جريدة الجرائد

أعز مكانٍ في الهوى ظهر سابحٍ

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

السبت:03. 12. 2005

شيء ما
د. حسن مدن


لم يتحث أبو الطيب المتنبي، شاعرنا الأهم والأكبر، عن أية حاضرة أو عاصمة بعينها بصفتها موطناً له، وهو الذي تنقّل بين المدن والعواصم، ذاهباً بالمديح حده المرهف، وذاهباً بالهجاء حده الساخر الأقصى. مكان المتنبي هو صهوة جواده، والدليل على ذلك قوله: “أعز مكانٍ في الهوى ظهر سابح”. هذا على الأقل ما يفتقده شاعر عربي في معرض تداعياته عن فقدان المثقف العربي للمكان، وهو واحد من ستة مثقفين ومبدعين عرب مرموقين قرأت لهم مرة حواراً مع الروائي إلياس خوري عن فكرة فقدان المكان، فقدان الحرية.

بين هؤلاء الفنان الفلسطيني كمال بلاطة، ورغم أنه يعبر باللوحة والألوان، لا بالكلمات، لكنه كان من أكثر المتحدثين دقة في وصف مأزق من هذا النوع. فهو ابن القدس التي كانت قد انقسمت بعد حرب 1948 الى مدينتين وعالمين متباعدين، ليشعر وهو في السادسة من عمره أن مساحة المكان الواسع قد تقلصت، وأن عبور الحد الفاصل بين شطري مدينته بات مكلفاً، سيرحل في وقت لاحق الى أمريكا لا بهدف الاستقرار، وإنما بهدف الدراسة والمعرفة، باعتبار أن المحنة ستنجلي في القريب، حتى قبل أن ينهي دراسته ويعود الى وطنه. لكنه أقام هناك ربع قرن لم يفكر خلالها في شراء بيت من حجر وتملكه، لأنه كان يحلم دائماً بأن هناك مكاناً آخر في مخيلته، كان يعيش فيه. والرجل الذي كان يأمل بأن الوضع سيتغير، سيفاجأ بأنه هو الذي تغير، لأن اتجاه التغير في الوضع لم يكن إلا نحو الأسوأ، هذا إذا نظرنا الى الأمور في نهايتها.

وفكرة فقدان المكان بالنسبة للمثقف العربي فكرة معقدة لكثرة الزوايا التي يمكن مقاربتها منها. إن مفكراً مثل صادق جلال العظم، رغم أنه يتحرك في حيز مكاني محصور بين دمشق وبيروت، إلا أنه يرى أن الثقافة العربية برمتها تفتقد مرجعيتها الجغرافية أوالمكانية، ولهذا برأيه وجه ايجابي، حيث بات مثقفو المشرق العربي يعرفون الكثير عن إبداع وثقافة المغرب العربي، وهو الأمر الذي لم يكن متاحاً أو ميسراً منذ عقدين أو ثلاثة. لكن مثقفاً مغاربياً مثل محمد بنيس يرى الأمر بصورة مغايرة. إنه يعتقد بأننا نعاني مسألة افتقاد المكان بصورة مضاعفة، حيث ثمة افتقاد للحيز المكاني للمشروع التحديثي للثقافة العربية، فهذا المشروع برأيه ينسحب شيئاً فشيئاً من العالم العربي باحثاً عن المنفى، فهذا المشروع كان شبه حقيقة متجسدة في الكتابة وفي الحياة وفي المتخيل، أما الآن فإننا نعيش وكأن ما كان حقيقة قد أمسى وهماً، ولا نعرف كيف نصفه.

في زمن سابق كان المبدع العربي يهاجر بحثاً عن بيئة ثقافية وحضارية أخرى تخصب من إبداعه وتثري ثقافته وتوسع مداركه ومشاهداته. اليوم حتى حين يهاجر المثقف بمحض إرادته، فإنه يهرب قسراً، محمولاً على الهجرة لا بحثاً عن مناخ ثقافي آخر، وإنما بحثاً عن أرضٍ يضع عليها قدميه، عن أرضٍ يجد فيها مأوى، والمسافة بين الهجرتين شاسعة.


E.mail:drhmadan@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف