قناة التسامح العربية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
جهاد فاضل
يشق مبدأ التسامح طريقه بصعوبة في الحياة العربية المعاصرة. فمع انه سجل لدينا بعض النجاحات في العام المنصرم، إلا ان من الواضح انه يلاقي مقاومة ضارية من كثيرين. ذلك ان الثقافة السائدة عندنا هي ثقافة اللاتسامح ، أي ثقافة العنف وادعاء التفرد بامتلاك اليقين، وعدم الاعتراف بالآخر، والسعي لإقصائه وإلغائه وتهميشه، واعتباره مجرماً أو آثماً مستوجب الاستئصال.
وقد شاعت في التاريخ العربي الحديث، وفي فكرنا السياسي علي الخصوص، عبارات من نوع لا صوت يعلو علي صوت المعركة ، و الزعيم الأوحد وهي عبارات تسيء أول ما تسيء الي العقل، وتحد من نفوذه، وتقطع الطريق علي النقد والمساءلة، وكلها من لزوميات المجتمعات الحديثة. هذا مع الإشارة الي ان المعركة التي أُحيطت بمثل هذا الإكبار، وطُلب من الجميع أن يُخفضوا أصواتهم لصالح صوتها، لم ينجل غبارها يوماً عن نصر. فالهزائم، منذ رُفع هذا الشعار تطاردنا بلا كلل. أما الزعيم الأوحد ، وأي زعيم أوحد آخر، فلم يأتِ لشعبه إلا بالويلات والكوارث، وترحم الجميع علي العهود التي سبقته.
علي أن من الغبن رد ثقافة اللاتسامح الي فترة قريبة نسبياً منا. فهي في الواقع ثقافة قديمة. ففي تاريخنا الغابر نماذج كثيرة عليها، منها أن ثلاثة خلفاء راشدين لقوا حتفهم مقتولين دون ان تفلح قيم التسامح التي بشر بها الاسلام الأول، وبخاصة القرآن والسنة وبعض التطبيقات للخلفاء الراشدين، في إلغاء حالات اللاتسامح والعنف وإقصاء الآخر وتأثيمه وتجريحه. ومن يراجع الكتاب للشاعر السوري أدونيس، وهو يقع في ثلاثة أجزاء، يعثر علي كل جرائم الرأي والفكر الحر التي وقعت علي مدار التاريخ العربي. ويري أدونيس أن جرثومة الاستبداد مستبدة بجبلتنا، ومن المستبعد تخليص جينات العربي منها. ومع ان نظريات أدونيس القائمة علي الانتقاص من انسانية العربي، ومن فطرته علي الخصوص، تقوم علي أساس لا علمي، إلا أنها جديرة بأن تحفزنا علي القيام بعمليات نقد قاس للذات، من أجل إلحاق هزيمة ماحقة بهذه الجرثومة الأدونيسية.
ومن الغبن ايضا تصوير تراثنا القديم علي انه تراث تعصب وعنف ونقيض للتسامح والاعتراف بالآخر، علي النحو الذي صوره أدونيس فقد تحدث القرآن الكريم عن حرية التدين في نحو مئة آية وهو ما يؤكد ان التسامح شكل الأساس في الإسلام وإن لم يرد ذكره لفظاً في القرآن الكريم. ولكن الشريعة ذهبت الي ما يفيد معناه. وقد جاء بما يقاربه أو يدل علي معناه حين تمت الدعوة الي التقوي والتشاور والتآزر والتراحم والتعارف، وكلها من صفات التسامح مؤكدة حق الاختلاف بين البشر.
ثم ان كتب اللغة ومعاجمها المعتبرة التي استعان بها الكثير من مفسري القرآن تضع لفظ التساهل مرادفاً للفظ التسامح . وفي لسان العرب يشير ابن منظور الي التسامح والتساهل باعتبارهما مترادفين. ويعرّف الحنيفية السمحة بالتي ليس فيها ضيق او شدة .
ويقول الفيروز بادي في القاموس المحيط : المساهلة كالمسامحة، وتسامحوا: تساهلوا، وتساهل: تسامح، وساهله: ياسره.
وكان التسامح الذي مارسه الرسول صلي الله عليه وسلم احدي وسائل ازدهار الحضارة العربية الإسلامية. وقد كان سلوك النبي مع قريش وأهل مكة بعد فتحها، يؤكد ان القاعدة في الإسلام هي التسامح. أما العقاب الذي يكون هدفه تربوياً أو إصلاحياً، فهو الاستثناء. ولو كانت القاعدة عكس ذلك لتمت مقاضاة ابي سفيان وهند وغيرهما.
أشرنا الي كل ذلك لنقول ان أسهل الطرق الي الله هي الشريعة السمحة السهلة. وقد ساهم الرسول صلي الله عليه وسلم في عقد مؤتمر للديانات السماوية الثلاث في يثرب ضمن حدود الموادعة وعدم الاحتراب. وهو ما حدا بالنصاري الي ان يحكموه بينهم بعدما رأوا حرصه علي التمسك بالعدالة. وإذا كان الموقف من اليهود قد تغير بعد ذلك، فبسبب نكثهم بالعهود ومحاولة دق أسافين بين الأوس والخزرج، فضلاً عن تحرشاتهم بالمسلمين واستفزازهم.
ورغم كل ذلك بقيت المباديء الإسلامية هي الاعتراف بالآخر والتعايش معه والتسامح تجاهه، وليس إلغاءه او استئصاله، فإذا وصلنا الي زماننا الراهن، وجدنا هذه الأفكار المضيئة تعم المجتمعات البشرية كلها تقريباً. فهناك إجماع اليوم علي الأخذ بمباديء الديمقراطية والحوار بين البشر. وفي طليعة هذه المباديء الدفاع عن فكرة التسامح والنظر إليها علي انها من صميم مؤسسة الديمقراطية. ناهيك عن ان العقل البشري مجبول علي الاختلاف والتباين، وان الكون مطبوع علي التنوع. بل ان الاختلاف هو سر تقدم البشر.
لا يعني التسامح ضعفاً أو تخاذلاً امام الآخر فهو ينطوي علي فضائل وكرامات لا حدود لها. بداية يعني إجلالاً للضمير، وتوقيراً للحقيقة، ونشدانا لها، واعتبار انها مشاع بين البشر جميعا، وان احدا لا يمتلكها وحده. فكلنا معرض للخطأ، بل ان الخطأ من طبيعتنا كبشر، وان أقرب السبل الي الموقف العقلاني المستنير هو الحوار مع الآخر، والإصغاء إليه بتواضع وإنكسار لعل لديه ما يغير من قناعاتنا، أو يلغيها أصلاً. ولعل قناعاته أفضل وأسلم، فالمعرفة نسبية، والعلم ناقص، وقد نكون منهما في القشور، وقد يهدي احدهم الينا عيوبنا، ورحم الله امرءاً اهدي اليّ عيوبي، كما كان يقول الخليفة عمر بن الخطاب.
ولكن الوصول الي مثل هذه الأفكار في مجتمعاتنا دونه الأهوال والأخطار. ذلك ان التربية التي خضعنا لها منذ قرون، تقوم علي التعصب الأعمي للموروث، وعلي ان الآخر مخطيء بلا جدال، بل خصم وعدو جدير بالاستئصال عندما تسنح الفرصة. وقد يكون الآخر قريباً منا في الدين، او الوطن، فلا يخطر ببالنا أن نُعمل معه أدب الحوار، أو نضع أنفسنا مكانه أو نقوم بفحص قناعاتنا. وكل ما يخطر ببالنا هو دفعه بالخيانة واستدعاء مقتضياتها، نازعين من أنفسنا الرحمة التي هي جوهر العقيدة السماوية التي نؤمن بها.
يمسّ مبدأ التسامح حياتنا العامة والخاصة علي السواء مساً خفيفاً، ولا يحكمها علي النحو المطلوب. فهو يطوف في مخيلتنا ولا يجد في أرض الواقع، أو في أنفسنا وضمائرنا قبل كل شيء، مكاناً عزيزاً آمناً يلجأ إليه أو يستقر فيه. ولو بحثنا عن أسباب ذلك لما وجدناها إلا في خضوعنا لتربية لا يشكل التسامح مبدأ ذا شأن فيها. فالأصل في تربيتنا هو النظر الي الآخر من فوهة البندقية، او الكراهية الموصلة حتماً الي إعلان الحرب. وما لم تقم مؤسسات المجتمع المدني بدور في هذا السبيل، وما لم تبدأ التربية علي قبول الآخر، واحترامه، والإصغاء إلي وجهات نظره، منذ الطفولة، ومدارج المدرسة الأولي فعبثاً نضع حداً لمواضعات القرون الوسطي، والدخول في مجتمعات العالم الحديث.
لقد سادت في بيئاتنا أنماط شتي من الواحدية والإطلاقية وادعاء امتلاك الحقيقة وكون الآخر يعيش في جحيم من الضلال والشقاوات، والي درجة الدعوة الي تقويم ضلاله بحد السيف. ولعل أول خطوة ينبغي ان نخطوها لنتخلص مما نحن فيه من ضعف وخطأ، هو خلخلة قناعاتنا هذه وتفحصها علي ضوء ما تختزنه حضارتنا العربية الإسلامية من صور مشرقة للتسامح وإعمال العقل. ولا بد من رياضات نفسية وروحية والإطلاع علي تجارب الغير وحضارته وثقافته. ولا بد من العودة الي تراث السلف والاستنارة به والاقتباس منه. وفي هذا التراث زاد فكري ونظري لممارسات إسلامية متقدمة، وبخاصة في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين بشأن اعتماد التسامح الذي وردت تطبيقات كثيرة له في وثائق واتفاقات ومواثيق سياسية. وقد شكلت هذه الممارسات نقيضاً لممارسات اخري لا تتسم بالتسامح باعتبارها خروجاً وتعارضاً مع هذه النصوص المقدسة، وفي طليعتها القرآن الكريم والسنة بعد الكتاب. وهناك وثائق كثيرة تشكل بمجموعها مرجعية صلبة لمناقشة الاتجاهات اللامتسامحة الأصولية التي لا تعترف بالآخر، وتسعي الي استئصاله وإلغائه.
لكل ذلك يشكل التسامح مدخلاً الي العصر ونقطة بداية للخروج من نفق التاريخ، وللخروج علي الخصوص، من أعراس الدم!.
كاتب لبناني