جريدة الجرائد

د. عبدالله المدني: «فرقة مريم».. نموذج جديد للأمر بالمعروف!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الأحد: 25. 09. 2005

المطالبون بدولة القانون والمؤسسات واحترام حقوق الإنسان في بعض المجتمعات الإسلامية هم أول من يعتدون على هذه المفاهيم حينما لا تتوافق مع أجنداتهم وتفسيراتهم الخاصة لها. نقول ذلك على ضوء ما حدث مؤخراً في ولاية جامو وكشمير الهندية حينما قامت الأحزاب السياسية والحركات الجهادية الانفصالية المناوئة للحكم الهندي، والتي ما برحت تتهم نيودلهي بخرق حقوق الإنسان، بإعلان الإضراب وقيادة المظاهرات وإصدار البيانات النارية رداً على اعتقال الشرطة المحلية للسيدة "آسيا عندربي" وست من زميلاتها بتهمة الاعتداء على الأشخاص والممتلكات والحريات الخاصة والحلول مكان الدولة في تشريع الأحكام وتطبيقها بالقوة و الإكراه.
و"آسيا عندربي" لمن لا يعرفها سيدة كشميرية تقود ما يعرف بمنظمة "دوختراني مللت" أو "بنات الأمة" التي أنشأتها في سريناغار في منتصف الثمانينيات مع انتقال زخم الجهاد من أفغانستان إلى كشمير لتقوم بدور اجتماعي وتعبوي مواز لدور الحركات الجهادية السياسي والحربي. وبسبب نشاطها هذا، وما قيل عن تلقيها لأموال من أجهزة الاستخبارات الباكستانية دخلت المعتقل لعام واحد، وسمحت لها السلطات حينذاك أن تصطحب معها طفلها الرضيع لاعتبارات إنسانية.
ومن رحم هذه المنظمة المحظورة منذ عام 2002 ظهرت في السنوات الأخيرة "فرقة مريم" المكونة من سيدات (وليس آنسات) متشحات كلياً بالسواد ويلبسن النقاب المشابه لنقاب النساء الملتزمات في السعودية والخليج، لتقوم بدور الشرطة الدينية أو الوصية على الأخلاق من خلال حملات جماعية وتخصيص أرقام هواتف لمن يريد الإبلاغ عن المنكرات.

إذن فنحن أمام نمط جديد غير مسبوق من هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أعضاؤها نساء بدلا من الرجال وشخصيات منسوبيها غير معروفة بسبب النقاب وشروط الانضمام إليها تستبعد الآنسات بدعوى أن المهام المنوطة بها قد يخدش حياءهن أو يعرفهن على ما لا يجب معرفته قبل الزواج، ناهيك عن أن اسمها مستمد من اسم والدة السيد المسيح وليس من أسماء أمهات المؤمنين مثلا.

أما لجهة أنشطتها فقد بدأت بمحاولة إكراه النساء اللواتي يفضلن ارتداء الأزياء المحلية المحتشمة عموماً على ارتداء النقاب والبراقع وما يصاحبها من ملابس سوداء غير مألوفة في ثقافة مسلمي جنوب آسيا. وفي هذا السياق سجلت حالات قامت فيها عضوات الفرقة برش الأصباغ والوحول والأحماض على النساء الرافضات. وفي مرحلة لاحقة تركز نشاط المجموعة على مهاجمة صالونات الحلاقة النسائية ودور السينما المختلطة، غير أن ما فجر غضب السلطات عليها مؤخراً من بعد صمت وتساهل طويلين هو ارتكابها لاعتداءات جسدية على رواد المطاعم ومقاهي الإنترنت وقيامها بتحطيم محتويات الحانات الملحقة بالفنادق ومحلات بيع المشروبات الكحولية.

وفي تصريحات لها قبل اعتقالها قالت "آسيا عندربي" إنها وأخواتها في فرقة مريم لن يرحمن مرتكبي الموبقات أو من يتستر عليهم، متهمة الفنادق بتشجيع شرب الخمور أو"أم الكبائر" وتسهيل الزنا، ومقاهي الإنترنت بتسهيل اللقاءات العاطفية بين الجنسين، والحكومة المحلية بعدم القيام بواجبها في حماية الأخلاق وردع المتجاوزين. أما السلطات فتقول إنها لا تستطيع أخذ الناس بالشبهات أو محاسبتهم على نواياهم وإنما تتحرك فقط حينما تتوفر أدلة دامغة على خرق القانون والمحظورات، نافية ما زعمته "آسيا عندربي" من تشجيعها للمحرمات بهدف إفساد أخلاقيات المجتمع الكشميري بدليل أنها حظرت ممارسة البغاء في كل أنحاء الولاية وضبطت حتى الآن ما لا يقل عن ثمان شبكات تتاجر في الرقيق الأبيض.

وتذكرنا هذه الحالة بسابقة يتيمة حدثت في كشمير قبل نحو سبعة عقود حينما قام حلاق مسلم يُدعى "سبحان حجام" بإطلاق حملة اعتداءات وتحريض فردية ضد المومسات ودور الدعارة، كان من نتيجتها أن اعتقل وأودع السجن وغُرم. لذا لم يكن غريباً أن تحتفل منظمة "دوختراني مللت" قبل فترة قصيرة بذكرى هذا الرجل وتسبغ عليه أوصاف البطولة.

والجدير بالذكر أن ما تعتبره فرقة مريم موبقات عاد إلى الظهور تدريجياً في السنوات الأخيرة في كشمير كنتيجة لتحسن الأوضاع الأمنية نسبياً وبالتالي انتعاش الأعمال والحركة التجارية من بعد سبات فرضته الأحوال الأمنية المضطربة

وعمليات الفصائل الجهادية المدعومة من باكستان ابتداء من أواخر الثمانينيات.

ولا يكتمل الحديث هنا دون الإشارة السريعة إلى سيرة "آسيا عندربي" التي تكشف فصولها كيف أن فتاة ذكية وابنة طبيب مرموق وخريجة علوم تحولت من بعد قراءة كتاب يتيم حول "المجاهدات في الإسلام" إلى إنسانة متشددة دينياً إلى درجة أنها أقسمت ألا تتزوج سوى "مجاهد"، وهو ما تحقق لها لاحقاً باقترانها بالمدعو "محمد قاسم" المعتقل حالياً بتهمة القيام بأعمال إرهابية ضمن خلية تابعة لتنظيم "جماعة المجاهدين". وهي لئن دشنت تحولها الفكري بإنشاء "دوختراني مللت" كمظلة لأعمال اجتماعية مثل تزويج الفتيات الفقيرات ومحاربة غلاء المهور والضغط من أجل الفصل الجنسي في الحافلات العامة، فإنها سرعان ما حولت أنشطة منظمتها إلى وجهات أخرى مثل قيادة الحملات ضد عرض الأفلام التي تتضمن مشاهد عاطفية مثيرة للغرائز وحملات أخرى لتلطيخ أفيشات الأفلام السينمائية بالأحبار ولمعاقبة اللواتي يدفعهن الفقر والحاجة إلى بيع أجسادهن. في هذه الأثناء دأبت المنظمة أيضا على العمل كقناة سرية لنقل رسائل الجماعات الانفصالية وتوجيهاتها، وصولا إلى تأييد زعيمتها علنا لأعمال العنف ضد الحكم الهندي وان لم يثبت مشاركتها فعليا في الجهاد المسلح.

ومن مظاهر التحولات التي طرأت على حياة هذه السيدة تأثرها بفكر تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان" إلى الحد الذي جعلها تصرح أنها تربي ولديها على هذا الفكر العنيف كي يغدوا في المستقبل صنوين لبن لادن أو الملا محمد عمر، بدلا من أن تربيهما على اقتفاء سيرة جدهما الطبيب الذي كان ينقذ الناس من الموت أو يخفف آلامهم.

هذا مثال إضافي نهديه للبعض ممن يتبنون اليوم مشاريع في البرلمانات الخليجية لتأسيس هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوقت الذي تحاول فيه الدول التي ابتليت بمثل هذه المؤسسات تحجيمها.. بل التخلص منها حماية للقانون ومنعا للفوضى.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف