جريدة الجرائد

المئوية الأولى لولادة إلياس كانيتي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

طوبى لٍمَن أتى بصنيع مثله

أنطوان بيرّو
ترجمة: بسّام حجّار

مؤلّف "الحشد والسلطان"، المولود في بلغاريا، جوّاب الآفاق، كان رمزاً لفكرٍ أوروبيّ متحرّر من اليقينيّات. في هذه الأيام يُحتفى بالذكرى المئويّة الأولى لولادته ( ولد عام 1905 )؛ وفي الوقت نفسه تصدر الترجمة الفرنسيّة لملاحظاته ومدوّناته تحت عنوان: "السنوات الإنكليزيّة"، التي يسرد فيها وقائع إقامته في إنكلترا وصلته بجوانب الحياة هناك بالإضافة إلى ذكريات مع كتّاب ومفكّرين وسياسيين عرفهم.
للمناسبة كتب أنطوان بيرّو (مجلّة "تيليراما" الأسبوعية الفرنسيّة، عدد 8 حزيران 2005) مقالةً عن المفكّر الراحل (عام 1994) هي أقرب للبورتريه. في ما يلي معظم ما جاء فيها:


في شهر أيّار سنة 1968، كانَ رجُلٌ دَحْداحٌ في الثالثة والستين من عمره تقريباً، أشعث الشعر، ثاقب النظرات خلف عويناتٍ سميكة، أشيب الشاربين، متأنّقاً بربطة عنقه وسط الشوارع والأرصفة التي انتزعت حجارتها، يسير الهوينى سالكاً طريق الحيّ اللاتيني. رجلٌ يعرف باريس جيّداً. قد طالما قادته إليها حياته التي قضاها في الترحال. كان الرجل يُدعى إلياس كانيتي. وسوف ينال جائزة نوبل للآداب سنة 1981. وعندئذ سوف يعمد إلى قطع خطّ تلفونه، فارّاً إلى الأبد من وجه الصحافة، معتزلاً العالم من حوله. لكنّه في تلك اللحظة (أي في شهر أيار سنة 1968)، كان يسير قُدُماً، بصحبة شابٍ من أقربائه، هو الصحافي والناشر رفائيل سوران، باتجاه مبنى السوربون، حيث يخطب رجلٌ في مثل سنّه تماماً، من مواليد سنة 1905، كان رفض، من جهته، جائزة نوبل بعد أن مُنحت له، لكنّه يجيب على الاتصالات الهاتفية، ويستقبل الصحافة، ويقوم بكلّ ما يتطلّبه منه "الالتزام": رجل يُدعى جان بول سارتر. مبنى الجامعة يضيق بالمحتشدين، آلة بيانو من طراز قديم مهملة عند المدخل، أمّا تمثال باستور فقد ألبس أقنعة التنكّر بالطلاء ورُفِعت على تمثال فيكتور هيغو رايةٌ حمراء. بماذا فكّر إلياس كانيتي في تلك اللحظة؟

اللون الأحمر هو أحد هواجسه الخصبة. ذلك أن كتابه "إعدام بالحرق"، وهو روايته المستفيضة الوحيدة التي ألفها وهو في السادسة والعشرين من عمره، تبلغ ختامها في الفصل الثلاثين المُعَنْوَن: "الديك الأحمر". كذلك الأمر كتابُه "اللسان الناجي"، وهو الجزء الأوّل من سيرته الذاتية الذي لن يصدر قبل بلوغه اثنين وسبعين عاماً، المسكون باللون الأحمر: من الإطار المكاني الذي انبثقت منه الذكرى الأولى حتّى وجنتي فتاةٍ تحرّق شوقاً إليها، مروراً بوالدته عندما كانت تجرّ عربة الثلج على صفحة نهر الدانوب المتجمّدة، على الحدود بين رومانيا وتلك البلاد التي تسمّى بلغاريا حيث رأى إلياس كانيتي النور.
كما أن اللون الأحمر يذكّر بالحرائق التي تزخر بها أعماله. كانيتي شاهد الحشود وهي تضرم النار في قصر العدل في فيينا سنة 1927. واستشعر في وسط هذه الحشود الحماسيّة بقوّةٍ بائدةٍ تُبعَثُ حيّةً عبر العصور بقائدٍ أو من دون قائد. وسوف يلهمه هذا المشهد تحفةً فلسفية/سيكولوجيّة/أدبيّة، لن تصدر قبل سنة 1959، بعد خمس وعشرين سنة من العمل والاجتهاد تحت عنوان "الحشد والسلطان". ولن يُنشَر هذا الكتاب غير القابل للتصنيف في ترجمةٍ فرنسيّة قبل سنة 1966، وبفضل الجهود التي بذلها ( المؤرّخ ) بيار نورا. لفرط استغراقهم في مقولات الماركسيّة الفرويدية،لم يرَ المثقفون الباريسيون في "الحشد والسلطان" سوى "قصيدة سوسيولوجيّة" طويلة. أمّا اليوم، فإنّ رحلة تنقيبٍ على هذا القدر من الرصانة والواقعيّة عبر غريزة الاحتشاد (لغرض العصيان ) التي تجتاح العالم ـ من حفل أوركسترا سمفونية إلى الاحتفالات الشيعيّة ـ، تبدو لنا المضاد الحيويّ الأنجع لهيمنة الإنسان على الإنسان. كانيتّي حذّرنا من قبل: وكان ذلك أسلوبه "في القبض على خناق عصره". ففي شهر أيار سنة 1968 كان جان بول سارتر، الفرنسيّ، يخطب في الحشود مطمئناً إلى الحقائق التي يؤمن بها، محاطاً بالإعجاب والتبجيل. أمّا إلياس كانيتي، الأوروبي، فكان يصغي، لا يملك إلاّ اختبار مسيرته التي قادته إلى التنقّل من مكان إلى مكانح

سنة 1911، كان كانيتي قد اكتشف "مانشستر" عندما هجر أبواه دَسكَرةَ "روستشوك"، على البحر الأحمر، وهي المهد الأخير لهذه العائلة العريقة من اليهود السفرديم. كان أفراد عائلة كانيتي، لجهة الأب، وعائلة آرديتي، لجهة الأم، الذين يحملون جوازات سفر تركيّة، يتكلّمون اللغة اليهودية الأسبانية ( بالإضافة إلى ستّ لغات أخرى ). وعند مغادرتهم كان الجدّ قد لعن ابنه. وتوفي هذا الأخير بعد ذلك ببضعة أشهر، مخلّفاً وراءه إلياس من دون عزاء: فالأبُ لم يُنهِ، قبل وفاته، سرد مغامرات عوليس على مسامع ابنه...
غير أن الأوديسّة كانت لا تزال في بداياتها الأولى والكثير منه والمطوّل منها ينتظر الأبناء الثلاثة وأمّهم، ماتيلدا، المثقّفة، المشرِقة، غير الممتثِلة، المتطلّبة إلى أقصى الحدود. تقضي الأسرة المحزونة ثلاثة أشهر في لوزان. وهناك تصمّم ماتيلدا على تلقين ابنها البكر الألمانية ولو بالقوة. وهكذا كان على إلياس الذي نسي اللغة البلغارية لكنّه تعلّم الإنكليزيّة، ما وراء بحر المانش، والفرنسية على يد إحدى المربيّات، أن يتكلّم إذاً، ثمّ أن يكتب لغة غوتِه، التي جرى حشرها حَشْراً في رأسِه. وفي قلب النطاق الجرماني كان عليه أن يشهد، بقدر ما أتيح له أن يشهد، صعود النازيّة. وعلى خلفيّة الصعود الهتلري كان يشهد انهيار أمّه. إذ لم تحتمل فكرة زواجه من فيزا، التي كان التقاها خلال محاضرةٍ للناقد السّاخر كارل كراوس. فغادرت الأم إلى باريس مصطحبةً معها ابنيها نسيم (الذي سيغدو منتج حفلات جاك كانيتي الموسيقيّة، ومكتشف براسنز وبريل) وجورج (الذي سيغدو باحثاً في معهد باستور). وستموت ماتيلدا في باريس بمضيّ عشر سنوات، من دون أن تغفر لإلياس الذي سيكتب صفحات هاذية بالألم حول مراسم دفن والدته في مدافن "بير لاشيز". غير أن قرار الضمّ (قرار ضمّ النمسا إلى ألمانيا الشهير بقرار "الأنشلوس") يصدر في آذار 1938. يتمكّن إلياس كانيتي من البقاء بفضل جواز سفره التركي لكي يشهد اشتداد القبضة النازيّة على النمسا. وفي شهر تشرين الثاني، إثرَ ما عُرِف فيما بعد بـ"ليلة الكريستال"، يغادر نهائياً تلك البلاد التي ألمّ بها السعار. ترفض فرنسا استقباله. فيلجأ إلى لندن.

سنة 1945، يدوّن في ملاحظاته ما يلي: "كانت قوّتي المقلقة والغامضة تجد ملاذاً لها في قلبِ الفوضى؛ وكنت واثقاً من الفوضى مطمئناً إليها كمثل اطمئناني إلى العالم بأسره. لكنّ الفوضى هي التي اندلعت اليوم. وشاء العبث ألاّ يُبذَل شيءٌ لمنع تفاقمها إلى ما هو أشدّ عبثيّة، وحيثما اتجهت لا أشتمّ إلاّ الروائح الثقيلة الحرّيفة للحرائق الخامدة... في ما تبقّى قد يقيم مجدداً ويستقرّ مَن تعرّضوا للصدمة مذهولين. وسوف يطبخون الحساء على نار البراكين ومبتهجين سوف يتبلّون طعامهم بالكبريت. أمّا الذين كانت قلوبهم مشرعة على ما جرى، على كلّ شيء، حتّى أتفه الحوادث، فهؤلاء لن تلمح أعينهم مسحة الجمال في أي فوضى، ولسوف يرتعدون حيال الأكثر استحالة بين المستحيلات، بصدقٍ، ووعيٍ، وفي غمرة قلقٍ يائس".

بماذا كان يفكّر كانيتي في أيار سنة 1968، في (مبنى جامعة) السوربون؟ ربّما كان يفكر بشيء من هذا القبيل. فعلى الرغم من اختلاطه بأبرز مفكّري أوروبا الوسطى، أمثال بروخ وبرغ، كان يعشق التمعّن في سلوك الآخر، مهما كان السلوك مجرّداً من المعنى. لِمَ لا نصغي إذاً إلى خطاب سارتر، آخر ما أبرزته فرنسا من العبقريات المتداولة؟ لقد زاول سارتر، على غرار كانيتي، الأنواع كافّة: كتب رواية فريدة ("الغثيان" حيث يلبث المرء، كما في "إعدام بالحرق"، بمواجهة مكتبة) لكنه ألّف أيضاً في المسرح والنقد والفكر، من دون أن نغفل أسلوبه البارع في تجاوز فنّ السيرة الذاتية. ومع ذلك، في شهر أيار سنة 1968، كان أحدهما يخطب عبر مكبّرات الصوت، فيما وقف الآخر بين المحتشدين لافتاً قريبه الشاب إلى ذاك التفاوت بين الموقعين. متراس أخلاقي يفصل فيما بينهما. ذلك أنّ الالتزام يجعل من سارتر نبيّاً مؤدلجاً راسماً ما يقتضي فعله. فيما موقع المراقِب المشارِك يجعل من كانيتي شاعراً أنّاساً مقتفياً تحوّلات البشريّة. في نصّه المكتوب سنة 1945، نلاحظ الفرق: "أُعمِل حاسّة الشمّ لديّ في كلّ اتجاه". أكثر من حاسة السمع، حاسة الشمّ هي التي تميّز كانيتي. وهو يصف نفسه بأنه "كلب زمانه" قابلٌ في أي وقت "للرضوغ لحاسّة شمّه".
أكثر من أي شيء آخر كان كانيتي شاعراً، كان "ملكاً مجوسياً"، قِنقِنُ الكلمات وساحر الكائنات. وكان في جانب من شخصيّته أشبه بساحر قبيلة: "إنّ أسمى عجائب النفس البشريّة هي الذاكرة، والكلمة التي تعبّر عنها تثير فيّ اضطراباً كما لو أنها (الكلمة) تنتمي إلى زمن سحيق في القدم، ومنسيّة، وتنبثق من الأعماق".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف