التحولات الفكرية وأزمة الفكر الأحادي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
شتيوي الغيثي
بداية .. لابد من أن نوضح أن الفكر (أي فكر) هو مجموعة التصورات التي نتجت عن حالة ما من الحالات العقلية. أو هو مجموعة من المفاهيم الناتجة عن فكرة أولية وسابقة لها في الوجود العقلي أو التاريخي، ولا تقود بالضرورة إلى الفكرة الصحيحة والسليمة للفكرة الأولية، بل هي مفهوم من ضمن مفاهيم تشترك معها غيرها فيها، وقد تقترب منها في الفكرة أحياناً وقد تبتعد في أحايين أخرى، فالأفكار الاشتراكية مثلا عبارة عن المفاهيم التي نتجت عن أقوال ماركس الاقتصادية، ولا تعني في ذلك أنها مثّلت الفكرة الأولية لأقوال ماركس أو مارستها في الواقع المتعين بشكل صحيح.
وإذا قصرنا الكلام حول الفكر الأحادي الديني، بما أنه موضوع مقاربتنا حول التحولات الفكرية، وخطابه الذي يحاول بثه من خلال قنواته الشفاهية أو الكتابية أو البصرية/ السمعية، فالحال لديه يتقاطع مع حالات كثيرة من الأفكار الأحادية والشمولية بشكل عام، وهذا التقاطع لا يعني التطابق التام في الفكر أو المرجعيات بقدر ما هو تشابه في الآليات والأساليب. كما أن معالجة الفكر الأحادي لا تعني بالضرورة معالجة الفكرة الأساسية كمرجعية عليا يعتمد عليها الخطاب الأحادي الذي يحاول أن يكون ممثلاً وحيداً وأحادياً لهذا الفكر أو محاكمته ـ كما هو موضح أعلاه _ أياً كان هذا الفكر، سواء أكان فكراً قومياً أو فكراً دينياً، فكثيراً ما تكون الأفكار عند تداولها والدعوة إليها جميلة المظهر وبراقة السطح ومثالية التصور، لكن يظهر في الأخير عورها وتهافت منطقها عند أدنى مقاربة أو عند محاولة ممارستها كواقع متعين.
والتحولات الفكرية التي تظهر بين الحين والآخر من داخل المنظومة الفكرية للخطاب الأحادي لتغيير مساراته الفكرية، أو تصحيح مفاهيمه المعرفية، أو تعديل أساليبه التطبيقية، أو حتى محاولة الثورة عليه ونسفه من الداخل، تعطي عند تشكلها كظاهرة تقلق الحراك التقليدي المتبني لها والمروج لسلعتها إيحاءً بظهور بوادر الأزمة المعرفية والحركية لهذه الأفكار أو هذه الأيديولوجيا، لأن التحولات الفكرية تشي بالتفكك الداخلي لمنطق الخطاب، وتظهر عجزها وخورها أمام تحولات الواقع وتطورات التاريخ واحتكاكها بالمتغير، كما تكشف عن الوجوه الحقيقية لممثليها، وتُسقِط كثيراً من الأقنعة أو الأصباغ الفكرية والخطابية، وتزيح الستار عن الحقائق الغائبة والمغيبة خلف حُجبٍ من المراوغة اللفظية والكلامية، وتوهُّم الكمال المعرفي، ولا يبقى من الفكر الأحادي إلا مرجعيته الأولية التي اعتمد عليها، وهي بالطبع لا تخصه وحده ؛ ذلك أنها فكرة عامة ومشاعة في الطريق، حسب وصف الجاحظ _ رحمه الله _ في معرض حديثه عن الألفاظ والمعاني، وهي بلا شك المادة الخام للصياغة الفكرية، والكل له الحق في الرجوع إليها والأخذ عنها.
ولأن الفكر الأحادي بكافة أطيافه الفكرية المتباينة لا يرى في الآخر إلا صورة الذئب تجاه الرعية والراعي، وأنه، بتصوره عن نفسه، هو المسؤول الأول عن بقاء القطيع تحت نظره وتحت رعايته، فإن أي خروج عن هذا التأطير وهذه الصيغة البطرياركية في التوصيف الفكري لتحقيق الذاتية، ومن ثم الإنسانية، التي لا مكان لها هنا، يعتبر خروجاً على الراعي وعلى الرعية، ولا تلبث الذئاب الجائعة والمتربصة والمتآمرة على الانقضاض، لخلق حالة رُهابية عند من يحاول الخروج أو التحول عن القطيع إلى غيره، لأن الخوف من انفراط العقد هو السبب الأخير لخلق حالة الترهيب الفكري، والرُّهاب النفسي.
لكن .. ومع كل ذلك، فالتحولات الفكرية من اتجاهٍ إلى اتجاهٍ آخر أصبحت في الفترة الأخيرة تشكل ظاهرة فريدة في تنوعها وتبدلها، وهذا شكل من أشكال الحيوية الإنسية والصيرورة التاريخية، والدليل على التكيف الدائم مع المتغيرات في الحياة الطبيعية، وهي صفات تشترك بها الكائنات الحية على اختلاف أشكالها، وحالة الركود أو الثبات بالنسبة لهذه الكائنات هي دليل على بداية الانقراض كما هو معلوم في الأوساط العلمية، والعضو الذي لا يستعمل يضمر ومن ثم يموت بعد فترة من الزمن، وهذا هو المقلق بالنسبة لنا نحن ككائنات ثابتة في أيديولوجيا معينة وفي نمط فكري واحد، ونسق متشابه داخل دوائر محددة لا يمكن الخروج منها، أو الوقوف عند نقاط محددة من صفحات التاريخ ثم لا يكون من المقبول تجاوزها، حيث ما ترك الأولون للآخرين من شيء! .
وحين يحاول الفكر الأحادي أن يسد النوافذ المعرفية أو يؤدلجها لصالحه، حتى يضمن بقاء التابعين له في منظومته وتحت قوالبه، فهو في ذلك يخلق أزمته بيده، وإن نجح لفترة فهو بالتأكيد لن يستمر له هذا النجاح مهما طال، ذلك أن الحركة والتبدل والتحوّل من طبيعة الأشياء، وما لم يستطع التكيف مع هذه المتغيرات، فإنه لا محالة سوف يفقد كثيراً من أتباعه لأن الجديد مغرٍ وجميلٌ في ذاته، كما كان الفكر الأحادي فيما مضى جميلاً وذا قابلية لجدَّته، ومهما كانت قيمة الأفكار التي كان يحملها، فإنها في فترة من الفترات ستكون حجر عثرة في طريق التطور والرقي، وهذا أيضا ما سيحصل للجديد حينما يأخذ بالانغلاق و الأحادية . عندها سيحصل له ما حصل لسابقه حيث التحوّل عنه إلى غيره، والانتقال إلى الأجمل منه.
هذا ما هو حاصل _ فيما يبدو حتى الآن ـ لخطابنا الديني، والتقليدي منه بالذات، (غالبيته تقليدي ولا يوجد فيه تيار تنويري إلا نادراً) بدليل ظاهرة التحولات الفكرية العديدة في السنوات الأخيرة من مسيرته منه إلى غيره، كما كان من غيره إليه في العقود القليلة الماضية، وحتى محاولات الترميم التي يحاولها ممثلوه لا تستطيع إخفاء الصدع الظاهر في ثنايا خطابه، فلكل شيء عمره الافتراضي، والأفكار أو الأيديولوجيات الفكرية لها هي أيضا عمرها الافتراضي في حراكها السوسيوثقافي، وتموضعها داخل المنظومة الثقافية والحضارية.
الخطابات الأحادية والدينية منها في تأزم حقيقي، متمثلاً بالعديد من التحولات الفكرية، وما لم تحاول أن تعي الإشارات الصادرة من هنا وهناك عن طريق خلق ديناميكية فكرية، وإيجاد مرونة وحيوية ثقافية في تقبل الاتجاهات الأخرى على أنها أحد إفرازات الحاضر من غير أن تحاول استيعابها ودمجها في منظومتها، فإنها لا محالة، سوف تشهد في الآونة القريبة نسبيا، تحولاتٍ كثيرة وخطيرة من داخله، ما لم تكن في رموزه الخطابية، تسعى إلى تقويض ما تبقى من المرتكزات الفكرية التي يقوم عليها كيانها الفكري والأيديولوجي.
* كاتب سعودي