كيف نجـح الدستور العراقي؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الجمعة: 04. 11. 2005
د. عبدالحميد الأنصاري
اجتازت مسودة الدستور العراقي، امتحاناً صعباً، ونجحت -أخيراً- وبعد طول انتظار في الحصول على موافقة الغالبية من الشعب العراقي، لقد كان مصير المسودة معلقاً وحتى اللحظة الأخيرة على نتائج تصويت محافظة ''نينوى''، فقد قالت محافظتان هما ''صلاح الدين'' و''الأنبار''، ''لا'' قوية في وجه المسودة· وقالت 15 محافظة ''نعم''، وقانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية ينص على وجوب أن يرفض المسودة، الناخبون في 3 محافظات بغالبية الثلثين وليس بالأكثرية البسيطة، لذلك توجهت أنظار الجميع - المؤيدين والمعارضين- إلى''نينوى'' ووضع الجميع أياديهم على صدورهم قلقين مترقبين، المؤيدون خشوا سقوط المسودة، وبسقوطها تعود العملية السياسية إلى نقطة الصفر، انتخابات جديدة ومجلس تشريعي جديد ودستور جديد، والمعارضون تمنوا سقوط المسودة ليثبتوا نجاح مراهنتهم الأولى في مقاطعتهم للانتخابات البرلمانية· وبين الخوف والرجاء كانت المفاجأة، فقد قالت ''نينوى'' ''لا'' ولكنها ''لا'' ضعيفة، بنسبة 55% لا تسقِط المسودة، إذ هي بحاجة إلى 11% وبما يوازي 88 ألف صوت لإسقاط المسودة· وهكذا نجت المسودة من السقوط ونجحت في معركة الاستفتاء الحرجة التي شارك فيها 10 ملايين عراقي وبنسبة بلغت 63%، وهي نسبة أعلى من نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 30 يناير الماضي وكانت بنسبة 58% وبمشاركة 8,5 مليون عراقي، وترجع زيادة النسبة إلى مشاركة العرب السنة بكثافة هذه المرة، بعد أن قاطعوا الانتخابات الماضية، وذلك بهدف إسقاط المسودة·
المهم أن المسودة أقرّت بنسبة 78% وهي نسبة عالية بكل المقاييس، وقد صرحت ''كارينا بيريللي'' التي ترأس فريقاً تابعاً للأمم المتحدة يقدم مساعدة فنية للحكومة العراقية ''إن عملية الاقتراع التزمت بأرقى المعايير وكانت هناك مراجعة ورقابة، وأجري الاستفتاء فعلاً بطريقة محترفة للغاية''· وأضافت:''النتائج دقيقة وجرت مراجعتها وفقاً للعمليات التي نتبعها جميعاً عندما تكون لدينا انتخابات''·
لقد تنفس الجميع الصعداء، وتبادلوا الفرح والتهاني والتبريكات، فهذا أول استفتاء دستوري يُجرى في العراق منذ أمد طويل، ولذلك فهو يوم تاريخي يحق للعراقيين أن يسعدوا بما حققوه ويستحقوا من الجميع كل تحية وتقدير· وقد أشادت واشنطن ولندن والمفوضية الأوروبية وأستراليا والأمين العام للأمم المتحدة بنجاح الاستفتاء، وقد جاء في بيان للأمم المتحدة أن ''الأمين العام يهنئ العراقيين على هذا الحدث التاريخي الذي سيسجل مرحلة مهمة على طريق العراق نحو الديمقراطية''· وأضاف ''إن نسبة المشاركة العالية في ظروف أمنية صعبة هي الدليل على أن العراقيين اختاروا بطاقات التصويت بدل السلاح للتعبير عن وجهة نظرهم السياسية''· كما أشاد الأمين العام للحلف الأطلسي بالنتيجة وقال:''إن العراقيين بتصويتهم، أظهروا إيمانهم بالعملية الديمقراطية''·
نعم للعراقيين أن يفخروا ويرفعوا الرأس عالياً، فقد استطاعوا أن يحققوا خلال فترة زمنية قصيرة إنجازات سياسية متلاحقة أكثر مما أنجزته شعوب أخرى مرّت بظروف مماثلة، بعد أن تخلصت من نظمها الشمولية القمعية كاليابان وألمانيا وكوريا· وكما يقول شاكر النابلسي: ''للعراقيين أن يتباهوا على العرب بدستورهم الحداثي، فرغم كل المآخذ الشكلية، يبقى هذا الدستور أكثر الدساتير العربية حداثة وتقدماً، فهو الوحيد في العالم العربي الذي قلّل من سلطان الحاكم وأعطى الشعب جميع حقوقه لكي لا يصبح الحاكم زعيماً يُعبد أو قائداً يمجّد'' (السياسة 15/10)· ويقول خليل حيدر ''إقرار الدستور العراقي، نقلة نوعية للوعي السياسي والثقافة القانونية وحقوق الإنسان في العالم العربي، فلم يسبق لمنطقتنا، أن تبنت وثيقة حقوقية بهذه الدرجة من التفصيل والشمول، فهو تطوير لكل ما هو إنساني ومتقدم في جميع الدساتير السابقة·
والسؤال الآن: كيف نجحت مسودة الدستور بعد أن كانت على وشك السقوط؟ ولماذا شارك العرب السنة -هذه المرة- في الاستفتاء؟
أما نجاح المسودة، فيرجع الفضل الأعظم فيه إلى جهتين: الأولى: ''الحزب الإسلامي'' الذي وافق في (اللحظة الأخيرة) على تأييد المسودة، في مقابل إدخال تعديلات معينة عليها بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة، وهي خطوة ذكية تدل على نضج سياسي متميز بين العرب السنة تحسب لصالح الحزب·
وإذا علمنا أن للحزب ''ثقلاً سياسياً'' كبيراً في ''نينوى'' أدركنا وقدرنا أهمية الدور الذي لعبه الحزب في تمرير المسودة، بالرغم من تعرضه لاعتداءات وتهديدات وتصفية أحد أعضائه في الزعفرانية·
والجهة الثانية: قادة الأحزاب والكتل السياسية الرئيسية والمفاوضون عن الحكومة، الذين خاضوا ماراثون ''اللحظة الأخيرة'' لإرضاء العرب السنة، بإمكانية إجراء تعديلات على الدستور بعد 5 أشهر من انتخابات ديسمبر المقبل، هذا الجهد الماراثوني، ضمِن تصويتاً إيجابياً للمسودة، وهو يدل على مرونة سياسية عالية تحلى بها ممثلو الأغلبية الحاكمة·
وأما السبب الرئيسي لمشاركة العرب السنة، هذه المرة، فيرجع إلى أمرين: الأول: إدراكهم أن مقاطعتهم السابقة للانتخابات بحجة ''المحتل'' ليست حلاً، بل ساهمت في زيادة تهميشهم وعزلتهم، والثاني: أنهم أملوا بمشاركتهم الكثيفة وبخاصة في محافظاتهم أن يُسقطوا المسودة، للبرهنة على وزنهم وثقلهم، ولتأكيد دورهم وعدم إغفال مطالبهم فيما يتعلق برسم مستقبل العراق·
وإننا إذ نهنئ العراقيين بدستورهم الجديد ونحيّي إصرارهم على ممارسة حقهم السياسي بالرغم من التهديدات الإرهابية وترويعها، فإننا نحثهم جميعاً على مواصلة جهودهم لخوض الانتخابات التشريعية المقبلة منتصف ديسمبر من أجل عراق الغد، عراق الأمل، العراق العزيز علينا، وكل عام وأنتم جميعاً بخير·