جريدة الجرائد

شوكت إشتي: الفاتح ومسار الإطباق على الناصرية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

نجحت حركة الضباط الأحرار في ليبيا في الأول من ايلول من العام 1969 بالانقلاب العسكري ضد العاهل إدريس السنوسي، فاستولت على السطة وألغت النظام الملكي وأقامت الجمهورية العربية الليبية.
عمدت قيادة lt;lt;الثورةgt;gt; الى تغيير أسماء أشهر السنة، فأصبح شهر أيلول يُعرف بالفاتح. لذلك غدت حركة الانقلاب العسكري تُعرف باسم lt;lt;ثورة الفاتحgt;gt;.
جاءت lt;lt;ثورة الفاتحgt;gt; في ظل أوضاع عربية صعبة ومأزومة. فاعتبرت، في حينه، ردا على هزيمة الخامس من حزيران (1967)، الامر الذي جعلها تأخذ موقعها المميز في مسار lt;lt;التغييرgt;gt; المنشود.
لقد عبّرت حركة الضباط الاحرار، منذ انطلاقتها الاولى، عن هويتها العربية والتزامها القومي وانخراطها في خط التحرر ومسيرته، مما عزز حضورها كرافد من روافد حركة التحرر العربية من جهة، وحركة التحرر العالمية من جهة اخرى. وبدت حركة الانقلاب الليبية محاطة بالتفاف شعبي قل نظيره. بل يمكن القول إنها الانقلاب الوحيد، مبدئيا، الذي حظي منذ ساعاته الاولى باحتضان شعبي مميز وخاص، وتأييد جماهيري غير مسبوق مقارنة بمسلسل الانقلابات العسكرية التي ابتليت بها أمتنا العربية.
فإذا قارنّا التأييد الجماهيري العربي lt;lt;لثورة الفاتحgt;gt; بالانقلابات العسكرية العربية الاخرى مثل سوريا، العراق، تونس، السودان، اليمن... الخ نجد ان الكفة الراجحة كانت للانقلاب العسكري الليبي لجهة الاحتضان الشعبي والتأييد الجماهيري. ويمكن ملاحظة هذه المسألة بشكل أدق من خلال المقارنة مع ما شهده العراق في العام 1968. حيث نجح حزب البعث العربي الاشتراكي في الوصول الى السلطة بانقلاب عسكري عُرف ب lt;lt;ثورة تموزgt;gt; وعبرت هذه الحركة ايضا عن تطلعات عربية وتحررية، وجاءت في سياق الرد على الخامس من حزيران، ودعم دول الطوق في مسيرة lt;lt;الصمود والتصديgt;gt;... غير ان مستوى lt;lt;المبايعةgt;gt; الشعبية lt;lt;للفاتحgt;gt; كان أقوى وأوضح وأوسع مما كانت عليه ل lt;lt;ثورة تموزgt;gt;.


جواز السفر

إن السبب الرئيسي والأول والمباشر لهذه المبايعة الشعبية وذاك الالتفاف الجماهيري يكمن في أن قيادة الثورة أفصحت عن هويتها السياسية وأعلنت أنها ناصرية الهوى وناصرية النهج وناصرية الفكر وناصرية الهدف. بل إن هذه القيادة أشهرت بكل الوسائل والطرق المتاحة أن الرئيس جمال عبد الناصر الملهم لحركتها، والقائد لمسيرتها، والنموذج لحاضرها وهو الأمل لمستقبلها. وبالتالي وضعت نفسها تحت قيادته كرمز عربي وقائد شعبي.
من هذه الزاوية بالتحديد الزاوية الناصرية اطمئنت الجماهير العربية لحركة الانقلاب العسكري في ليبيا. خاصة أن حركة الانقلابات العسكرية المتنقلة في تلك المرحلة في الأقطار العربية كانت موضع شك وريبة عند عامة الناس، وذلك بسبب ما اختزنته الذهنية الشعبية من خيبات الامل من هذه الانقلابات، وما عانته من إحباطات نتيجة لما آلت إليه أوضاع البلدان العربية التي اكتوت بهذا المرض الخبيث من ترو وتراجع، وما نال الجماهير العربية التي قامت الانقلابات باسمها من تهميش وانسحاق وانكسار وآلام...
لقد كانت الهوية السياسية الناصرية تذكرة المرور lt;lt;لثورة الفاتحgt;gt; وجواز السفر الى قلوب الناس وعواطفهم... على امتداد الوطن الكبير. ثم جاءت العديد من الخطوات والاجراءات والاحداث التي عززت هذه الهوية وبلورتها. ويأتي في مقدمتها ما عبر عنه الرئيس جمال عبد الناصر بنفسه. فلقد اطمئن الزعيم العربي الى القيادة الشابة للثورة، وهي اسماء مغمورة، وأعجب بحماستهم واندفاعتهم ووثق بتوجاتهم وإخلاصهم. لدرجة قال انهم lt;lt;يذكرونه بشبابهgt;gt; وانهم lt;lt;المؤتمنون على القومية العربيةgt;gt;، الامر الذي جعل بعض رموز lt;lt;ثورة الفاتحgt;gt; رموزا للخط القومي العربي عامة والحركة الناصرية خاصة.

ثم جاء رحيل عبد الناصر وما اعقب وفاته من احداث لتزيد أهمية موقع القيادة الشابة التي حظيت برضى lt;lt;الاب الروحيgt;gt; ونالت بركته. فقد كان للاحداث التي شهدتها مصر في ظل حكم أنور السادات قبل نهجه بالانفتاح على العدو الصهيوني وفي طليعتها صراع الرئيس السادات وتصفيته lt;lt;لمراكز القوىgt;gt; داخل الاتحاد الاشتراكي العربي، وهجرة رموز وقيادة lt;lt;طليعة الاشتراكيينgt;gt; الى ليبيا لتجعل منها كدولة lt;lt;القلعةgt;gt; الناصرية الاولى والمركز القومي الاكثر جذبا للشارع الشعبي الناصري على امتداد الوطن العربي برمته.
ضمن هذا الفضاء lt;lt;الناصريgt;gt; الخاص وضمن التحولات الرسمية العربية باتجاه الصلح مع العدو الصهيوني غدت قيادة الثورة المرجع الناصري فتوجهت التشكيلات والقوى والتنظيمات والرموز الناصرية، كما الوحدوية والتحررية. بالاتجاه الليبي. لكن التساؤلات حول موقع الهوية الناصرية في مسيرة الثورة بقيت مثيرة للجدل داخل الصف الناصري وقواه كافة. فإلى اي حد بقيت الثورة أمينة على ناصريتها؟ وإلى اي مدى ساهمت lt;lt;الثورة الليبيةgt;gt; في ترسيخ الفكرة الناصرية؟ وهل صدقت lt;lt;القيادة الثوريةgt;gt; بالتزاماتها تجاه الشارع الناصري، إذا لم نقل تجاه أمتها العربية؟ وماذا بقي من هوية lt;lt;الفاتحgt;gt; الناصرية؟... الخ
غزيرة هي التساؤلات التي تبرز اليوم، وفي ظل الظروف العصبية التي تواجه امتنا العربية، في ذكرى نجاح الانقلاب العسكري في ليبيا. وهي تساؤلات لا تشكك في النوايا او تحاسب على أساسها بل تبرز نتيجة للوقائع والممارسات والنتائج التي آلت اليه lt;lt;ناصرية الثورةgt;gt; بعد ستة وثلاثين عاما على نجاحها.

من هذه الزاوية المحددة ومن خلال استعراض مجمل التطورات التي اعتمدتها قيادة الثورة، يمكن القول ان lt;lt;الفاتح أطبق على الناصرية وحاصر فكرتها وتنكر لمبادئها وهشّم منطلقاتها وضرب مرتكزاتها وخلخل تشكيلاتها وفتت قواها وهمش جماهيرها وأحبطها. لذلك لم يبق اليوم من ناصرية lt;lt;ثورة الفاتحgt;gt; الا صورة الرئيس جمال عبد الناصر التي تُستحضر لتمويه الواقع المرير وتزيف الحقائق والتستر على منطق الارتداد عن خط الزعيم العربي الفكري والسياسي والنضالي... ويمكن تحديد مسارات هذا التوجه الذي اعتمدته lt;lt;ثورة الفاتحgt;gt; في أكثر من مستوى واتجاه سواء على المستوى الفكري أو التنظيمي او السياسي أو الحدودي... الخ.
مظاهر الارتداد
على مستوى الفكرة عمدت lt;lt;ثورة الفاتحgt;gt; الى التحوّل من الناصرية إلى lt;lt;القذافيةgt;gt;، وحاولت ان تكرس هذا التحول من خلال أمرين على الأقل: الاول يتمثل في محاولتها فرض الكتاب الاخضر بأجزائه الثلاثة فرضا وقسرا، وتقديمه كمنقذ للبشرية ومخلص لها من آثامها وأخطائها وآلامها تحت ما سمي ب lt;lt;النظرية العالمية الثالثةgt;gt;. والامر الثاني يتمثل في تقديس الفرد القائد وإعلائه على حساب كل شيء وبشكل مخالف لما اتسم به الرئيس عبد الناصر وما مارسه في حياته. وفي الأمرين هناك تناقض مع الفكرة الناصرية وجوهرها.
على المستوى التنظيمي شهدت الحركة الناصرية على امتداد الوطن العربي وفي مختلف الساحات العربية تدخلات مريبة وفاضحة ل lt;lt;ثورة الفاتحgt;gt; ساهمت في المزيد من بعثرتها وتفتيتها وتهميش حضورها ومحاصرة فاعليتها وابتلاع دورها. بل يمكن القول ان اقسى انواع التدخلات واقسى انواع المعاناة التي عرفها الناصريون كان مصدرها من حيث المبدأ، lt;lt;قيادة الفاتحgt;gt;. فقد استُخدم العامل المادي والامكانات المالية بشكل سلبي جدا أثر على عرقلة مسيرة التنظيمات الناصرية وافسد العديد من الحالات الواعدة. بل ان الدور الليبي في عملية توحيد الناصريين على امتداد الوطن الكبير او على صعيد اي قطر عربي كان يسير في الاتجاه المعاكس للتوحيد والمتناقض مع وحدة الصف (يمكن لمزيد من الاطلاع مراجعة كتاب التشكيلات الناصرية في لبنان).

على المستوى السياسي فإن lt;lt;ثورة الفاتحgt;gt; امتازت في الكثير من الاوقات بالاستعراضية وردات الفعل والتخبط والانفعالية، الامر الذي جعلها في منأى عن التوجه الذي اعتمده الرئيس عبد الناصر وكرسه في توجهه.
على المستوى الوحدوي فقد عمدت قيادة lt;lt;الفاتحgt;gt; الى انتهاج خطوات وحدوية ارتجالية انتقائية غوغائية شعبوية... أبعدت الفكرة عن الواقع وكرست المزيد من الاحباط والتراخي والتجزئة والكيانية...
على المستوى القومي فقد غالت الثورة في إبراز الكيانية الليبية وبلورتها لتصل الى مواقف تتنافى مع أبسط المشاعر القومية. وذلك واضح في العديد من التوجهات التي اعتمدتها lt;lt;الثورةgt;gt; ضد العروبة والدول العربية والاتجاه الوحدوي كانتماء وقضية من موقع تمنين العرب بما قدمته هذه الثورة. وفي هذا الاتجاه تنكر فاضح للتراث القومي العربي لجمال عبد الناصر. فرغم كل الضغوطات التي تعرضت لها مصر ايام الرئيس عبد الناصر ورغم كل انواع المحاصرة والتضييق من قبل الانظمة التقليدية والرجعية وlt;lt;الوطنيةgt;gt; فإن الرئيس عبد الناصر لم يتزعزع ايمانه بقوميته وأمته من جهة، ولم يُحمل الامة وجماهيرها اوزار حكامها من جهة اخرى. وبقيت فكرته حول الدوائر الثلاث في lt;lt;فلسفة الثورةgt;gt; واضحة كمرشد للعمل.

كثيرة هي المسارات والمجالات التي تبين مدى ابتعاد lt;lt;الفاتحgt;gt; عن منبته وشدة ارتداده عن هويته وقوة تناقضه مع منطلقاته وطروحاته الناصرية، الامر الذي جعل العروبيين عامة والناصريين خاصة في وضع اكثر تأزما وآفاق اكثر انغلاقا. وليس أدل على ذلك من وضعية القوى الوحدوية وأحزابها عامة والناصريين بينهم خاصة في هذه المرحلة من تاريخنا. حيث يزداد التراجع الفكري والتنظيمي ويهفت الحضور السياسي وتذوي الفاعلية الشعبية بالرغم من تعاظم المخاطر التي تهدد الامة وتستبيحها.
ان المسار الذي اتخذته lt;lt;ثورة الفاتحgt;gt; جعلها بحق في تناقض مع فكرتها وفي منأى عن هويتها. الامر الذي يدفع لاعادة الاعتبار للنقد والمراجعة النقدية. خاصة ان الناصرية لم تزل تختزن في جوهرها الكثير من عوامل القوة والاستمرار.


() استاذ جامعي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف