العرب ومئوية العلمانية الفرنسية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الأربعاء:07. 12. 2005
فيصل جلول
في مطالع شهر ديسمبر/كانون الأول عام 1905 صوتت الجمعية الوطنية الفرنسية بالأغلبية على قانون فصل الدولة عن الكنيسة ما وضع حدا لزواج كاثوليكي بين الطرفين عاش قرونا طويلة. سيعرف القانون من بعد بصفته العلمانية التي يحتفظ بها حتى اللحظة. خلال مائة عام حاولت فرنسا ونخب عديدة في العالم أن تحول هذا القانون المحلي إلى قيمة عالمية جديرة بالتعميم. نجح الفرنسيون في أوروبا، ونجحوا جزئيا لدى بعض النخب في بقية العالم لكنهم أخفقوا في بلاد العرب والمسلمين وخاصة في الجزائر حيث استقروا لأكثر من 130 عاماً ولهذا الاخفاق قصة جديرة بأن تروى.
في العام 1870 كانت فرنسا قد تعرضت لهزيمة عسكرية شنيعة في حرب ارتجالية ضد ألمانيا أدت إلى اسر عشرات الآلاف من الجنود والضباط الفرنسيين وعلى رأسهم الإمبراطور نابليون الثالث. كانت هزيمة شنيعة بكل المقاييس وصلت إلى حد إعلان الوحدة الألمانية في قصر فرساي الفرنسي الشهير. رد الفرنسيون بإعلان الجمهورية الثالثة والغاء النظام الإمبراطوري المسؤول عن الهزيمة. ولم يكتف الجمهوريون بإلغاء النظام المهزوم فقد اندفعوا لتغيير القيم التي كان يرتكز إليها وهو ما لم تفعله تماما الجمهوريتان الأولى التي انتهكها نابليون الأول، والثانية التي انتهكها حفيده نابليون الثالث. وبما أن القيم مرتبطة بالكنيسة الكاثوليكية فقد انبرى نواب الجمعية الوطنية إلى إصدار قوانين متفرقة تكسر ما تبقى من السلطة الكنسية تدريجياً كالسماح بحق الطلاق دون العودة إلى الكنيسة ومنع الصلاة الكنسية الافتتاحية في بداية الجلسات النيابية.. الخ.
كان اليسار الجمهوري الأكثر جرأة في محاربة رجال الدين، لا بل إن أول قانون صريح بفصل الكنيسة عن الدولة صدر عن عامية باريس العمالية عام 1871 خلال عمرها القصير لكن أحدا لن يعود إليه قبل العام 1905 حيث صوتت الجمعية الوطنية ذات الأغلبية اليسارية على قانون يحرر الدولة من سلطة الكنيسة ويجعلها علمانية حيادية في تعاطيها مع كافة الأديان والمعتقدات وبهذا القانون تمكن الفرنسيون من حماية نظامهم الجمهوري المستمر حتى هذه اللحظة، ذلك أن الكنيسة كانت تدافع على الدوام عن النظام والقيم الملكية.
انطوى قانون العام 1905 على تسوية مفيدة للطرفين بالنظر إلى ميزان القوى السياسي الذي يطغى فيه الجمهوريون يسارا ويمينا بقوة على المونارشيين. ذلك أن اليسار المتطرف بزعامة النائب موريس آلار كان يطالب في حينه بإلغاء الكنيسة وليس بفصلها عن الدولة ويدعو إلى منع الرهبان من ارتداء اللباس الديني في الأماكن العامة ومصادرة الكنائس وتحويلها إلى مرافق عامة غير أن النائب الاشتراكي أرستيد بريان المكلف إعداد مشروع قانون الفصل مدعوما من النائب والفيلسوف الاشتراكي جان جوريس، وضب قانونا يحفظ للكنيسة دورها الروحي المهدد جديا بالمد الجمهوري الكاسح ويحرر الدولة من الوصاية والقيم الكنسية.
وفي حين انتشرت علمانية فرنسا في أوروبا بهذا القدر أو ذاك فإنها فشلت في اختراق النسق الحضاري العربي الإسلامي. ذلك أن الإسلام لا يقوم على هرمية كنسية ولا يعيق التطور الاجتماعي ولا يوفر الحماية لنظام طبقي صارم على النسق الفرنسي، وينطوي على مفهوم الجماعة ولا يجيز للحاكم امتيازات يجبها عن العامة كما حال الكنيسة الفرنسية التي كانت تقر حصر حق الصيد بالنبلاء دون غيرهم، ناهيك عن انه لا يعيق التقدم بل يطلبه كما يتضح من آيات القرآن التي تحث المسلمين على دراسة الطبيعة وتوظيف العقل بطريقة فضلى. أضف إلى ذلك انه يختلف عن الأديان الأخرى بكونه اعترف بها وتسامح وتعايش معها ونلمس اثر هذا التعايش في أرقى صوره في التجربة الأندلسية التي تحظى بتقدير حضاري من المؤرخين الغربيين المنصفين.
بعد مائة عام على سيادتها المطلقة في فرنسا وفي قسم وافر من الغرب تنحصر العلمانية في بلاد العرب والمسلمين في نخب ضئيلة التمثيل والتأثير نظرا لطابعها الأيديولوجي وإصرار العلمانيين العرب على النمذجة وإهمالهم الخصوصية بل الانتماء الحضاري المختلف في جذوره التاريخية ومشاغله الخاصة. والعلمانية شأنها شأن الأيديولوجيات الأخرى الوافدة مع وسائل وقيم الاستهلاك الغربية إلى عالمنا المختلف تعاني من مشكلة التوطن والتكيف وذلك على الرغم من الفرص الذهبية التي سنحت لأصحابها خصوصا في الستينات والسبعينات بل طيلة فترة الحرب الباردة.
بعد مائة عام على انتصارها المطلق في فرنسا لا يبدو أن العلمانية موعودة بمستقبل زاهر في عالمنا العربي والإسلامي ليس فقط لأنها كانت بالنسبة للفرنسيين بخاصة والأوروبيين عموما الحل الوحيد للتحرر من الطغيان الكنسي ولحماية مصالح البرجوازيات الصاعدة وبالتالي ليست حلا لطغيان لاهوتي عربي، بل أيضا لأنها لا تنعقد على مصالح قوى محجوزة النمو والتقدم في العالم العربي الذي يعاني حتى إشعار آخر من نوع مختلف من المشاكل يأتينا قسمها الأكبر من خارج الحدود، ولو كانت العلمانية حلاً لهذه المشاكل لما اجتاحت أمريكا النظام العراقي السابق وهو الأكثر علمانية بين كل الأنظمة العربية.