د. أحمد البغدادي: لا شيء خلفك سوى الحائط
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الإتحاد: الثلاثاء: 26 . 07 . 2005
أعلن د. سيد القمني اعتزاله الكتابة ضد الفكر الديني، وتوبته عما كتب في السابق. قناة "الحرة" الأميركية هي الوحيدة التي ناقشت الموضوع مع بعض المفكرين الذين لم يكونوا بمستوى الحدث، حيث لم أسمع منهم طوال برنامج "ساعة حرة"، كلمة واحدة ضد الإرهابيين "هكذا عش سلمك الله··" كما يقول الشاعر أحمد مطر. فالمثقفون في عالمنا العربي، نوعان: نوع حر يحمل نعشه وهو يكتب، ونوع آخر ينظر في حسابه البنكي وهو يداهن السلطة والتيار الديني. أذكر أن أحد المواطنين التقيته صدفة وسألني: هل أنت كويتي درجة أولى؟ قلت له: نعم. فطلب الإثبات، وصدف أنني كنت أحمل جنسيتي، نظر إليها وصمت بعض الشيء، ثم نطق: والله ما عندك سالفة! وهو يقصد بالطبع لماذا أكتب مدافعاً عن حقوق الإنسان وحرياته وبإمكاني تجنب كل هذا الشقاء. ثم أردف قائلاً: لا أحد سينفعك.
المثقف المناضل في العالم العربي التعس الذي يسيطر عليه الفكر الديني يعلم تمام العلم أنه لا يوجد خلفه سوى الحائط. عليه وحده أن يواجه "الذئاب" و"الضباع"، وهم الإرهابيون الذين يبعثون تهديداتهم عبر الرسائل الإلكترونية والبريدية. لا أحد يسندهم بالمعنى الحقيقي للكلمة. ومع ذلك يستمر المثقف في الكتابة إيماناً بحرية الذات.
وحرية الذات هذه لا يعرفها العقل العربي الذي يعيش اليوم في"جيتو" الفكر الديني. أتدرون ما هو الجيتو؟ هو ذلك المكان الذي أجبرت الحكومات الغربية قديماً، اليهود على العيش فيه حتى لا يختلطوا بالمسيحيين. وبمرور الوقت تكونت لدى اليهود فكرة الانغلاق على الذات، فكرهوا العالم وسعوا للانتقام منه. ومنتمو الفكر الديني المتطرف في عالمنا العربي اليوم لا يختلفون في تفكيرهم الديني المنغلق عن يهود ذلك الزمان، حيث يعيشون في "جيتو" فكري خاص بهم، ومن خلاله يكرهون العالم "الكافر"، ويكرهون المثقف والتفكير الحر ومن يتبناه. وهم يؤمنون بنظرية سخيفة اسمها "نظرية المؤامرة" ضد الإسلام والجماعات الدينية والفكر الديني. ومثل المريض النفسي يسعون الى تدمير الآخرين وتدمير أنفسهم، لذلك يمارسون الإرهاب ضد من هو أضعف منهم، المثقف الذي يحمل قلمه، وهو الآن يحمل نعشه باليد الأخرى. يداهنون الأنظمة الاستبدادية لأنهم يعتاشون عليها، لكنهم أعجز من أن يواجهوا مثقفاً ليبرالياً واحداً بقلمهم أو فكرهم، لأنهم يعلمون تمام العلم أنهم في معركة خاسرة سلفاً. ولا يبقى لديهم بسبب عدم تحضرهم، سوى حل واحد: الإرهاب الفكري أوالقتل.
لكنهم يخطئون حين يعتقدون أنهم قد انتصروا بإرهاب المفكر د. سيد القمني حين أعلن توقفه عن الكتابة وتوبته عما كتب. سيبقى ما كتبه د. القمني شاهداً على أصالة فكره وقوة حجته ونفاذ بصيرته، وسيزول موقفه، أتدرون لماذا؟ لأن عقب كل ليل هناك فجر آت رغم أنف الإرهابيين المحسوبين زوراً وبهتاناً على الدين الإسلامي.
المثقف العربي يضع روحه على كفه أكثر مما يفعله الجندي العربي الذي لا يعرف قتالاً, ومع ذلك يتمتع بكل المزايا الحياتية. سيتوقف د. سيد القمني، ولن يتوقف الفكر الحر لأنه كالنهر الهادر، والشعوب العربية لا تختلف عن غيرها، وسيأتي ذلك اليوم الذي ينعم فيه أحفادنا بالحرية، وستزول الأنظمة الاستبدادية كما زالت عروش ملوك أوروبا، وسيتلاشى الفكر الديني، كما تلاشت الكنيسة الكاثوليكية من حياة الناس. وبرغم هذا كله، لا نملك سوى احترام قرار د, القمني، لأنه اختياره، وإن كان مكرهاً. فهو ليس مطلوباً منه أن يضحي بنفسه بعد صبر طويل على التهديدات، لكن أعتقد أنه سيستمر في الكتابة لنفسه. فالكتابة قدر المثقف، ولهذا تخاف الحكومات الاستبدادية والجماعات الدينية من المثقف، وكلاهما يسعى للتخلص منه. الحكومات تستخدم "سيف" القانون لقطع أصابعه، والأخرى تستخدم سكين القتل لقطع رقبته.