الحمير خارجا: على أنواعهم

سمير عطا الله

كان الشعور بالعار، وليس فقط بالخطيئة أو الذنب، هو أهم ضابط اجتماعي. فقد كان الإنسان يشعر بالخجل، إن هو أخطأ أو جنح، من جاره، ومن ابن حارته، ومن ابن بلدته. فالمجتمع كان يعزل بصورة عفوية وقاطعة، الخارجين على أصول الآداب والأخلاق والأعراف. ومخافة ذلك، كان أصحاب النفوس الضعيفة والميول الرديئة، يمتنعون عن المغامرة والخطأ. وبهذا المعنى كان الرادع الأخلاقي أو الاجتماعي أو المعياري، أكثر قوة وتأثيراً من القانون نفسه. فالذي يخيف ليس الشرطي ولا القاضي ولا حتى السجن، بل ما هو أقسى من ذلك بكثير: الهمس في المجتمعات، والغمز، والنظرات المؤنبة في الشوارع. ولذلك لم يكتف الأفراد ولا اكتفت الدول بأحكام القوانين، بل لجأوا جميعاً الى ما سمي بالمواثيق والمعاهدات التي تلزم مُوقّعها، أدبياً ومعنوياً بما عليه تجاه سواه. و"الميثاق الوطني" اللبناني الذي مزقته الحرب وقَتَلتها، لم يكن مكتوباً ولا قرأه أحد. لقد كان نصاً وطنياً لا يخالف ولا يمس. الى أن قرر الجميع، الدوس عليه، وإرساله الى المقابر الجماعية مع عشرات آلاف الضحايا.

كان هناك ما سمَّاه آدم سميث "الرجل الذي في الداخل". الرجل الذي ينبهنا دائماً على أننا جزء من مجتمع وأسرة، وأن هذا المجتمع لا يقر إلا بالسلوك المصقول، ولا يقبل نزوة الشهوات والغرائز. إنه الرجل المؤَّدب، الحارس، العامل أبداً بأحكام الضمير وأخلاقيات النفس. وكلما حاول أحدنا أن يتجاهل أدبيات الأزمان، يمسكه من أذنه ويشده ويردعه ويذكّره دائماً بسمعته: "ماذا سيقول عنك الناس؟ كيف ستبدو في عيون الآخرين؟"، أو"غداً يقرعون لك على التنك"!

لقد اختفى "الرجل الذي في الداخل" من مجتمعات اليوم. وظهرنا جميعاً على حقائقنا. ولم يعد الصيت الحسن غاية ولا السمعة الطيبة فرضاً. الناس تصفق للفاسدين والفاسقين. وأحياناً للقتلة والمجرمين الموصوفين. وتذهب الى أبعد من ذلك بمسافات طويلة من القحة. فهي أصبحت تعزل الأوادم وترفضهم وتمنعهم عن التحرك الاجتماعي. وفي غالب المجتمعات العربية أصبحت الخلقية تهمة. وفي لبنان يقال ببساطة مطلقة، ويقال ذلك دائماً، إن فلاناً "حمار لا يعرف من أين تؤكل الكتف". أو أنه "ذكي يعرف من أين تؤكل الكتف". ولاحظ أين فعل المعرفة هنا وأين وضع فعل الجهل، أو الحمرنة، أجلّك الله. ويتحاشى الجميع تقريباً، وبمهارة واحدة ومدروسة، أن يضبطوا وهم يمدحون رجلاً بحسن أخلاقه. إنهم يشفقون على "الأوادم" أكثر بكثير مما يشفقون على الحمير التي تجول شوارع المدن العربية محمَّلة عشرة أضعاف طاقتها على الأقل. وهي فوق ذلك تساط عالياً وقاسياً لأنها "مقصرة" وبطيئة. وهكذا تعامل النسوة في منازل وبلدان كثيرة. وهكذا يعامل الأولاد. ولا ندري. فنحن مأخوذون بالمهمة الأكبر: امتداح شطارة الزعران ونجاح السراقين وحكمة الخونة.