محمد خليفة: أوروبا من الامبراطورية البرتغالية إلى المجهول
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الخليج الإماراتية: الأحد: 12 ـ 06 ـ 2005
كانت الامبراطورية البرتغالية أولى الامبراطوريات التي تكوّنت في أوروبا، ذلك أن الملك البرتغالي جون الثاني (1481 1495) كان مولعاً بالكشوف والأسفار بغية الكشف، لذلك فقد أرسل أحد النواخذة البرتغاليين واسمه “بارثلميو دياز” في رحلة استكشافية نحو افريقيا عام 1487. وحققت هذه الرحلة نصراً كبيراً عندما اصطدم دياز بساحل إفريقيا الجنوبية وكشف الطرف الجنوبي للقارة الذي أطلق عليه “رأس العواصف”. وقد عدّل الملك هذا الاسم فجعله “رأس الرجاء الصالح”، تفاؤلاً بالموقع الجديد. وبعد فترة ركود استأنف البرتغاليون جهودهم في مواصلة الكشوف الجغرافية ابتغاء الاهتداء الى طريق بحري متصل الى الهند حول إفريقيا.
وتمخّض وصولهم الى الشواطئ الساحلية الواقعة في إفريقيا الشرقية عن تمكينهم من الاحتكاك المباشر مع شبكة التجارة الاسلامية المتسعة هذه في آسيا الجنوبية، وسرعان ما أدرك الأدميرال البرتغالي الفونسو البوكويركي طبيعة هذه الشبكة وحدد نقاط الضغط الاستراتيجي فيها. وبتتابع عاصف استولى البرتغاليون على المواقع الاسلامية الحصينة المشادة على امتداد الشواطئ الآسيوية. وهذه المواقع هي غوا، على ساحل الهند في مملكة بيجابور، وهرمز، وهي جزيرة تقع في فم الخليج العربي، وملقا، وهي مدينة تقع في ماليزيا على خليج ملقا، وتم احتلال غوا، وهرمز وملقا في أعوام ،1510 ،1515 1519 على التوالي. وعملية احتلال هذه القواعد المفتاحية أعقبتها عمليات انشاء سلسلة من الحصون والمحطات التجارية البرتغالية على امتداد السواحل الواقعة بين سوفالا في إفريقيا الجنوبية الشرقية الى ترنانة في جزر الملوك “اندونيسيا” الى ماكاو على الساحل الصيني. وعندما تم للبرتغاليين العثور على طريق الهند، توجهوا نحو أمريكا التي كانت قد اكتشفت من قبل الأسبان عام ،1493 بعد أن أرسل الثنائي فرديناند وايزابيلا حملة بحرية لاستكشاف طريق الهند بقيادة أحد النواخذة الايطاليين واسمه كريستوف كولومبوس. لكن هذه الحملة ضلّت طريقها بعد أن جرفت الرياح المراكب نحو الغرب، فوصل كولومبس الى شواطئ بعض الجزر في البحر الكاريبي معتقداً أنها بعض جزر بحر الهند.
لكن سرعان ما تمّ التأكد من أن الأرض التي وصل اليها كولومبس هي أرض جديدة. وسارعت اسبانيا الى استعمار هذه الأرض، وعادت السفن الاسبانية محمّلة بالذهب والفضة. وعلى الفور أرسل الملك البرتغالي عمانوئيل (1495 1520) حملة بحرية بقيادة النوخذة البرتغالي ألفارز كبرال قاصدة العالم الجديد، فوصل هذا النوخذة الى البرازيل في أمريكا الجنوبية، ودخلت البرتغال الى ميدان السباق الاستعماري مع اسبانيا في أمريكا، مما عجّل بوقوع الحرب بين الجانبين عام 1580. وقد انتصرت اسبانيا بقيادة الملك فيليب الثاني في هذه الحرب، وقامت بضمّ البرتغال وكامل مستعمراتها اليها، وأصبحت اسبانيا قوة كبرى في أوروبا والعالم. وتحركت لدى كل من الانجليز والفرنسيين والهولنديين شهوة البحث عن الثروات في العالم الجديد، وكانت بريطانيا قد بدأت في تكوين أسطول بحري للقيام بكشوف جغرافية، وأحسّ الملك الاسباني فيليب الثاني بالخطر الذي باتت تشكله بريطانيا على الامبراطورية الاسبانية، فعقد عزمه على محاربة بريطانيا، فأرسل حملة بحرية اسمها (الأرمادا) لاخضاعها عام ،1588 لكن هذه الحملة فشلت، وانهزمت وكانت تلك الهزيمة بداية أفول نجم اسبانيا وازاحتها عن دورها القيادي في أوروبا والعالم.
وكانت هولندا قد وسّعت تجارتها وأصبحت تسيطر على تجارة بحر الشمال، وقامت عام 1602 بتأسيس شركة الهند الشرقية الهولندية، وأدى تثبيت مواقع هذه الشركة في اندونيسيا والهند والبرازيل والكاريبي الى انتزاع سريلانكا من يد البرتغاليين، وامتدت أصابعها الى الصين واليابان، وراحت بريطانيا ترقب هذا الصعود الهولندي بحذر وتسعى الى تقويضه. فبادرت عام 1600 الى انشاء شركة الهند الشرقية البريطانية، وأعقب تأسيس هذه الشركة حروب وحشية بين المتنافسين الأوروبيين. وفي عام 1622 أخرجت بريطانيا البرتغاليين من جزيرة هرمز، وفي منتصف القرن السابع عشر بلغت قوة انجلترا حدّاً مكّنها من فرض قوانين البحار، حارمة التجّار الأجانب من التعامل مع مستعمراتها، ومانحة السفن البريطانية احتكار تجارة بلادها.
واصطدمت القوتان الهولندية والبريطانية في سلسلة حروب من عام 1651 الى 1653. وقد انتصرت بريطانيا في هذه الحروب، وقامت بتحجيم أو تدمير التجارة والملاحة الهولنديتين والاستيلاء على تجارة الرقيق ذات الأرباح العالية. واتجهت بريطانيا للاستعمار في أمريكا الشمالية، لأن أمريكا الوسطى والجنوبية كانت تحت السيطرة الاسبانية. وكانت فرنسا تريد أن تحذو حذو اسبانيا، فتنافسها في سيادة البحار وفي الاستعمار في العالم الجديد. لكن عندما اكتشف كولومبس أمريكا كانت فرنسا مشغولة بمشاكلها الداخلية وبالنزاع الأسري بينها وبين أسرة الهابسبرغ في النمسا. وقد كانت الحروب الدينية التي اندلعت في فرنسا (1560 1598) من العوامل التي جعلت فرنسا تنصرف كذلك عن الميدان الاستعماري. لكنها ما لبثت أن عادت في عهد لويس الرابع عشر (1643 1714) الى البحث عن المستعمرات في أمريكا الشمالية، فأنشأت مجموعة من المستوطنات الفرنسية هناك، وسرعان ما اندلعت الحرب بين بريطانيا وفرنسا عام 1759 بسبب الصراع على المستعمرات. وانتهت هذه الحرب عام 1763 بصلح باريس، الذي حصلت انجلترا بمقتضاه على كندا ولم تعد تملك فرنسا في تلك البقاع الا بعض الحقوق لصيد الأسماك في مناطق معينة على المحيط الهادئ.
لكن فرنسا أصرّت على الانتقام من بريطانيا فوقفت مع الوطنيين الأمريكيين في حربهم الاستقلالية التي خاضوها ضد وطنهم الأم بريطانيا عام ،1776 ومن ثم قام نابليون بمحاولة لتقويض سلطان بريطانيا في العالم، لكنه فشل بعد هزيمته في معركة “واترلو” عام ،1814 وأصبحت بريطانيا الدولة الكبرى في أوروبا والعالم. لكن فرنسا عادت من جديد ونشطت في ميدان الاستعمار في آسيا وإفريقيا، وفي تلك الأثناء كانت هناك أمم أوروبية في طور الظهور، حيث ظهرت ايطاليا الموحّدة عام ،1866 وألمانيا الموحّدة عام ،1871 وسعت هاتان الدولتان الى الاستعمار في العالم، مما أدّى الى زيادة المنافسين الاستعماريين، وقد كان ذلك سبباً رئيسياً في اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 ،1918 وقد دخلت في هذه الحرب دولة جديدة ناشئة هي الولايات المتحدة. وسرعان ما لمع اسم الولايات المتحدة على حساب الامبراطوريات الأوروبية التي بدأت في التراجع. فقد انهزمت ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ومن ثم اندلعت الحرب العالمية الثانية التي أدّت الى سقوط آخر امبراطوريتين في أوروبا وهما الامبراطورية البريطانية والفرنسية، وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية قوة كبرى في الغرب والعالم. لكن الامبراطورية الأمريكية لم تسمح لسواها من الدول الغربية بالظهور والحركة، بل وضعت كل الدول الغربية التي كانت امبراطوريات في السابق، تحت جناحها وحمايتها، وبات من الواضح أن الولايات المتحدة هي القوة الأخيرة في الغرب، وأن سقوط هذه القوة سوف يؤدي الى زوال شمس الحضارة الغربية والى انهيار سيطرة الغرب على العالم.
ولا عجب في ذلك، فقد أثبتت الأحداث وتطوّر المجتمعات وانتكاساتها، أن الأيام دول بين الأمم والشعوب، ولا شك أن عالم اليوم يعيش تغييرات جذرية، والتغيير سُنّة الحياة، وهي تغييرات متسارعة، خصوصاً بعد أن لفظت أوروبا آخر أنفاسها كهوية وككينونة سياسية وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي الى دويلات وانهيار الأنظمة الشمولية.
* كاتب من الامارات