهر توقيعه باحتفال بأنه الحائز على ثلاث جوائز بوليتزر يستنتج ذلك من حادثة وصلت إلى مسامعه عن قيلولة المتدربين العراقيين بعد الظهر نتيجة للحر، مما عطل احد تمارين سلاح البحرية الذي يتم تأهيله في القاعدة التي زارها في أم قصر. ولم يلاحظ الصحافي المذكور التناقض في تقريره ذاته عن روح المبادرة والإقدام والإبداع في استخدام الأشعة تحت الحمراء للالتفاف على التشويش على أجهزة التحكم عن بعد في المتفجرات التي امتدحها لدى «العدو» المؤلف من أبناء نفس الشعب وبين ثقافة الخوف وعدم المبادرة المفترضة. ولا يتمكن فريدمان من ملاحظة الفرق الهائل في الدوافع، كما لا يتخيل انعدام الدافع لدى أفراد الجيش وتناميه لدى خصومهم. لماذا لا يتخيل؟ لأنهم كرروا المقولات التي تحط من ثقافة حلفائهم العراقيين كما في حالة فيتنام الجنوبية في مقابل امتداح خصومهم كما في حالة الفيتكونغ إلى درجة أنهم لا يلاحظون أن الحديث هو عن الشعب نفسه، وأن المشكلة قد تكمن في احتقار اتكالية من يتحالف معهم، أي مع المحتلين.
من الصعب تسمية خراب الاقتصاد وإباحته للسرقة وتدمير البلد وفساد بنيته التحتية وتسخير عملية بناء الجيش للشركات التجارية والأمنية المختلفة، ثم فتحه كمصدر رزق وحيد تقريبا لملايين العاطلين عن العمل، من الصعب تسمية هذا كله دافعاً للقتال. قد يدفع ما يجري في العراق أميركا إلى دراسة التدخل العسكري المباشر في دول أخرى في المنطقة العربية بتأنٍ أكبر، وذلك ليس نتيجة لتغيير في سياستها تجاه الدول التي كانت تنوي التدخل فيها، بل نتيجة ما يجري الآن في العراق.
لم تتغير السياسة الأميركية في المنطقة. وبالعكس فهي بتورطها في استغلال الحادي عشر من سبتمبر تدفع نحو الخراب. وهي اذ تفعل ذلك يتعرج مسارها بين البراغماتية اللازمة لحسابات انتخابية أميركية داخلية ومحاذير انتخابية لكي لا تكون هذه آخر دورة للجمهوريين في الحكم لفترة طويلة في الحد الأدنى ولحسابات مصالح أمريكية عالمية وإقليمية في الحالة العادية، وبين الأصولية التي تميز العقيدة الأميركية في السياسة الخارجية والأمن القومي في مرحلة المحافظين الجدد. وقد تفاجأت اخيراً خلال قراءة بعض الدراسات العسكرية المنشورة لمدى عمق الاعتقاد الأميركي بأن هدف التدخلات الأميركية في العالم منذ الحرب الاسبانية الأميركية واحتلال كوبا مرورا بالفيليبين، المسرح الثاني للاحتلالات الأميركية، هو عملية بناء الأمة كمرادف لعملية بناء الحكم التمثيلي والديموقراطية. ويبدو أن للأمر جذوراً أيديولوجية في عملية تثقيف الضباط في الكليات العسكرية الأميركية حتى قبل ظهور المحافظين الجدد وفلسفتهم في السياسة الخارجية، وهي كما يبدو تحويل لتلك الأيديولوجية التبريرية للاحتلالات الكولونيالية إلى نظرية ذات ادعاءات شبه علمية وغرور وثقة بالنفس منقطعي النظير في التنظير لنشر الديموقراطية والدفاع عن نمط الحياة الأميركي وفي جعل الحرية مصطلحاً وأيديولوجيةً في مركزه.
وفي خضم استلال الحجج دفاعاً عن التدخل الأميركي الحربجي في العراق بعدما سقطت حجة «اسلحة الدمار الشامل» سقوطاً مروعاً بصفتها كذبة معولمة (هل رأى احدكم ريتشارد باتلر مؤخراً؟)، تم استلال الديموقراطية من دون تردد كأنها سمة التدخل الأميركي المميزة له عن أنماط الامبراطورية الأخرى في كافة العصور. وللتصوير والتقريب من الأذهان تجلب اليابان والمانيا مثلاً على الديموقراطية كسياسة تدخل أميركية. ولكن الأساس يبقى أن هذه القائمة من دولتين «تكرجان كرجاً» للتدليل على نجاح الديموقراطية بالاحتلال العسكري هي الاستثناء وليس القاعدة من بين نماذج التدخل الأميركي في العالم. فالدولتان تتميزان بحركة قومية وحدوية تحالفت أمريكا معها ضد مقسميها، كما تتمتعان بانسجام داخلي على المستوى اللغوي وحتى «الاثني»، ناهيك عن القومي، وتجربة ديمقراطية او قريبة منها سابقة على مرحلة الحرب، وانسجام الوجود الأميركي مع فكرة الدفاع عن مصالح البلد الوطنية من خطر خارجي: الصين، الاتحاد السوفييتي، المانيا الشرقية... الخ. أما في حال العراق غير المنسجم وغير المتطور رأسمالياً الذي لا تسبق ديكتاتوريته تجربة ديمقراطية فينسجم الوجود الأميركي مع نزعة تجزيئية، ومع التفتيت الطائفي، والمراهنة على عدم الانسجام، والتوجه ضد النزعة الوحدوية، والبناء على مصادر عدم الشرعية وليس على مصادر الشرعية التي كانت قائمة، ولو كانت غير مصدر الشرعية الديموقراطية... وغير ذلك.
كان ينبغي أن تعيد التجربة الأميركية في العراق إلى الأذهان أن التجربتين أعلاه لا تشكلان القاعدة بل الاستثناء مقابل تجارب التدخل الأميركي في كوبا والفيليبين والدومينيكان وهايتي وبنما وافغانستان وفيتنام وكوريا وتشيلي وقبرص وغيرها بدل ان تكون موضوع محاججة مملة حول برنامج مارشال في ألمانيا، خصوصاً أن غالبية «محاولات الدمقرطة» الأميركية باءت بالفشل. وغالباً ما يتم تناسي الدور الأميركي الأمني والسياسي والاقتصادي المباشر الجاري حالياً في جمهوريات آسيا الوسطى، خاصة أن نمط الأنظمة التي يشيد صرحها هناك على أنقاض الحالة السوفياتية بإشراف أميركي ليس ديموقراطياً على الإطلاق إنما استبدادي وفاسد.
في مرحلة بناء العقيدة الأميركية الجديدة عشية العدوان على العراق ردد بوش وبلير، مهندسا التدخل العسكري أسبابا مختلفة في أزمنة مختلفة لتبرير ضرب العراق عسكرياً: تنفيذ قرارات مجلس الأمن (حتى رغماً عنه)، نزع أسلحة الدمار الشامل، تأمين تدفق النفط، إنقاذ الشعب العراقي من سطوة ديكتاتور، دعم الديموقراطية ومكافحة الإرهاب.
وبعد أن صفع الواقع السياسي كافة التبريرات الأخرى مفنداً أكاذيبها أصرّ بوش بتنظير من المحافظين الجدد على الاستمرار في الربط بين نشر الديموقراطية ومكافحة الإرهاب. وقد استند في ما ذهب إليه إلى مقولة أو فرضية أن الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي تميل إلى إنتاج الإرهاب وتصديره إلى اميركا ، وبالتالي قضى هذا المذهب بأن إنتاج الديموقراطية في العالم العربي مسألة أمن قومي للولايات المتحدة لا أكثر ولا أقل.
وسرعان ما اكتشفت أميركا انه حتى بعد زوال الاتحاد السوفياتي، وحتى بعد زوال ضرورة الحفاظ على الوضع القائم في دولة استبدادية إذا كان الوضع فيها لصالح أميركا (في الصراع مع الاتحاد السوفياتي) لا يتطلب الأمن القومي الأميركي تغيير النظام وفرض الديموقراطية غير المضمونة النتائج دائما، بل قد يحتم الأمن القومي أحياناً الحفاظ على وضع الاستبداد القائم تحت رحمة الابتزاز الأميركي.
وتبين للمحافظين الجدد شبه التروتسكيين من ناحية نفسياتهم ومزاجهم السياسي الراديكالي (ملاحظة: الراديكالية برأي الكاتب هي ايضا حالة نفسية وبنية شخصية) وإيمانهم بـ»الثورة الدائمة» أن الولايات المتحدة مضطرة للتصرف أحياناً بواقعية لينين المهتم ببناء النظام الشيوعي في دولة واحدة بدل أو قبل تصدير الثورة كأداة هيمنة. فهي مضطرة للاهتمام ببناء الرأسمالية أو الديموقراطية في دولتها وإعطائها الأولوية في مقابل الثورة الديمقراطية الدائمة، او التحالف مع دول غير ديموقراطية (غير شيوعية في حالة الاتحاد السوفياتي)، إذا كان ذلك في صالح النظام. لذلك ظهر مايكل روبين محرر «الميدل ايست كوورترلي» والباحث في معبد أو معهد المحافظين الجدد «الاميريكان انتربرايز»، في مقالته المنشورة تحت عنوان «من قتل مذهب بوش» (هآرتس 30 سبتمبر)، كمن ينعى منتحباً مذهب بوش الذي كرر إعلانه في كانون الثاني (يناير) 2005 في بداية فترة رئاسته الثانية والقاضي بدعم الديموقراطية والحرية في كل مكان. وهو يدعي أن عصابة قامت بتضليل وخداع رئيسه، وان إدارة بوش قد تراجعت عن هدف الديموقراطية متمسكة بالوضع القائم في مصر وليبيا والسعودية وتركيا وحتى في لبنان.
وفي الوقت الذي تنعى فيه الديموقراطية ويبقى الخراب تظهر بشائر الدراسات حول انعدام العلاقة بين الديموقراطية ومكافحة الإرهاب، أو بين الاستبداد والإرهاب. وفجأة يتضح لبعض الباحثين ان الإرهاب في الصين غير الديموقراطية يكاد لا يذكر مقارنة بالإرهاب في الهند الديموقراطية، وانه في بريطانيا لم تؤثر الديموقراطية على تصميم بعض الشباب المولودين فيها على القيام بأعمال إرهابية وانه في كل من ألمانيا والولايات المتحدة وإيطاليا وإسرائيل واليابان نشأت حركات إرهابية محلية... وهكذا. وليس صحيحاً بالطبع ان الديموقراطية تنتج إرهابا، وصحيح أن الديمقراطية الليبرالية هي أفضل الأنظمة القائمة، أو للدقة أقلها سوء، ولكن لا علاقة بين التوجه إلى الديموقراطية ووقف الإرهاب، كما انه لم تثبت علاقة واضحة بين الاستبداد والارهاب. (غريغوري غوز، هل بوسع الديموقراطية ان توقف الارهاب؟ فورين افيرز، سبتمبر - اكتوبر 2005). والأهم من هذا كله ان الإرهاب كسب ساحة عمل جديدة في العراق المتحلل من الاستبداد.
غريب كيف يتم فجأة ملاحظة الصين والهند، وكيف تختفيان عن الأنظار بسهولة حسب مهمات المرحلة.
في هذه الأثناء يتضح أكثر من أي وقت مضى ما كان دائماً صحيحاً وهو أنه من الخطأ الادعاء أن الفكرة صحيحة وأن الخطأ يكمن في ممارستها كما يقال عادة في حالة الشيوعية. بل يكمن الخطأ في الفكرة التي تتحول الى مذهب موجه للعمل، أي غير المفصولة عن الممارسة ذاتها أن الديموقراطية تصدر محمولة على دبابة، وان الخطأ يكمن في الاعتقاد أن حلفاء أميركا المنصاعين لسياستها الخارجية قادرون على بناء الديموقراطية لمجرد أنهم استقووا بها، وانه من السذاجة الاعتقاد انه إذا كان بعض المحافظين الجدد يؤمنون بذلك فهذا يعني بالضرورة ان الواقعيين في السياسة الأميركية قد صمموا سياستهم بموجب هذا المذهب.
لم يكن نشر الديموقراطية مذهبهم أساساً. وإنما لاءم هذا المذهب سياستهم ومصلحة تطبيقها في مرحلة التعبئة وضرورة استغلال أحداث أيلول إياه. ولكن الثابت هو مصلحة الامبراطورية. وقد تقضي المصلحة ان يبكي لفترة احد الشباب الذين آمنوا ببوش وتشيني ورامسفيلد كما بكى المستوطنون من شارون. وفي النهاية ما يحكم هو المصلحة، وهي أقل عاطفية وتماسكاً مذهبياً مما تبدو، وهي من ناحية أخرى أقل تظاهراً بالعظمة وقلة المشاعر كما الشباب الذي يرغب أن يبدو ناضجاً، وكما يتظاهر شباب المحافظين الجدد في محاولة للظهور بمظهر الأسود غير المكترثين بتفاصيل وويلات الحرب والخراب إزاء المهمة التاريخية التي أوكلوها إلى أنفسهم منذ أن عملوا في الصحافة ومراكز الأبحاث أو كمساعدين لوزراء وأعضاء كونجرس. يشاركهم الواقعيون هذا التبلد في المشاعر تجاه معاناة الآخرين طبعا، ولكن التبلد لدى الواقعيين هو واقع وليس استعراضاً للقوة، وليس موقف خريج جامعة شاب يتحدث عن شن الحرب وسفك الدماء وتشريد الناس وتقسيم الدول بسهولة غير محتملة.
لدى المحافظين الجدد زاوية دافئة في القلب للأيديولوجية وللتماسك المذهبي والمهمة التاريخية للامبراطورية، في حين يفاجئهم الواقعيون كل مرة أن الزاوية الدافئة موجودة في الجيب وليس في القلب، وأن الامبريالية عندهم ليست دينا ولا تعويضاً عن دين، ولا أيديولوجية متماسكة منطقيا تغيظ الحساد بل ممارسة متناقضة تحكمها المصلحة وهدف الهيمنة والتجربة والخطأ في الحفاظ عليها وفي الطريق لتوسيع رقعتها.
كاتب عربي.