عادل حمودة: حـسن أبـو باشـا!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
السبت: 24. 09. 2005
لا يقف قطار الصعيد السريع المسمى المجري عادة إلا في محطات المدن الرئيسية.. لكنه.. في ذلك اليوم كان يقف في محطات صغيرة.. لا يقف عليها القطار المسمي القشاش.. وكان السبب مدهشا.. أن واحدا من أهم ركابه هو مدير مباحث أمن الدولة.. وسر الدهشة أن وجود راكب بهذه الأهمية يجبر سائق القطار علي مزيد من السرعة.. لا للتلكؤ هنا وهناك.
كان ذلك اليوم هو يوم الأحد11 أكتوبر1981.. بعد خمسة أيام من اغتيال الرئيس أنور السادات في حادث المنصة.. وبعد يومين من مجزرة عيد الأضحي التي وقعت في مدينة اسيوط التي استدعت سفر الرجل الأول في جهاز أمن الدولة للسيطرة علي المدينة التي لم تفرح ببهجة عيد الأضحي بسبب عمليات القتل العشوائي التي قامت بها التنظيمات الدينية الإرهابية هناك.. وبعد أن نجح الرجل في مهمته الحرجة.. ركب القطار عائدا إلي القاهرة.. لكن.. بعد أن صدرت التعليمات إلي سائقه بالتوقف في محطات بعينها.. ليصعد إلي القطار ضابط مسئول ويعطي آخر تقريرا عن الموقف وصل من أسيوط لراكب القطار المهم.. اللواء حسن أبوباشا.
أنا ايضا كنت في ذلك القطار الذي قطع المسافة بين أسيوط والقاهرة في سبع ساعات.. لافي خمس ساعات كما اعتاد.. وتصادف أن كنت أجلس في مقعد قريب منه.. ورأيت كل ما كان يجري.. ولولا تلك الصدفة ما عرفت شخصية الرجل.. وهي شخصية خفية.. لا تنشر صورتها.. وينطق الناس باسمها همسا.. ويدعون الله ألا يضعها في طريقهم.. طبقا للمثل الشائع: أبعد عن الشر وغني له.
كانت المرة الأولي في حياتي الصحفية التي أري فيها حسن أبوباشا.. ولم يكن من الممكن أن ابتعد عنه وأغني له.. فقد وضعته الظروف الصعبة في طريقي وأنا مثله عائد من أسيوط بعد أن قمت بتغطية ما جري هناك.. قبل أن تجف دماء الضحايا.. وتكف طلقات الرصاص عن الدوي.. كما أن الرجل كان علي وشك أن يصبح وزيرا للداخلية بعد نجاحه في مهمته بشهور قليلة.. في يناير1982.
لقد بدأت الأحداث الدامية في أسيوط لحظة صلاة العيد.. في الساعة السادسة وخمس دقائق.. نزل بعض الشبان من سيارة بيجو(404) بيضاء.. مدهونة بطلاء أزرق رديء.. امام مسجد ناصر وراحوا يطلقون النار علي رجال الأمن وهم في عرض الطريق.. ومن داخل المسجد سمع نائب مدير الأمن اللواء حسن علي سليمان صوت الرصاص فقفز من مكانه وخرج ليأمر جنوده بالتعامل مع الجناة الذين فروا هاربين.. وقبل أن ينقل الرجل الجرحي سمع نداء لاسلكيا بالتوجه إلي مديرية الأمن لوقوع هجوم مسلح عليها.. وقبل أن يصل إلي مكان الهجوم الجديد تلقي إشارة أخري بهجمات مسلحة علي أقسام الشرطة وباقي أجهزتها.. ولم يتمكن هو ومدير الأمن اللواء محمود يوسف من مبني المديرية.. فقد كانت تحت الاحتلال العسكري.. ويسيطر عليها إرهابيون يرتدون لباس عساكر الجيش.. لكنهم.. سرعان ما تركوها ليختبئوا في بيوت مجاورة.. محتمين بأهلها الذين تحولوا إلي رهائن ودروع بشرية.. وهنا جاء دور حسن أبوباشا الذي وصل بعد ساعات قليلة في طائرة هليكوبتر.. وجلس في هدوء ليأمر رجاله بالصبر والحكمة وطول النفس.
لم يتصرف حسن أبوباشا بعنف.. وإنما ببرود قاتل.. أغلق محابس المياه علي البيوت المختبيء فيها الإرهابيون.. وقطع الكهرباء عنها.. وأنتظر خروج الفئران المذعورة من جحورها.. وكان هدفه ألا يزيد من حجم الخسائر البشرية التي نتجت عن تلك العملية.. قتل عميد شرطة.. وثلاثة ضباط برتبة ملازم أول.. و62 جنديا.. و21 مواطنا.. وإصابة15 ضابطا و190 جنديا و32 مواطنا.. بخلاف الخسائر في مباني وسيارات الشرطة.
بعد ساعات طوال من التريث والسكون خرج الجناة رافعين أيديهم.. وكان عددهم84 شابا.. تتراوح أعمارهم ما بين18 و26 سنة.. منهم45 طالبا.. و3 تجار.. و3 مدرسين.. و9 حرفيين.. وتولي قيادتهم امراء تنظيم الجهاد في الصعيد: محمد عصام دربالة, وفؤاد احمد حنفي, وعاصم عبدالماجد, واسامة ابراهيم حافظ, وحمدي عبدالرحمن, وطلعت فؤاد قاسم, وعلي الشريف.. وكانت خطتهم الاستيلاء علي مدينة أسيوط وعزلها.. تمهيدا للاستيلاء علي باقي مدن الصعيد.. ضمن مخطط الثورة الشعبية الإسلامية التي كانت لحظة انطلاقها هي نفسها لحظة نجاح خطة اغتيال أنور السادات.
في تلك الظروف شديدة الصعوبة وجد حسن أبوباشا نفسه مسئولا عن أمن مصر واستقرارها وإعادة الهدوء والاطمئنان إليها.. وعندما وضعتني الصدفة علي بعد عدة أمتار منه في القطار العائد إلي القاهرة لم أستطع أن امنع نفسي من الاقتراب منه والتحدث إليه برغم ان ملامحه الجادة ونبرات صوته الثقيلة ونظراته الباردة لا توحي بسلامة المغامرة.. خاصة في تلك اللحظة التي كان فيها رصاص رجاله المحيطين به ساخنا في منتصف مواسير البنادق لا يحتاج لمزيد من الاستنفار والاستفزاز.
كانت المرة الأولي التي أسمع فيها من رجل أمن: إن الإرهاب صناعة سياسية وليس مواجهة أمنية.. وإن الذين ربوا الوحش وسمنوه دفعوا حياتهم ثمنا لتلك الجريمة الرسمية التي دبرت في كواليس السلطة الرسمية.. ولم يكن من الممكن أن اسمع مثل هذه الكلمات الناضجة دون أن انشرها برغم تحذيرات صاحبها وهو ما أثار غضبه مني.. ولم أبال بغضبه.. فالرأي إذا لم ينشر تحول إلي خنجر في لحم صاحبه.. يؤلمه.. ويدميه حتي يخرج منه.. لكني.. اعترف أن الرجل لم يحول غضبه إلي عقاب.. وكان بحكم منصبه القوي يقدر ويستطيع.
لم أحاول الاتصال به طوال وجوده في منصب وزير الداخلية ليس خوفا منه وإنما حساسية مني.. فقد تعلمت من مهنتي أن المسئول مقيد اللسان وهو في مكانه.. وان لسانه لا تفك عقدته إلا اذا أصبح مواطنا عاديا.. و هو ما حدث بالفعل.. فقد رحت أطرق بابه في اليوم التالي لخروجه من السلطة.. مستعينا به في الكتب التي نشرتها قبل غيري( عن عملية اغتيال انور السادات وقصة تنظيم الجهاد والأسباب الاجتماعية والسياسية للإرهاب والتطرف الديني وشخصية سيد قطب الذي يوصف بالأب الروحي لتلك التنظيمات).. ولفت نظري أن الرجل يعيش في شقة متواضعة جدا.. حجرتان وصالة.. في بيت قديم.. تغطيها الكتب والجرائد والملفات والتقارير والملاحظات التي يدونها بنفسه عن مشواره الأمني الطويل الذي بدأ في عام1945.
كان رأيه أن المتطرفين الشبان هم مرضي بالعزلة والأفكار الدينية الخاطئة ولا يمكن علاجهم إلا بالحوار المباشر معهم كما يفعل الأطباء النفسيون مع المصابين بالبارنويا والفصام والوسواس القهري.. وكان رأيه أن اخطر من الذين يطلقون الرصاص الذين يزرعون تلك الأفكار.. وبرغم ذلك لا يعاقبهم القانون علي ما يفعلون.. وحاول أن يفتح حوارا في السجون مع الذين قبض عليهم.. وسعي إلي تغذية رجاله بالكتب النفسية.. ومعرفة الفروق غير المنظورة بين تنظيم وآخر.. وكان ذلك مهمة شاقة في وقت كان عدد هذه التنظيمات يتجاوز الأربعين.. وما هو مخفي عنهم أكبر مما كان ظاهرا.. وقد أوقف الذين جاءوا بعده تلك السياسة العلاجية.. واستخدموا سياسة العنف والقتل.. فكان أن تضاعفت حالات الموت.. ومحاولات الاغتيال.. وتفجرت الدماء من مختلف الشرايين أنهارا وأنهارا حتي كانت مبادرة إيقاف العنف الأخيرة التي أعادت امراء الإرهاب بعد سنوات طويلة إلي الحياة الطبيعية من جديد.
وكان رأيه أن الإرهاب ليس صناعة مصرية خالصة وإنما هو خلية نشيطة في اجسام مضادة للحياة تنبت في بيئة إقليمية ودولية تفرض تعاونا متعدد الأطراف لمواجهته.. والتخلص منه.. وهي نظرية لم تجد من يتحمس لها إلا فيما بعد.. وقد عاش حسن أبوباشا ليجدها مسيطرة علي غالبية دول العالم بعد أن وقعت كثير من الفؤوس في كثير من الرؤوس.. وكاد هو نفسه ان يكون أحد ضحاياها.. فقد تعرض لمحاولة اغتيال كادت تقضي علي حياته لولا ستر الله وقوة إيمانه.. وبقي الرجل علي قيد الحياة يواجه الإرهاب بخبرته بعد أن واجهه بجسده.. ورأيته آخر مرة في مستشفي زوج ابنته الدكتور حسام بدراوي.. وكانت المرة الأخيرة التي رأيته فيها.. لكن قبل أيام وجدته يتصل بي تليفونيا ليسأل عني.. ولم اكن أعرف أنها كانت مكالمة أخيرة.. مكالمة وداع.