مئة عام على قانون العلمانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد جمال باروت
في التاسع من ديسمبر 1905 تم الفصل التام في فرنسا ما بين الدين والدولة، وهو ما يشار إليه في الحوليات الفرنسية بقانون العلمانية الذي يرتبط بدوره بالجمهورية الفرنسية الثالثة. كان هذا القانون على مستوى طبقاته العميقة حصيلة استقطاب حاد ميز انطلاقة تاريخ العصور الحديثة التي علمنت العالم ونزعت السحر عنه ونقلت مركزه إلى الإنسان، لكن متاريسه لم تنكشف دفعةً واحدةً إلا في الاستقطاب الحاد في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في فرنسا ما بين العلمانيين والإكليركيين، والجمهوريين والملكيين، والمدينيين والريفيين، ووضع حد لنهاية اتفاقية نابليون- بيوس، والذي كان قرن وصول الغرب بالمماهاة ما بين إرادتي المعرفة والقوة إلى ذروتها.
إن منهج المؤرخ في مقاربة تاريخ العلمانية يختلف كثيراً عن منهج المتفلسف ومؤرخ الأفكار عموماً ومن ينتمي إلى المنهج التاريخاني عموماً. وفي الكتابات العربية غير المتخصصة والمشبعة بمفاهيم تاريخانية نضالية مبسطة وساذجة ومتصلبة عقائدياً كثيراً ما استعيد مفهوم العلمانية في ضوء محاكاة بسيطة للنزعة التاريخانية أكثر مما استعيد بمنهج المؤرخ. إن التاريخانية Historirisme هي غير التاريخية Historite . إنها مذهبة التاريخ ضمن بوتقة مفهومية ترى أن التاريخ محكوم بقوانين موضوعية تسير به مسبقاً نحو غاية ثاوية فيه تحملها طبقة أو أمة أو عرق.. إلخ. لا يعني ذلك بالضرورة أن منهج المؤرخ متناقض مع مفهوم متفلسف أو فيلسوف التاريخ أو التاريخاني بل يعني أن المنهجين مختلفان. ولقد كان الربع الأخير من القرن التاسع عشر بصورة خاصة هو قرن انتصار التاريخانية هذه، التي تم في ضوئها بناء سردية جديدة للتاريخ تنطوي على كثير من" التخييل".
على مستوى التاريخ الخاص للتحولات التي أفضت إلى قانون العلمانية، فإنه كثيراً ما يتم في إطار تشرب عملية إعادة بناء التاريخ تنسيبها إلى الثورة الفرنسية 1789، بينما لم تقم الثورة الفرنسية بالفصل ما بين الدين والدولة، بقدر ما ميزت ما بين الكهنة الدستوريين الخاضعين إلى قانون الجمهورية والكهنة غير الدستوريين الذين يدينون بالسيادة للفاتيكان. بل وتم في إطار عملية إعادة البناء تلك محاولة الطمس على دور شريحة وازنة من رجال الدين في الثورة، وفي هذا السياق كثيراً ما لا يتم الانتباه إلى أن من دون الصيغة الأساسية لميثاق حقوق الإنسان والمواطن لم يكن سوى رجل دين.
إن سردية التاريخ باتت تتحكم كثيراً بعرض ما تم فيه بالفعل، إنها الحبكة التي ينسجها منظور معين للتاريخ. في التمهيد لقانون العلمانية في العام 1905 كانت العلمانية قد ربحت ثلثي قضيتها من خلال العلمنة السابقة للتعليم وفصله عن الدين طيلة الربع الأخير من القرن التاسع عشر ومدارس جول فيري، لكن قانون العلمانية كان انتصاراً بالضربة القاضية بشكل خاص لمفهوم راديكالي للعلمانية، هو المفهوم المعتقدي الذي يقترب بها فعلياً مما يسميه مؤرخو الأديان بدين بديل. إنه بكلام آخر انتصار لعقيدة العلمانيةLaisme أو مذهبها وليس للعلمانية كعملية تاريخية جارية أو كـLaicite أو كـ Secular . هذا ليس مجرد ترف مصطلحي بقدر ما يركز الانتباه إلى أن قضية العلاقة ما بين الدين والدولة ليست مختلفة على مستوى التاريخ الكلي للشرق/ الغرب بل هي مختلفة داخل الغرب نفسه، بين الصيغة الفرنسية التي باتت مرتبطةً بالجمهورية الخامسة وقانونها للعلمانية وبين الصيغة الأنكلو- الأمريكية. ففي الصيغة الفرنسية سادت حماية استقلالية الدولة وسلطاتها من الدين الذي حشر في زوايا المعتقد الشخصي، وحرمه من أي دعم ، بينما ساد في الصيغة الأنكلو- أمريكية حماية الدين من تغول الدولة، وأحادية مفهومها الدولتي للمواطنة، ومن تشميله باحترام الدولة. في الصيغة الفرنسية لا تسدد الدولة أية رسوم للكنيسة لكن في الصيغة الأخرى، وحتى في الصيغة النمساوية-الألمانية يجري تحويل الرسوم إلى المؤسسات الدينية.
لم يشتغل الفكر العربي إلا بصورة محدودة بهذا التمييز، والاشتغال هنا ليس مسألةً أكاديميةً بقدر ما يمس صميم أسئلة الفكر العربي في مرحلة النهضة. في حوار مالطا الأول ( مايو 2004) الذي شارك فيه الكاتب بين مجموعة من المفكرين العرب ومجموعة من أساتذة السياسة والأخلاق العاملين في محيط" معهد القيم" الأمريكي المحافظ، الذي ارتبطت باسمه رعاية رسالة المفكرين الأمريكيين إلى نظرائهم العرب بعد الحادي عشر من سبتمبر تحت عنوان "ما نحارب من أجله"، تمت إثارة هذا التمييز من قبلنا، وهو ما فاجأ الأمريكيين. وكانت الفكرة أن تاريخ الإصلاح الإسلامي قد عرف شيئاً قريباً من مفهوم العلمانية بمعنى laicite أو Secular أو الدنيوة، وأنه كان مؤسساً على مبدأ التمييز بين مجالين لكنهما متجاذبان هما مجال السلطة الدينية ومجال السلطة السياسية، وأن هذا التمييز قد وقع تاريخاً وفقهاً ومصلحةً. ما نريد الانتقال إليه هنا هو تفسير كيف أن مجمل الإصلاحيين المسلمين العظام بمن فيهم الأكثر راديكاليةً مثل عبد الرحمن الكواكبي قد تطلعوا إلى أن يلعبوا في التاريخ الإسلامي ما لعبه لوثر في التاريخ المسيحي. واستئنافاً فإن الشيخ العظيم مصطفى السباعي حين كان يصف التشريع الإسلامي حرفياً بأنه "تشريع علماني" فإنه كان يعني ذلك التمييز الذي قبض عليه مفهوماً وليس مصطلحاً، وهو كتب رسالةً في الرد على دعاة فصل الدين عن الدولة تصب كلياً في ذلك المفهوم.
إن الحوارية الأنضج في تاريخ النهضة العربية حول مايتعلق بموضوع العلمانية، هي حوارية فرح أنطون- محمد عبده، ولقد تمت في عام 1903 قبل عامين من قانون العلمانية في فرنسا، لكنها كانت على دراية كافية بمجريات الاستقطاب الواقع يومئذ الذي سيؤدي إلى قانون عام 1905. أنطون كان يغلق الباب أمام الإصلاح الديني بينما كان محمد عبده يفتحه طليقاً. ومع ذلك ففي علمانية العشرينيات العربية من القرن العشرين ولاسيما في تركيا الكمالية ومصر ومن بعدهما البورقيبية نجد تشرباً لمفهوم العلمانية كما نضده قانون التاسع من ديسمبر 1905. ما فعله مصطفى كمال حتى تاريخ فصل السلطنة عن الخلافة هو مأسسة لأفكار الإصلاح الإسلامي، ولما وقع تاريخاً وفقهاً ومصلحةً في التاريخ الإسلامي ما بعد الراشدي، لكنه في إلغاء الخلافة المتحولة إلى منصب روحي اختصر بجرة واحدة ما استغرقه التطور التاريخي الفرنسي خلال مائة وستة عشر عاماً على الأقل ما بين الجمهورية الأولى والجمهورية الثالثة.
إن الفرق بين صيغتي حماية الدولة من الدين وحماية الدين من الدولة، وهما الفرق الجوهري بين المذهبية العلمانية وبين العلمنة، هو فرق يشرح لنا استمرار عمل الجمهورية الفرنسية بقانون 1905 بينما اعترفت النمسا منذ عام 1912 بالإسلام كدين رسمي لها تهبه حمايتها ودعمها. ففي الصيغة الأولى نزع تام للمدني عن الديني بينما في الصيغة الثانية نظر من داخل الاستقلالية إلى الديني كبعد من أبعاد المدني نفسه. وفي الصيغة الأولى تسود النزعة المعادية للدين نفسه بينما تفضي الصياغة الثانية إلى ما يمكن تسميته بمصطلح بات يستخدم اليوم وهو العلمنة المؤمنة. وتاريخ تحولات العالم هو اليوم تاريخ تكريس الاعتراف بحقوق الجماعات وليس مجرد الأفراد فقط، وفي مقدمتها الجماعات الثقافية، وتوفير إطار مرن يستوعبها. وفي هذا الإطار فإن ثمة حاجة في إطار التنوع الفكري- السياسي إلى تكون وتطور حركات إسلامية ديمقراطية مندمجة سياسياً على غرار الحركات الديمقراطية المسيحية.
إن تطور المجتمع الفرنسي قد تجاوز البوتقة التي أنتجت قانون عام 1905 الذي بات قديماً بالفعل ولا تحرسه سوى التمائمية العقائدية للجمهورية/ العلمانية، فالإسلام هو اليوم في أوروبا، ومهما صوّره اليمين آخراً، فإنه بعد من أبعاد الهوية أو الهويات الأوروبية بالأحرى. ولقد كان ذلك دوماً من ناحية سوسيولوجية، لكن سردية التاريخ أو "صناعة التاريخ" بنت في إطار علاقات السلطة والقوة تصوراً آخر، فما عاد ممكناً الآن اختزال مفهوم الهوية بالمفهوم الجمهوري الراديكالي العلماني لقانون العلمانية، بل بات مفهوم المواطنة مركباً ويشتمل حكماً على مفهوم الهوية الثقافية، وفي قلبها الهوية الدينية، وما يتيحه تحول مفهوم العلاقة ما بين الدين والدولة إلى ازدهار مفهوم العلمنة المؤمنة بالمعنى الذي طرح في خط محمد عبده- السباعي في عالمنا الفكري الإصلاحي العربي المهدور، فليس قدر المسلم أبداً مشاجرة العالم. بعد مائة عام على قانون العلمانية تتكشف قدامة هذا المفهوم ونسبيته التاريخية والمحددة وأيلولته إلى دين بديل تجاوزته ومازالت تتجاوزه تحولات العالم اليوم. صوب العلمنة المؤمنة وليس صوب العقيدة العلمانية التي قام عليها قانون عام 1905.
* كاتب سوري