لبنان: شجرة الميلاد في حداد ورأس السنة مثقل بالقلق الأمني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تحقيق جنى نصرالله
"عيد بأية حال عُدت يا عيد"، عبارة خال اللبنانيون انهم لن يرددوها منذ ان وضعت الحرب اوزارها عام 1990. توالت الاعياد والمناسبات منذ ذلك الحين في اجواء اقتصرت الشكوى في أسوأ الاحوال على الأوضاع الاقتصادية الصعبة. ولكن المواطنين يترحمون اليوم على هذا العامل الذي كان ينغص فرحة العيد بالنسبة للسواد الاعظم منهم، بعدما عاد الرعب الأمني ليخيم على اجواء البلاد، حيث يطاردهم الخوف من الغرق في دوامات عنف جديدة لا تزال آثارها ماثلة في الأذهان، وخصوصاً ان ما جرى خلال هذه السنة من اغتيالات وتفجيرات متنقلة كان اكثر من كاف ليثير الذعر في العقول والنفوس.
كان المشهد مختلفا تماما في مثل هذا اليوم قبل عام بالتحديد: اجواء احتفالية بعيدي الميلاد ورأس السنة. زينة في كل مكان. اسواق ومتاجر وشوارع تتنافس في ما بينها لتكون الأجمل. اشجار ميلادية مزروعة في الشوراع والساحات. اضواء على الشرفات وفي مداخل الابنية. ألوان حمراء وخضراء وذهبية وفضية. بحث عن ابتكارات جديدة وافكار مختلفة واشكال مميزة في التزيين. المتاجر تفتح ابوابها حتى ساعة متأخرة من الليل. المراكز التجارية تقدم عروضاً خاصة لتستقطب المزيد من المستهلكين. السياح ادرجوا لبنان مجددا في قائمة وجهاتهم في المناسبات والاعياد. ازدحام للسير، وعجقة في كل مكان. انه العيد، باختصار؟
واذا كان من شكوى تسجل في العيد الماضي وفي الأعياد والمناسبات التي سبقته، فتلك المتعلقة بسوء الأوضاع الاقتصادية، التي تجعل من الحركة بلا بركة. ولكن الحركة كانت موجودة.
اما اليوم فان الصورة انقلبت الى نقيضها. فلا حركة ولا بركة، بل شلل تام ارخى بثقله على شوارع بيروت والمناطق، بعدما فرض المواطنون على انفسهم منع تجول ذاتياً. المقاهي فارغة، وكذلك المطاعم ودور اللهو والسهر. فحتى الاعلانات التي كانت تضيق بها صفحات الجرائد واللافتات على الطرق غابت في هذا الموسم، موسم الذروة الاعلانية اذا صح القول.
لا احد يتحمس للسؤال عن المكان الذي سيمضي فيه سهرة رأس السنة. فالبيت هو المكان الذي اختاره معظم اللبنانيين، ليس خوفا من اي تفجير امني فحسب، بل لأنهم لا يشعرون بانهم معنيون بالعيد هذه السنة. ولم تشكل كل الحسومات والتخفيضات التي بدأت تُروج لها أماكن السهر حافزا يدفعهم الى تعديل رأيهم. ذلك ان قرار عدم الخروج اسبابه امنية ونفسية هذه المرة وليست اقتصادية. واذا كان اللبنانيون يطمحون فعلاً لان يودعوا السنة 2005 التي كانت حبلى بالمصائب والنكبات، بغض النظر عن الانتصارات والانجازات التي تحققت خلالها، فإنهم لا ريب يخشون مما قد تحمله لهم السنة الجديدة. لذا، فإنهم يفضلون الا يحيوا هذه الليلة التي يودعون فيها سنة ويستقبلون اخرى خوفا من هذا المستقبل الذي يبدو لهم غامضا اكثر من كل وقت مضى.
لا رغبة اذن في الخروج، لا متعة في التسوق، لا نكهة للعيد، ولا احساس بمعنى الاحتفال. فالبلاد غارقة في حزن شديد بعدما اتشحت على مراحل عدة وفي مواسم متنوعة، الى ان عششت السوداوية في النفوس فقضت على كل قدرة لتجاوز المحن والصعوبات والبدء من جديد، وخصوصاً بعدما أصبح كل جديد نسخة اكثر بشاعة عن القديم الذي سبقه. انها دوامة الموت التي أدخلت فيها البلاد قبل عشرة اشهر من دون أن تعرف كيف تخرج منها!
موت الرغبة
15 تفجيراً وعدد كبير من الشهداء، وعدد آخر ممن نجوا بأعجوبة، درب مؤلم سلكه اللبنانيون، وتجربة أكثر من قاسية تركت بصمات يصعب محوها مع مرور الوقت. فثمة ندوب تحفرعميقا في الجسم ولا تنفع عمليات التجميل في ازالة آثارها او حتى اخفائها. وما خبره اللبنانيون خلال هذا العام يوازي في قسوته ما عايشوه طوال اعوام الحرب الطويلة، مع فارق بسيط وجوهري. فالمواطنون لم يفقدوا سابقا الرغبة في الحياة كما هي حالهم اليوم، رغم الأهوال والمآسي والاحزان التي اجتاحتهم خلال حروبهم الطويلة، فكانوا يمضون ليلهم في الملاجئ ثم يخرجون في الصباح الى اعمالهم وينصرفون الى شؤونهم كما لو ان شيئا لم يكن، ينفضون غبار الدمار المحيط بهم ويمضون الى غد آخر. اما اليوم فشائعة واحدة كفيلة بأن تجعلهم يلازمون بيوتهم، ومنجّم أرعن قادر على افراغ البلاد من العباد، ودفعهم الى ركوب السفن والإبحار بعيدا.
يتربع اللبنانيون هذه الايام على عرش السوداوية كما لم يفعلوا يوما. ولعلها المرة الاولى التي يمتنعون فيها عن الاحتفال بالاعياد من دون قرار مسبق او اعلان رسمي او تعبير عن موقف او ابلاغ رسالة. ففي احلك ايام الحرب، لم تغب مظاهر العيد ولا اطفئت انوار الاشجار الميلادية. اما اليوم، فإن الكآبة توحدهم بعدما فرقتهم كل القضايا الاخرى. وكأنهم يعيشون نوعا من الاعتكاف الداخلي لأجل غير مسمى.
لا أجواء عيد هذه السنة، عبارة تتكرر في كل حديث. فحتى التجار الذين يستغلون هذه المناسبة عادة لجذب مزيد من المستهلكين وتنشيط اعمالهم، منكفئون، وكأن لعنة حلّت عليهم، فقضت على روح المبادرة عندهم. المتاجر فارغة الا من موظفيها. البضائع مكدسة على الرفوف، ولا تزال كما رُتبت لحظة وصولها. فالزبائن لا يدخلون المتاجراصلا للعبث فيها وقياسها مرة وأثنتين وثلاثاً حتى ولو كانوا لا ينوون شراءها اصلاً.
ماذا نزين؟ ولمن؟ ولماذا؟ اسئلة يمطرك بها كل من تسأله بسذاجة عن اسباب غياب مظاهر الاحتفال هذه السنة. فالاشرفية دفنت ثلاثة من ابنائها في الأمس القريب، والزلقا لا تزال تحصي اضرار الانفجار الذي ضربها، والكسليك لم تلتقط انفاسها بعد، ووسط بيروت تحول ساحة للاعتراض والتشييع وممرا لكل الجنازات. وحلت خيمة الحرية مكان شجرة الميلاد. وحمل المعترضون الصور والشعارات والاعلام بدلا من الهدايا. وطغت الهتافات والاغاني الثورية على التراتيل الميلادية. ولفّت صور الشهداء جدران المدينة واحتلت حيزا كبيرا داخل البيوت. فاللبنانيون يعيشون في حضرة الموت وليس في حضرة الحياة.
الضربة القاضية
كانت الحياة قد بدأت تستعيد تدريجا ايقاعها الطبيعي منذ آخر محاولة اغتيال تعرضت لها الزميلة مي شدياق في أيلول الماضي، اذ انقضى نحو شهرين ونصف الشهر من دون اي خضة امنية تذكر. وخال اللبنانيون ان ضريبة الدم المفروضة عليهم قد انتهت، بعدما خفت الحديث عن لوائح الاغتيالات. لعل البراءة السياسية او الرغبة الحقيقية في العيش في "سبات وامان" هما العاملان اللذان دفعاهم الى اقناع انفسهم بهذه الفكرة. وشاع التفاؤل بانتهاء موجة العنف ليشمل من هم خارج حدود الوطن، فقرر المواطنون المقيمون في الخارج ان يمضوا الاعياد في ربوع الوطن. وحجزت كل المقاعد على الرحلات القادمة الى لبنان الى حد تعذر معه على البعض ممن تأخروا في اتخاذ قرار الزيارة ايجاد مقعد فارغ.
"ريَّحونا ثم انقضوا علينا بضراوة قصمت ظهرنا"، عبارة يرددها اللبنانيون بعد اغتيال النائب الشهيد جبران تويني. فهذا الشعور المؤقت بالأمان ذهب الى غير رجعة. ولن تنفع كل محاولات التعالي على الجراح في ان تضخ الدم مجددا في اوصال هذا الوطن المُشظى والمهشم بالبارود والنار.
الزمن اسود. انه قاتم، بل اكثر قتامة من ايام الحرب!
"انهم لا يقتلون ابناءنا فحسب، بل يقتلون النفوس الحية في داخلنا". هكذا، انعكس استشهاد تويني على الشارع اللبناني الذي لا يرى توقيت اغتياله عشية بدء الاعياد صدفة بريئة.
لا تقتصر المشكلة في كل حال، على غياب روحية العيد عن الاجواء اللبنانية، بل تتجاوزها الى ما هو ابعد من ذلك. فثمة عطب حقيقي أصاب دورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والانساسية. ذلك ان معظم المشاريع عُلقت لأجل غير مسمى. وليس المقصود هنا، مشاريع على مستوى الدولة بل تلك الطموحات الصغيرة ذات الطابع الفردي من نوع شراء بيت، او اضافة لمسات تجديد على مكان السكن،أو ترميم متجر،او افتتاح دكان، او حتى ابدال سيارة قديمة بأخرى جديدة. وهذا الجمود على المستوى الفردي يبقى اكثر خطورة من الجمود الرسمي الذي يمكن كسره بقرار. ولكن اعادة احياء الروح المقتولة في داخل الافراد الاحياء تحتاج الى قوة دفع استثنائية، لا يبدو انها متوافرة حاليا.
"كل عام وانتم بخير"، عبارة لن يقوى اللبنانيون على تداولها في الاعياد. فحين تحل الاعياد وتكون النفوس مسكونة بالالم غالبا ما يتبادل الناس امنية واحدة: "انشالله تكون خاتمة الاحزان". والوطن في حداد اسود. لعلها الخاتمة فعلا(؟!).