داود الشريان: التأثير المصري من جديد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
زوبعة الاصلاح السياسي في المنطقة العربية التي اطلقتها واشنطن بعد اجتياح العراق خرجت من يد من أطلقها، فضلاً عن ان الاجتياح لم يصبح وحده المحرض على تشعب هذه الزوبعة واستمراها والتي انتقلت عدواها بنسب متفاوتة الى جميع الدول العربية. حتى الدول التي تقر الحياة البرلمانية المنتخبة وتمارسها لم تسلم من تأثير الزوبعة، ففتحت قضية الحقوق السياسية للمرأة في الكويت وانتهت لصالحها. وفي لبنان حرك اغتيال الرئيس رفيق الحريري الساحة اللبنانية وعجل بخروج القوات السورية، وشهد لبنان مسيرات وطنية غابت فيها الطائفية ورفعت فيها شعارت وطنية وجرت الانتخابات النيابية للمرة الاولى منذ ثلاثة عقود بروح مختلفة، واستعادت الحياة السياسية في لبنان الكثير من عافيتها، وجرى توطين زوبعة الاصلاح في شكل تلقائي، وتولت الرياح الداخلية إزكاء الزوبعة، وتم تقليد المسيرات اللبنانية في غير بلد عربي، حتى وصلت العدوى الى مصر. هنا أخذ المشهد صورة مختلفة، وتدخلت عراقة التجربة السياسية في مصر في صوغ عدوى الاصلاح على نحو مختلف تماماً عما خطط له الاميركان او ما جرى في لبنان، وتحولت مصر من جديد الى مصدر للأفكار والحركات السياسية كما كانت على الدوام.
في لبنان عاد المتظاهرون والمعتصمون في ساحة الشهداء الى أحزابهم، وطوائفهم، وخلال الانتخابات توارى الى حد بعيد الحس الوطني العام الذي ميز تظاهرة 14 آذار (مارس). أما في مصر فإن حركة الشارع وصلت الى نقاط جديدة تستهدف إصلاح الحياة السياسية وليس النظام السياسي فحسب، فنشأت حركات سياسية تطرح نفسها كأحزاب سياسية للمستقبل، وكانت البداية بنشوء «الحركة المصرية من أجل التغيير» المعروفة باسم «كفاية»، ثم جاءت حركة «التجمع من أجل الديموقراطية»، وتوالت الاسماء: «أطباء من أجل التغيير»، و«صحافيون من أجل التغيير» والقائمة مفتوحة... وخلال وقت قصير انتقلت العدوى المصرية الى اليمن ونشأت حركة باسم «إرحلوا» ومنها الى فلسطين التي شهدت قيام حركة باسم «كفى».
والمثير للاهتمام في ما تشهده مصر ان هذه الحركات نشأت في ساحة سياسية توجد فيها أحزاب عريقة مثل الوفد، والتجمع، والناصري خاضت نضالاً سياسياً على مدى عقود، بل ان نسبة كبيرة من أعضاء الحركات الجديدة محسوبون على أحزاب وحركات تقليدية. فحركة «كفاية» خليط من أعضاء الحزب الناصري والوفد و«الاخوان المسلمين». والأمر نفسه ينطبق على الساحتين اليمنية والفلسطينية.
على هذا الاساس، يمكن القول ان ما يجري في مصر تجاوز الاصلاح بالمفهوم الذي جرى تداوله مع الحملة الاميركية على العراق، والذي يتحدث عن التعددية السياسية وإلغاء أنظمة الطوارئ، وبناء مؤسسات المجتمع المدني واطلاق حرية التعبير وحقوق المرأة... فالحركات الجديدة في مصر وجدت ان الاصلاح يتطلب إصلاح الحياة السياسية برمتها وعلى رأسها الاحزاب القديمة، التي لا يختلف أداء معظمها عن أداء حزب السلطة، فضلاً عن ان الحركات الجديدة اعتمدت على الشباب، وتجاوزت الانتماءات الايديولوجية في قبول الاعضاء، فهي خليط من الاسلاميين والناصريين واليساريين، والاغنياء والفقراء. يضاف الى هذا التنوع اعتماد اساليب جديدة في الاحتجاج، فللمرة الاولى نرى حركة سياسية في العالم العربي تضيء الشموع كتعبير عن الرفض، عوضاً عن تحطيم السيارات والممتلكات العامة وإحداث الفوضى!
لا شك في ان ما يجري في مصر سيساهم في تحريك المنطقة العربية على نحو يفوق حتى التوقعات الاميركية، فزوبعة الاصلاح جرى تلقيحها بخميرة مصرية مثيرة على مفاهيم المعارضة العربية وجديدة، وترى ان البناء الجديد يحتاج الى مضمون بمستواه، فأحزاب المعارضة المصرية والعربية التي نشأت تحت سقف تحدده السلطة لم تعد قادرة على العيش تحت سقف وطني جديد ورحب، ولهذا فإن الحياة السياسية في العالم العربي مقبلة على مرحلة حزبية جديدة، يجري حالياً تكوينها في مصر. ولعل أهم ملامح هذا التكوين ان هذه الاحزاب التي تتشكل ستتخلص من الفكر السياسي الذي عاشت عليه المنطقة منذ منتصف القرن الماضي، وهذا الامر كاف في حد ذاته للتفاؤل، ومن يقرأ تاريخ الديموقراطية في أوروبا يجد أن الاحزاب فيها مرت بتجربة لا تختلف كثيراً في طبيعتها عما يختمر في مصر الآن.