خيري منصور: ثُغاء الأسود
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لم يعد بيت الشعر الشهير القائل:
تموت الأسد في الغابات جوعاً
ولحم الضأن تأكله الكلاب
هو التعبير الدقيق عن أحوال الأسود والكلاب في عصرنا بعد أن انقلبت الموازين في كل شيء، وبعد أن استأسدت الكلاب، واستنسر بغاث الطير، وتحول النمر الى حمل بعد عشرة أيام من معاشرة الخراف وقضم العشب كما في قصة شهيرة لزكريا تامر.
وثمة حكايتان عن أسود هذا الزمن، الأولى ما قيل قبل أيام عن مصائر الأسود في حدائق الحيوان في بكين، حيث ماتت جوعاً، لأن من حبسوها في الاقفاص وحولوها الى فرجة لم يستطيعوا تأمين الغذاء لها، فهي لا تأكل الخبز الناشف، أو نفايات الخضار، ووجبة الشبل الواحد تعادل عشر وجبات لإنسان أكول.
والحكاية الثانية رواها صديق، بعد ان شاهد أسداً أسيراً في أحد البيوت، وقد هزل وفقد شعره، وتحول الى ما يشبه العنزة المريضة التي تثغو ولا تعرف الزئير.
قال الصديق، إن الحكاية بدأت مع ذلك الأسد العجوز بإطعامه العلف، ثم بإجباره على الإقامة في زنزانة لا تتجاوز مساحتها حجم جسده، وبمرور الايام نسي الأسد أنه أسد، وصدق ما يقال له عن نفسه، ففقد القدرة على الزئير ولسبب غامض فقد شعره بعد أن أصابته حمى من طراز غريب، قد تكون حمى نفسية وليست عضوية، وقد يكون سببها الشعور بالانعزال والوحشة. والأمر متروك لمن يعرفون أكثر منا عن هذه الدراما الحيوانية الغامضة.
يقال أيضاً ان الأسود لا تشم رائحة الضباع وهي على قيد عافيتها، لأن لها حدوداً إقليمية لا تقوى الحيوانات الاخرى على اختراقها، والأسد يرسم هذه الحدود ب “البول” إذا قرر ان يقضي قيلولة آمنة في الغابة.
لكن ما إن يصاب الأسد بالمرض أو الشيخوخة حتى تتجرأ الضباع عليه، وتقتحم عرينه، وحدوده الاقليمية، عندئذ يتورط بشم رائحتها، ويود لو يموت، لأن الموت أهون عليه من تلك الرائحة.
وفي فيلم مصور ضمن سلسلة الصراع من أجل البقاء، يهاجم قطيع ضباع أسداً كهلاً وقد استبد به العياء، وهزل بحيث برزت عظامه من جلده.
وكان المعلق على الفيلم يقول: إن الضباع تعرف بالغريزة ان فريستها تخلو من الدسم فهي جلد وعظم فقط، لكنها بانقضاضها العنيف على هذا العدو التاريخي، تصفي حسابات نوعية وسلالية مع تاريخ الأسود برمته.
وحين يقال ان الفأر الحي خير من الأسد الميت فإن المقصود هو تمجيد الحياة حتى لو كانت دوداً يتناسل في احشاء جثة، فالفأر يبقى فأراً حتى لو كان في ذروة العافية، والأسد يبقى أسداً حتى وهو يتحلل تحت شمس قاسية ويتحول الى وليمة للديدان.
إن عالم الحيوان يعج بالأمثولات القابلة للتأويل البشري، ومن تلك المملكة استلهم لامارتين الفرنسي والجاحظ وابن المقفع والعطار الحكمة والموعظة، لأن ما يحدث في ذلك العالم المجهول والبري من حروب ومكائد ونفاق واغتيالات، هو المسودات الأولى للتاريخ الانساني الذي لم يبرأ حتى الآن من بعده الحيواني.
إن الأسدَ تموت الآن جوعاً في حدائق الحيوان وليس في الغابات، ولحم الضأن تنعم به الكلاب التي يقول الانجليز انها تحتاج بين وجبة وأخرى الى قليل من العظم لسببين: أولهما كي لا تنسى أنها كلاب وثانيهما كي لا تفقد أسنانها التأهيل اللازم، وتفرض على أصحابها فتح عيادات اسنان للكلاب.