خالص جلبي: الكتابة من أجل الرزق أم للإنارة؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الأربعاء: 12. 10. 2005
أرسل لي أخ فاضل رسالة يقول فيها أن أسعى له عند رئيس تحرير جريدة عله يحسن وضعه الاقتصادي؟ وكثير يسألونني نفس السؤال: ماذا يدفعون لك عن الكتابة؟ وهل تعيش منها؟ وبعضهم يشتط في السؤال فيريد معرفة عدد الريالات عن عدد الكلمات؟ وأسئلتهم توحي بسؤال جاهل خارج الفن! وحرفة الكتابة خطيرة أكثر من كونها مربحة! والفلاسفة في العادة مفلسون، ولو كنت أستاذا جامعيا لطردت من الكلية منذ وقت بعيد، فالجامعات مؤسسات ليست للإنتاج المعرفي، والفكر فيها محاصر، وهو مرض قديم في كل الثقافات· ومن طلب الرزق من خلف الكتابة فقر وأكدى، ومن بنى العلاقات على المال وصل إلى المال، ولكن الفكر عصي مفتاحه فلا ينفتح بكلمة بالدرهم والدينار، والتجار غير العلماء، جيوبهم منفوخة وأدمغتهم ضامرة، وكروشهم مدلاة، تقتلهم البدانة والملل واعتياد الملذات، وكهف المعرفة غير كهف علي بابا؛ فليست كنوزه ذهباً وياقوتاً، بل فكرة سانحة، وخاطرة تصطاد، وعلاقة خفية تكتشف، وقوانين غامضة يصل إليها العلماء بالجهد والدأب وقليل من الحظ والصدفة· وهي قوانين لا يحصلها التجار بل العلماء، ولو كان الفكر يحصل بالمال لكان قارون سيد الأنبياء والصالحين والفلاسفة المبدعين، ولكن خسفت به الأرض· وأنا أكتب ما أكتب فأنشره على تخوف، فقسم يحذف وقسم لا ينشر وثالث يكلفني الطيران من منبر كما حصل معي في مقابلة مكاشفات مع جريدة، وقد تهوي بي الريح السياسية في مكان سحيق، وقد تكلفني كلمة مصيري فأنا أمشي على أرض مملوءة بالألغام· وقد ينشر لي من ينشر غدا، وقد يستغنوا عني بعد غد وبسطرين من فاكس، هذا إن أعطوك هذه الكرامة، ولذا فكل مقالة أكتبها هي مقالة مودع· وأي رئيس تحرير لا تربطني به أي رابطة إلا الفكر، ولا أدري إلى كم من الوقت سوف يتحملون أفكاري، وكثير مما أكتب يحذفه الرقيب ويشذبه الأريب، فالرأي العام لا يتحمل، ولذا فعلينا أن نقول قولا لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا في ظلمات العصر العربي· وقلت لمن طلب النصيحة أن يتجنب المال غاية بوسيلة الفكر فحذرته: إياك أن تجعل رزقك من الكتابة فتصبح عبد الدرهم وعبد رئيس التحرير، فإن غضب عليك أصبحت في خبر كان، وإن رضي عليك قربك وأدناك ليس بكفاءة بل عن علاقة، وهذا المرض موجود في بعض المؤسسات وليس كلها، فيجب أن نتعلم عدم التعميم، ووصف القرآن أهل الكتاب بأنهم ليسوا سواء، وهذا قانون بشري يجب أن نضعه نصب أعيننا حتى نتعامل مع الحياة بدون تطرف فنستمر في العطاء· وأنا رجل طبيب جراح مختص في فرع من فرع من فرع، فمن أعمل معهم يحتاجونني ويحرصون علي، ويجب ألا أنتفخ غرورا ورياء وبطرا، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، وقد أطير من وظيفتي بتصرف أحمق، ولكن علي أن أعيش وفق إمكانياتي وبكرامتي، وأن يكون عملي رزقي· وقيمة المرء عمله، وخير ما أكل المرء من صنع يديه، وإن عبد الله داوود كان يأكل من عمل يده، وأوحى الله إليه أن اعمل سابغات وقدر في السرد، اعملوا آل داود شكرا، وقليل من عبادي الشكور· وأنا أعيش ليس من الكتابة ولا أفكر أن يكون رزقي من الكتابة يوما، فأنا أنفض بالليل بالريشة غبار العقول، وأحرر بكلماتي عقول الأسرى في أصفاد التقليد، وأنبه النائمين الغافلين بحي على الفلاح، والصلاة خير من النوم، وفي النهار أشتغل جراح أوعية أسلك شرايين المدخنين، فما فاضت به النفس من الكلم الطيب أرسلته للكتابة بعد تعب ونصب وتغيير وقد لا ينشر لأن مغارة السياسيين لا ترحب بالعلماء·
قلت للأخ الذي طلب النصيحة:
ضع نصب عينيك قاعدة الواجب والحق · قم بواجبك تنشق السماء ويأتيك حقك· وتحويل هذه القاعدة إلى عالم الكتابة يشبه علم الرياضيات وتقول أخلص للكلمة يأتيك الناشر سعيا، وانتقل للقاعدة الثانية الخلدونية أن العلماء في العادة ليسوا أصحاب ثروة فقرر منذ الآن ماذا تكون؟