جريدة الجرائد

«عزمي بشارة: « فلك نوح» طراز 2005

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الخميس: 25 . 08 . 2005

لم يكن أسبوع فك الارتباط الاسرائيلي عن غزة أكبر حملة عسكرية غير حربية يقوم بها الجيش منذ ان اقامه بن غوريون فحسب، بل كان أيضاً أكبر عرض «ريالتي تي في» في التاريخ منذ أن بدأ الناس بالتصرف والتحدث كأن هنالك كاميرا حاضرة طوال الوقت كأمر طبيعي، فغيروا من لهجتهم، أصبحوا أكثر دراماتيكية وأكثر كليشيهيةً كأنهم «بوستر» أو «ستيكر» او «ساوند بايت» تسويقية متجولة، ومنذ أن شاهد آخرون كيف عليهم ان يتصرفوا في حالة الغضب والحزن والفرح فتصرفوا بموجب صورتهم التي رأوها في الإعلام، فتمّ نسخ وتناسخ الناس في هندسة جينيكولوجية - تلفزيونية او للاختصار «جنزيوينة». (سجل براءة اختراع!)

في اسبوع دراما فك الارتباط مع الواقع وتوثيق الارتباط مع الصور عن الواقع، وفي تسلسل وقائع الدراما وفصولها من ملصقات المستوطنين الى المواجهة المخرجة إخراجاً محرجاً بين المستوطنة والجندي المطأطئ الرأس ليس خجلاً، بل لأن عليه حسب السيناريو أن يبدو خجلاً ومتألماً لما يفعل، وهي تصرخ بأبنها بهستيريا: «عندما تكبر لا اريدك ان تكون مثل هذا الجندي، بل ان تكون جندياً يدافع عن الوطن!»، والطفل الذي دربه المستوطنون ان يصرخ على الجندي الذي يضبط اعصابه، ليس لأنه يجد صعوبة في ضبطها بل لأن عليه ان يبدو رابط الجحش، عذراً الجأش، فالحديث هو عن جنود رابطي الجأش، وهكذا يجب ان يتصرفوا فيعيدوا انتاج صورتهم، وكون بعضهم قد صدقها لا يغير من كونها صورة. يصرخ الطفل ليحتار المشاهد بين الطفل البريء والجريء وبين الجندي الرابط الجأش، ليس لأن لا جأش له، بل لديه جؤوش. ولكن جهاده الاصغر على وزن لغة منتجي الصور عندنا هو ان يربطه فيحكم ربطه: «هل غسلوا دماغك، لماذا لا تنظر في عيني؟». وفي هذه الحالة يكرر الطفل جملة على أحد ملصقات حملة المستوطنين الموجهة للجنود من نوع «أخي أنظر في عيني!»، هذا إضافة الى: اللعب بالكلمات والصور المستوحاة من مكاتب الدعاية والتسويق من نوع صورة خلفية لجندي ينظر الى مستوطنة وفي أسفلها جملة: «كي لا تستوطن على ضميرك»، وصورة طفلة زرقاء العينين مع الجملة نفسها، تضاف الى ذلك الدعاية الحكومية تحت شعارات عائلية تميز الاخوة أو الاخويات الهوليوودية على الأقل، من نوع: «المهم ألا نفك ارتباطنا ببعض»، أو «لنعبر هذه المحنة سوية» أو «تساف بِيّوس»، (أمر مصالحة) على وزن «تساف جِيّوس» (أمر تجنيد)، وهو ملصق ودعاية تلفزيونية حكومية بنفس نوع ولون خط الرسالة التي تصل للجندي عند دعوته للخدمة وقت الحرب. تضاف الى ذلك ملصقات بالبرتقالي على السيارات من كل الأنواع: «الشعب مع غوش قطيف»، «أين اختفى الخجل؟»، «اقتلاع المستوطنات انتصار للارهاب»، ومقابلها بالأزرق: «تفكيك المستوطنات خيار الحياة»، «نخرج من غزة ونبدا الكلام»، «ليعد الأبناء الى حدودهم، نخرج من غزة ونحمي البيت»... وعنوان الحملة العسكرية الرسمي لتفكيك المستوطنات: «يد للاخوة»، وكلمة يد هنا هي اختصار عبري لمد يد المعونة.

وتضاف الى هذا كله مقالات كبار الكتاب المعارضين للاستيطان في الصحف الاسرائيلية الثلاثة. لكن المشاركين في الدراما الرخيصة، الذارفين دمعة مع العائلة، لأن العائلة كلها في حداد تضامناً مع حداد أحد أفرادها. ولكي تجتاز العائلة المحنة بسلام لا تجوز الشماتة. ومقال خافير سولانا في «هآرتس»، بعد مقابلة جورج بوش... في «فزعة» لشارون على مستوى رأيه العام، مع وعود للاسرائيليين بأن الكرة ستكون في الملعب الفلسطيني وان الامتحان المقبل هو امتحان الفلسطينيين.

ثم قبل الحملة بيوم خرجت الصحف عن طورها لأن المنافسة بينها على أشدها، ولأنها تريد أن تبيع: صورة جندية، جميلة، بعين من وضعها على الاقل، ببلوزة تريكو عسكرية بسيطة وجريئة بالنسبة للباس العسكرية ولكنها تحمل كتاب التوارة مفتوحاً وتقرأ بتمعن. طبعاً ربما لا ترى سطراً واحداً اثناء التصوير المهم أنها تبدو علمانية متحررة تقرأ التوراة في هذا اليوم. لا ندري ماذا نفعل بكمية الرخص الذي فاض علينا من ثنايا الصحف الحرة، الى أن وردت صورة تحمل ألف معنى من صحافة الجهة الأخرى: صورة لا يمكنك ان تقشرها لكثرة طبقات القشور ولكثرة طبقات الوهم والعوالم الافتراضية المتضمنة فيها. قادة السلطة الفلسطينية في غزة يقصون شريطاً (شريط فعلي، وقد حسبنا ان عادة الشريط والوسادة والمقص قد اختفت من الدنيا) يطلون برؤوسهم من فوق الشريط والمقص وحامله. تجمعوا وتصوروا لافتتاح مقر... مقر ماذا؟ مقر مركز البث الاعلامي المباشر الذي اعد خصيصاً لنقل اخبار فك الارتباط. على الصفحة الأولى. هل انت معي عزيز القارئ؟ يتم افتتاح مركز اعلامي من النوع الذي يقام في بلدان مختلفة عند انعقاد قمة او العاب رياضية دولية موسمية او غيرها. لكنه يفتتح هنا بمقص وشريط من قبل اعلى مستوى في السلطة كأنه صرح وطني أو منشأة صناعية أو ثفاقية. وهو مقر للبث الإعلامي لتغطية الحدث. وللصورة هنا أكثر من مغزى. فمجمل ما قام به العرب هو رد فعل أو تفسير لخطوة شارون وذلك من دون ان يسألهم أحد. ولم يهم شارون هل يحتفلون أم يحدّون. قرروا اقتحام الدراما الاسرائيلية العالمية التي اخرجت وانتجت من دون فلسطينيين وعرب بالاحتفالات. واختلفوا على سبب الاحتفال، هل السبب هو انتصار المقاومة ام انتصار عملية السلام. واتفق العالم معهم ان هنالك سبباً للاحتفال وان عليهم ان يقابلوا الحداد الاسرائيلي واحتفالاتهم هم بتزويد العالم بسبب أو باسباب للاحتفال من نوع «ضرب بنى الارهاب التحتية». وقررت الحكومة الاسرائيلية اليوم بناء الجدار حول معاليه ادوميم، ويقول الوزير العمالي رامون ان حكومة اسرائيل تعارض بناءه هكذا لكنها لن تفعل معنا شيئاً بعد فك الارتباط.

أنا لا اضيع هنا سطراً واحداً في وصف البيوت والمنازل وعملية الاقتلاع، فالكذب والعهر هنا لا يستحقان حتى التعليق، ولو جاء الكذب من ايلي فيزيل المنافق الأبدي ( «نيويورك تايمز»، 21 آب/ اغسطس 2005). (اقترح في هذه المناسبة احتفالياً الغاء جائزة نوبل للسلام، فهي خلافاً لغيرها من جوائز نوبل جائزة نفاق لا اكثر ولا اقل). من المهم فقط ان نذكر أن الحديث هو عن مستعمرين ومستعمرات. وأقدر أن المستعمرين في الجزائر قد بكوا بعد جيلين، وطوروا حباً للاقليم الذي استعمروه. ورومانسية المستعمرين العنصريين معروفة في افريقيا. ولكن هؤلاء خلف الاسلاك الشائكة، بممارساتهم في نفي المقيمين في المكان والرغبة بالحلول مكانهم لم يتصفوا باي رومانسية لا شكلاً ولا مضموناً. وقبعوا خلف الاسلاك الشائكة والجدران والبنادق. اما السكان من حولهم فكانوا بأنفسهم لاجئين اقتلعوا من بيوتهم في قرى ومدن الساحل الجنوبي لفلسطين التي تبعد كيلومترات معدودة عن مخيماتهم. هؤلاء هم الذين اقتلعوا من بيوتهم، وتفكيك المستوطنات على اهميته وضرورته لا يعوضهم عنها. لكن الدراما التلفزيونية، بما في ذلك عربياً، طمست هذه الصورة. وحتى عندما قيل الكلام عن تغييب الفلسطينيين، وعن ان هذه المعركة التي يقوم التلفزيون بتصويرها ليست المعركة الحقيقية، فإن الصور قد تكلمت لغة أخرى. لقد صور التلفزيون لعبة شارون ونقلها للعالم كأنها اللعبة الوحيدة في المدينة، ولم يغي!ر بعض التعليقات في نقد هذه الصورة في الصورة المبثوثة ذاتها: صورة «الثمن الباهظ» الذي يدفعه المجتمع الاسرائيلي، المواجهة بين الجنود والمستوطنين والتعاطف مع الجنود الباكين على مصير المستوطنين واضطرارهم لأ يلبوا نداء الواجب، وصورة معاناة الجنود وضبط اعصابهم وانهيار هذه المجندة او تلك بكاء اما من الحر أو من الكاميرات أو فعلاً من منظر المستوطنات الباكيات او النائحات او العافرات السم بكل اتجاه. وسياسياً فرزت الصورة كما خشينا وكأن الدنيا مقسومة بين خيارين فإما شارون وإما المستوطنون، والخشية ان يختار حتى العرب أحد المعسكرين للتعاطف... والخوف ان يحاول عربي اثارة الاعجاب بالادعاء أن قلبه يكاد يخونه وهو يشاهد الباكين على رسمٍ درس. وعند العربي ضعف للبكاء على الطلول منذ الاول الثانوي. والمصيبة أنه بدل ان وزارة الخارجية الاسرائيلية تقاطع فضائية عربية بدل ان يحصل العكس. ولكثرة الطلب كان من ضمن من جهزتهم الخارجية الاسرائيلية للنطق في الفضائيات شاب بدوي خدم في الجيش.

في خضم محاولة الكاتب تجنب رؤية هذا كله، ثم مراجعته قراءةً بعد اسبوع، وجد نفسه مشدوها امام اختفاء قعر المشهد الإعلامي تماماً، بحيث لا يقف التدهور عند حدٍ، أو مستقر. انفخت القعر. انفزر القاع. انبعجت الارضية. (لم انجر عزيزي القارئ وراء مزاج لا يعبر عنه إلا بالعامية. فمع ان فخت تستخدم للسقوف وليس للقيعان، وفزر للاقمشة والجلود، إلا أنها جميعاً مصطلحات عربية فصحى كما وردت في قاموس المحيط وفي تاج العروس). لم يبق لا قعر ولا قاع. وهكذا نقرأ ( «هآرتس» 14 آب) ان «المدافعين عن الرفق بالحيوان اجتمعوا مع مسؤولين حكوميين لتطبيق خطتهم بشان انقاذ الحيوانات البيتية التي ستترك في غوش قطيف». اسم المنظمة «نوح»، تيمناً كما يبدو بفلك نوح الذي بناه من خشب قطراني كما جاء في التوارة لانقاذ زوج من كل دابة تدب على وجه البسيطة، او زاحف يزحف على بطنه، او ذي جناحين يطير في السماء قبل أن يأتي عليها الطوفان. وحسب اقوال رئيسة المنظمة شيلي جلوزمان لصحيفة «هآرتس» فإن مكتب رئيس الحكومة قد تبنى الخطة، وتابعت قائلة إن «هنالك مئات القطط وبضعة دزينات من الكلاب يجب سحبها من القطاع وإلا فستبقى من دون ماء وطعام ومكان للعيش». المهم هنا ان كافة فئات الشعب ومؤسساته تساهم في هذا الجهد الوطني الكبير لـ «انقاذ الاخوة». وكأن القطط والكلاب لا يجوز ان تعيش عيشة العرب في غزة المحررة عيشة كلاب. ومع ان للناشطة المذكورة لا تدرك عما تتحدث، إلا أنني مضطر مع ذلك للقول انه لا حدود للسماجة. وقد نشرت «اسوشييتد برس» (18 آب) نبأ عن منظمة أخرى «شاي» ينتظر نشطاؤها من وزارة الامن اذن دخول القطاع لانقاذ الحيوانات. أما موقع منظمة «شاي» هذه فيصور ناشطات المنظمة مع الجنود والمجندات على حاجز ايرز في صورة تاريخية قبل بدا حملتهم لانقاذ الحيوانات التي سيتركها المستوطنون وراءهم.

ويوم 23 آب عادت «هآرتس» مرة أخرى لتغطي اخبار منقذي الحيوانات المثاليين أولئك، توائم الجنود في عملية اعادة كائنات حية أخرى الى الوطن. وهذه المرة في الضفة الغربية في مستوطنة كديم. تزف لنا الصحيفة الليبرالية نبأ وصول السيدة افيتال فيرسكن الناطقة بلسان «جمعية رفاه القطط في اسرائيل» الى كاديم لإنقاذ القطط في مستوطنتي جاتيم وكاديم وقد عصرت هذه الخطوة النبيلة دموعاً من عيني المستوطنة مارتين اشجاري التي قالت انها لم تعد تستطيع وحدها اطعام عشرين قطة تجمعت في ساحة بيتها. والمهم والأهم ان الناطقة المدربة على النطق تقتبس الرمبام (رابي موشي بين ميمون) حكيم اليهودية وفيلسوفها الأول المعروف عربياً باسم موسى ابن ميمون الذي كتب بالعربية والذي قال حسب المناضلة اعلاه انه «لا فرق بين القسوة تجاه الحيوانات والقسوة تجاه البشر». وما زالت هنالك خمسون قطة في جانيم، ومئة الى مئتين في كاديم، والمئات في غوش قطيف. وتحتاج المنظمة الى نصف مليون شاقل لتأمين مأوى لها. وقد اصدرت منظمات الرفق بالحيوان نداءات طالبت فيها الجمهور بتبني الكلاب والقطط وان تفسح مكاناً لهؤلاء القادمين الجدد من المناطق التي تم الانسحاب منها.

وعلى ذكر المساواة في القسوة، لا تقدم الكلاب طلبات لم شمل ولا تطالب القطط بتصاريح اقامة موقتة او دائمة وذلك من دون ان تثبت يهوديتها. وبقي ان نسأل لماذا لا يقيم العرب منظمات رفق بكلابهم وقططهم بحيث تصبح مناطقهم لائقة لسكن كلاب وقطط الأسياد، أو لكي تضاف منظمات جديدة الى قائمة الجمعيات التي تجري حواراً مع المنظمات الجارة؟ الكرة في الملعب الفلسطيني لتقديم الحواب. على كل حال عدم وجود مثل هذه الجمعيات حالياً وفر علينا بعض التراشق بالبيانات حول قدرتها ان ترفق بالحيوان لا اقل من زميلاتها الاسرائيليات، وانها لا تفرق بين قطة وأخرى خلافا للمنظمات الاسرائيلية... انظروا أعزائي القراء الى نصف الكأس الممتلئ إذ لم نضطر للمرور بهذه النجربة.

ازاء طوفان الإعلام والفضائيات الحالي وتهديده لإبادة كل ما ليس صورة ذات بعد واحد أو ظلاً لصورة يرى الكاتب ضرورة لفلك نوح جديد طراز 2005، وان ندخل فيه زوجاً من جمعيات الرفق بالانسان وأن نختار زوجا على الأقل من الصحافيين المستقيمين لكي نحافظ على هذا الجنس من الطوفان أعلاه، وزوجاً من المشاهدين الذين لا تنطلي عليهم الصور التلفزيونية الرائجة لإنقاذ هذا الجنس ايضاً، وزوجاً ممن يرفضون قراءة مقال لخافيير سولانا ويرفضون اعتبار جائزة نوبل للسلام مهمة ويرفضون المشاركة في حفلات استقبالهم، وزوجاً ممن لا يقرؤون كبار الكتّاب وهم يكتبون مقالاً كلفتهم بكتابته صحيفة عشية وقوع حدث كبير، وزوجاً ممن لا يعتبرون المشاركة في حفل استقبال أمراً مهماً، وزوجاً من أصحاب المعد الحساسة الذين تثير فيهم تصريحات كوفي انان في مدح شارون الرغبة بالتقيؤ، وزوجاً ممن يعتبرون النفاق والكذب حتى لو كانت مدفوعة الاجر صفات سيئة، وزوجاً ممن لا يعتبرون النجاح بأي ثمن قيمة، وناس طيبين آخرين.

كاتب عربي.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف