جريدة الجرائد

أعزل إلا من كلمته

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ذاكرة المستقبل
جمعة اللامي


ldquo;أيها الناس.. انه لم يبقَ من عدوّكم إلا كما يبقى من ذنب الوزغة، تضرب بها يميناً وشمالاً، فما تلبث إلا ان تموتrdquo;

(ابن الاشعث)

يروي ldquo;الجاحظrdquo; في ldquo;البيان والتبيينrdquo; ان محمد بن الاشعث خطب بالناس في ldquo;المربدrdquo; البصري بعدما قاتل ldquo;الحجاجrdquo; فقال: ldquo;أيها الناس...rdquo; فمرّ به رجل من ldquo;بني قشيرrdquo;، فقال: قبّح الله هذا ورأيه، يأمر أصحابه بقلة الاحتراس، ويعدهم بالأضاليل، ويمنيهم بالباطل.

وينقل ldquo;الجاحظrdquo;: ldquo;كان معاوية يأذن للأحنف أول من يأذن له، فأذن له يوماً، ثم أذن لمحمد بن الاشعث، حتى جلس بين معاوية والاحنف، فقال له معاوية: لقد أحسست من نفسك ذلاً، اني لم آذن له قبلك إلا ليكون الي في المجلس دونك، وإنا كما نملك أموركم نملك تأديبكم، فأريدوا ما يُراد بكم، فإنه أبقى لنعمتكم وأحسن لأدبكمrdquo;.

وبين محمد بن الاشعث والحجاج بن يوسف الثقفي، مفازة من دم.

ولكن الريشة إذ تتجه الى إعادة النظر في قول معاوية، للأشعث، بحضور ldquo;الأحنفrdquo;، لا تسجل أفضل من تعليق ldquo;ابن قشيرrdquo;، لأنها كشفت استخدام رأس السلطة لأدوات السلطة من جانب، وتركت للمتلقي ان يركّب علاقة متخيلة أو متصورة بين السلطة ورأسها وبين الناس عموماً، من جانب آخر.

وإذا يريد بعضنا ارجاعنا الى الخلف لفترة تزيد على ألف وأربعمائة سنة، أو يبغي آخر استدعاء مجلس معاوية مع رجاله في أيامه الى أيامنا هذه، فهذا خطاب به رُمكة، أي ضعف وهزال كما يقول اللغويون. ثم انه لا يستوي مع العقل. وكل ما لا يستوي مع العقل يستدعي العقل لليقظة والنباهة وعدم الغفلة.

ومن الذي لا يستوي مع العقل، في أيامنا هذه، ان تقف متحدثاً في محفل وتتحدث عن حال أوروبا الراهنة، وليس حالنا، فتصف، وتصف، وتصف، حتى يضجر الوصف من وصفِ مقالتك بأنها رُمكة. بيد ان الذي يستوي مع العقل ان تعقل ما نطق به معاوية من وضوح لا لبس فيه أبداً. أما مضمونه فذاك شأن آخر. والعاقل من يأخذ كل مسألة بزمانها ومكانها.

المثقف العربي الذي يعرف رسالته، ويعي دوره، يعرف انه أعزل، ولا يمتلك حولاً أو قوة، إلا كلمته الواضحة غير الملتبسة، فإن تيسّر له ان يبلغها للناس، فليعلنها على رؤوس الأشهاد. وما أكثر وسائل الاتصال في أيامنا هذه، وعلى العقلاء ان يعرفوا ان مجالسهم الخاصة مادة مفضلة في بعض مواقع الشبكة العالمية.

أما إذا وجد في نفسه ضعفاً، أو حِيل بينه وبين إيصال كلمته، فليصمت. لأن الصمت هنا آية من محاسن البلاغات والكمالات الانسانية والقولية والأخلاقية.

الأعزل في كل شيء إلا من كلمته الصادقة، محظوظ جداً لأنه ربح نفسه وخسر كثيرين، وهو محسود لأنه لا يمتلك إلا هذه الكلمة. ولذلك تراه صامتاً، يتخذ من الجدار مستنداً، بعدما شَخَلَ نفسه تماماً، فبقي مع ما ينفع الناس، ولم يلتفت الى الزبد.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف