ميشيل كيلو: حرب عالمية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الخليج: الخميس: 21. 07 . 2005
في أول خطبة ألقاها بعد الهجوم على أبراج نيويورك ووزارة الدفاع في واشنطن، اعتبر الرئيس بوش الحرب على الإرهاب “حربا عالمية رابعة”، وتعهد بأن يخوضها حتى النصر، رغم خصائصها الفريدة وصعوباتها، التي تجعل منها نمطا جديدا من الحرب يختلف كثيرا عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، وعن الحرب الباردة مع المعسكر الاشتراكي التالية لهما، وهي حروب انتهت جميعها بانتصار أمريكي مؤزر.
واليوم، وبعد انفجارات لندن، التي تفصلها فترة زمنية غير طويلة عن انفجارات مدريد، يصدق حدس الرئيس الأمريكي، ويظهر جلياً أننا حقاً أمام حرب عالمية رابعة ومن نمط جديد، تخوضها أطرافها المختلفة بالقسوة والهمجية الضرورية للحرب، وتتبع فيها قواعد عنف مدفوعة إلى حدها الأقصى، من دون أن تكترث بحياة البشر، فالموت سيد الموقف وهو أداة الحسم والسبيل إلى الهدف، ولا قيمة لأي شيء عداه، ولا اهتمام بأي شيء غيره. وهكذا، فليكن الموت في كل مكان ولكل إنسان، وليسيطر الخراب والدمار على المشهد، ولا بأس إن كان هو المشهد الوحيد، ما دام الخراب المادي يتغذى من خراب روحي ومعنوي يحتضن بؤس العالم ويعزز حرباً عالمية قاتلة لا تعرف الرحمة.
عندما وقعت جريمة الأبراج في نيويورك، تصاعدت أصوات تحذر من ترك الموت اليومي والبطيء قدر القسم الأكبر من البشرية، وقالت إن المظلومين لن يجدوا في النهاية رداً على حالهم غير عنف أهوج سينشرونه ذات اليمين وذات الشمال في عالمهم. وحين قرر الرئيس بوش الرد على الحادث الفظيع بالقوة الأمريكية، تضاعف العنف أضعافا مضاعفة وغطى الموت مناطق الشقاء والجوع في جهات المعمورة الأربع، فقالت الأصوات المحذرة إن هذا يشحن الموت بقدر من الحقد يجعل من الصعب السيطرة عليه، ويدفع بالحرب العالمية الرابعة إلى أبعاد وحدود لم تعرفها أي حرب سابقة، مع أن طابعها الخفي، وتوزع قواها السرية على جبهات غير منظورة، وقدرة أعداد صغيرة من المحاربين على استخدام آخر صيحات التقدم التقني والعلمي بآخر ما في العقل البشري من ذكاء وتدبير، ستجعل كسبها أمراً صعباً، بل ومستحيلاً بالنسبة لأمريكا والعالم المتقدم، وستحولها إلى حرب طويلة إلى درجة أن من سيبدؤونها سيبدون في نظر من سينهونها أشبه بزواحف بدائية جاءت من عالم آخر، بسبب قدرتها على التدمير، التي ستتعاظم إلى حدود لم يعرفها الجنس البشري.
وقد اقترحت الأصوات المحذرة، خوض الحرب بأساليب لا تعتمد القوة بل التنمية، ولا تستخدم العنف بل التربية والتقدم، ولا تستهدف قتل البشر بل حماية حياتهم وتحصينها بالعدل والتراحم. واقترحت كذلك تأسيس صندوق تنمية دولي رأس ماله مئات عديدة من مليارات الدولارات تخصص لتطوير وتنمية العالم الفقير عامة والإسلامي خاصة، وتضع حدا لموت أربعين مليون طفل مرضا وجوعا كل عام، ولانحدار مليارات البشر إلى مستوى حيواني، وتؤمن فرص عمل لقرابة مليار إنسان، وتقدم الرعاية الصحية لحوالي مليار امرأة يقتلها الفقر، والجوع، والتأخر، ونقص التغذية، والجهل، والماء الملوث، ونقص الدواء، وكثرة الولادات، وانعدام الأمن، والذل.
بدل تخصيص موارد كافية لتنمية العالم باعتباره عالما واحدا يجب أن يتضامن ويتآزر في وجه مشكلاته. رفع بوش موازنة الدفاع الأمريكية إلى ما يعادل موازنات الدول السبع عشرة التالية لأمريكا مجتمعة، وطلب من شركات السلاح إنتاج أنواع جديدة منه تستطيع تدمير أي هدف وقتل أي إنسان بطلقة واحدة، وأعلن حربه على الإرهاب دفاعا عما سماه أمن الولايات المتحدة القومي، ثم غزا أفغانستان والعراق، بينما انهالت تهديداته على دول أخرى كثيرة، قريبة وبعيدة، لتكون النتيجة زيادة بؤس البائسين، وتعاظم قوة الإرهابيين، الذين تحولوا إلى طرف أصيل في الحرب المنشودة وتولوا القتال باسم البؤساء والمذلين والجياع، ومدوا نشاطهم إلى قلب العالم الذي جاء يغزوهم، فأصابت الضربات نيويورك ومدريد بالأمس وتصيب اليوم لندن، وقتلت أبرياء لا ذنب لهم، وآمنين لا يحاربون وليسوا طرفاً في أي صراع، وجرحت أطفالاً ونسوة ورجالاً كانوا في طريقهم إلى كسب عيشهم، ولم يكونوا في الطريق إلى جبهة القتال.
واجه بوش العنف بالطريقة الأمريكية، التي تتصدى له بمزيد منه، وتعتقد أن من يكسب الحرب هو من يستطيع تحقيق أعظم قدر من القتل، وبث أكبر قدر من الرعب في قلوب البشر العاديين، الآمنين والعزل، على الجانب الآخر من جبهة ليسوا طرفاً فيها. بينما واجهه تنظيم القاعدة بمنطق القتل الشامل، الذي يرى في الشعب الأمريكي وشعوب أوروبا، بل وفي آخر هارب من بؤس المكسيك إلى الولايات المتحدة، نسخا أصلية من جورج بوش في قتلها انتصار الحق على الباطل، واستعادة حقوق المظلومين من الظالمين، وتحقيق العدل والسلام ونشر راية الحق والهدى في العالم. بذلك اكتملت شروط القتل العام، وبرز في مواجهة جنون بوش ورجاله جنون بن لادن ومقاتليه، وغدا عالمنا محلا للقتل، وصارت حياتنا ساحة يصول ويجول فيها السفاحون، وبرزت أمام أعيننا أسماء تكره الحياة، وفاضت قلوبنا أسى على أشباهنا الذين خرجوا مشوهين من قبضة الموت، أو غادروا الحياة فتية وشباناً وأطفالاً وشيوخاً ونساء لأنهم لا ينتمون إلى القتلة هنا، بل إلى القتلة هناك، على الجانب الآخر من الحقد والهمجية.
هذه هي الحرب العالمية الرابعة، التي بشر بوش بها واندفع كالمجنون إليها، بينما كان بن لادن يعلن جهاده ضد بقية العالم. وهذه هي نهاية العيش البشري السوي، وفرص تصالح الإنسانية مع ذاتها وخروجها بجهود مشتركة من أزماتها ومصائبها. فهل تليق بالإنسان: الكائن الذي كرمه الله وخلقه على صورته ومثاله؟ وهل كتب علينا نحن بنات وأبناء الجنس البشري، المسالمين والمحبين للحياة وللآخر، أن نسكت على الرضوخ لمجانين لا يفكرون بغير قتلنا ولا يعرفون للحياة معنى نبيلاً أو غاية شريفة؟